عصفور حي أم نسر محشو بالقش
مفاضلة طريفة بين نموذجين للمثاقفة: نموذج العصفور الدوري الحي والقادر على الطيران، يقابله نموذج النسر المحشو بالقش.
هذا الضرب من المثاقفة يشير إليه الشاعر إدوارد فيتزجيرالد في إحدى رسائله (27 /4 /1859)، معلقا على ترجمته لرباعيات الخيام بقوله:
"أتصور أن قلة قليلة من المترجمين عانت في الترجمة ما عانيت لكي لا تكون ترجمة الرباعيات حرفية. ولكن مهما بلغت التكاليف ينبغي أن يظل الشيء حيا.. العصفور الدوري الحي أفضل من النسر المحشو بالقش"(1).
وقد أطلق فيتزجيرالد على هذا النوع من الترجمة ذات الطابع التحويلي مصطلح (Transmogrification) أي التحويل بفعل المثاقفة الخلاقة الشبيهة بالسحر، وأثرت هذه الترجمة التحويلية على حركة الحداثة في العالم الأنجلوسكسوني ممثلا بالشاعرين عزرا باوند وت. س. إليوت.
وفي عام 1985 التقيت عمر باوند ابن الشاعر عزرا باوند وأهداني كتابه اللافت الذي تضمن قصائد مترجمة عن العربية والفارسية (2) وقد استلفتني في هذه المختارات المشفوعة بمقدمة بديعة عن اللغة العربية أشار فيها إلى أنها قادرة ببساطة على التعبير عن رواية Finnegan’s wake لجيمس جويس، قوله إنها ترجمة تحويلية الطابع بامتياز. والحال أن المختارات تعيد مجددا تعريف الأصالة (بعيدا عن فكرة الأصل) في إطار مثاقفة ثنائي الاتجاه.
ولإيضاح المقصود بذلك أقتطف وصف سوزان بينيت في كتابها "الأدب المقارن: مقدمة انتقادية"(3) لنظرة جاك ديريدا إلى المثاقفة ممثلة بالترجمة. تقول: "يعبث ديريدا بفكرة الأصل والترجمة، ويشن حملة على فكرة أولوية الأصل. فالأصل كما يراه ليس أصلا على الإطلاق، بل إعادة نظر بفكرة.. بمعنى أنه هو نفسه باختصار، ترجمة".
وأما النتائج المنطقية لتفكير ديريدا حول الترجمة فتكمن في "إلغاء الثنائية بين الأصل والترجمة، بين المصدر والنسخة، وبالتالي فهو يضع حدا لفكرة تصنيف الترجمة في موقع ثانوي".
وهذا الإلغاء للثنائية، الذي قد يبدو للوهلة الأولى موقفا نقديا لا يخلو من الغلو، يعني على حد تعبير المصدر نفسه، التخلص من فكرة اعتبار الإخلاص الزوجي للأصل، استعارة مجازية تصلح للتعبير عن الترجمة وضرورة تحليها بوفاء العبد للسيد. وفي المعرفة الجذلى (Gay science) يذهب نيتشه إلى حد أبعد، فهو يرى في الترجمة "شكلا من أشكال الغزو".
وإذا نظرنا إلى هذا الرأي من منظور المثاقفة، أو علاقات التأثير المتبادل بين الثقافات فلا بد أن يستدعي ذلك مصطلح "الاستحواذ" Appropriation على الفور. ما هو الاستحواذ؟
يقول هنري جيمس في رسالة أرسلها إلى صديق له، شارحا المزايا التي يتمتع بها المرء إذا ما ولد أميركيا "باستطاعتنا (كأميركيين) التعامل بحرية مع أشكال حضارة لا نملكها، فنختار ونستوعب ونتمثل، وباختصار نعتبرها ملكا لنا حيثما نجدها"(4).
والحال أن "الاستحواذ" ليس بالمصطلح الذي يقتصر على الأدب الأميركي، بل إن وجوده يعود إلى مهاده الأوروبي في كتاب "مصادر هايدغر السرية"(5) الذي يدور حول المؤثرات الآسيوية الشرقية على الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، وهي مؤثرات يبرهن هذا الكتاب على أنها مستمدة من أفكار الفيلسوف الياباني Nishida في الوجود والعدم، ولكن هايدغر لم يقر بذلك علانية. وهذا يحيلنا إلى النزعة المركزية الأوروبية Eurocentrism وإلى إطارها الأميركي الأوسع مدى والأشد تأثيرا في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
آية ذلك أن المثاقفة التي نختزلها في فعل الترجمة، هي ضرب من المقابسة ثنائية الاتجاه. وسأحاول هنا أن أعلق Suspend مؤقتا مناقشة نقد إدوارد سعيد المهم والمعتمد على فكرة فوكو حول تلازم السلطة والمعرفة. ففي رأيي أن من المهم في تناولنا إشكاليات المثاقفة الثلاث: "النظرية، السياق، المصطلح" ألا نسمح قبل كل شيء بتحول تجربة نقل المصطلح الغربي إلى العربية، إلى ممارسة أصولية Fundamental تحتفي بالحرفية العمياء، بل أن نسعى غلى تحويل تلك التجربة إلى ممارسة تأسيسية Founational تنزع هالة القداسة المطلقة فتنتقد وتعترض وتصحح وتبتكر وتربط حيثما يكون الربط ممكنا مفهوميا بين المصطلح العربي والمصطلح الغربي بلدا من الإذعان الميكانيكي لتقليد وفاء الزوجة للزوج والعبد للسيد.
نشر طه حسين كتابه "ألوان" الذي تضمن دراسة مثيرة عنوانها "الأدب العربي بين أمسه وغده" لم يلتفت النقد العربي إلى أهميتها الاستثنائية. وقد أشار فيها إلى مصطلح (الثابت والمتحول)
إشكاليات المثاقفة
ثمة إشكاليات في النظر والعمل، يتعذر الكلام على سيرورة نقل المصطلح الغربي إلى اللغة العربية دون الوقوف عندها، وأعني بالإشكالية هنا وجود التباس يدرك المتحاورون أنه ما زال التباسا معلقا.
وتتصل الإشكالية الأولى بعلاقة المصطلح الأدبي بالنظرية. فالنظرية، مهاد المصطلح الأدبي ومجاله الحيوي، أكدت من خلال بعض ترجمات الكتب التي أنجزت خلال النصف الأخير من القرن الماضي وكانت تدور حول "البنيوية" على سبيل المثال لا التحديد، ومن خلال الكتب العربية التي تعرض لمذاهبها العديدة، هيمنة ثلاثة عوامل أساسية حددت هذه الخيارات:
العامل الأول هو سيطرة الدُّرْجة (الموضة) لى اختيار نظرية بعينها. وإذا كان هذا الخيار صائبا من حيث القيمة الثقافية والمعرفية على الأقل، فإن كونه لا يستجيب بالضرورة لحاجات معرفية (إجرائية) تتصل بواقع الثقافة العربية في زمان ومكان محددين، ولا تردفه تعليقات أو شروح نقدية خاصة بالباحث أو المترجم العربي، أو اعتراضية مستمدة من مذاهب نقدية أوروبية أو أميركية مغايرة، فهو الخيار الذي تفرضه بنية أيديولوجية جامعة مانعة تُقبل وتتبنى بقضها وقضيضها.
وأما العامل الثاني فيتمثل في هيمنة النزعة المركزية الأوروبية Eurocentrism التي تصدر عن فرط إعجاب يتعدى مسألة التأثر بالآخر الغربي إلى محاولة تقليده تقليدا حرفيا، فتتحول إلى أصولية عمياء تتبنى المصطلح الغربي دون الاهتمام بمدى صلاحيته للاستعمال في سياق ثقافي عربي محدد بزمان ومكان.
وهذا الافتتان المفرط بالآخر ينطوي على التباس شديد. فأن تكون الآخر، يعني في المآل الأخير، ألا تكون ذاتك. فكيف يكون المرء ذاته وغير ذاته في آن؟
كما أن هذا الضرب من الافتتان هو بمثابة كابح للحس النقدي، كابح غالبا ما يؤدي إلى نشوء أصولية حداثية مغايرة للنزعة النقدية التي تقوم عليها الحداثة، وهي أصولية مغايرة تمثل الوجه الآخر لأصولية نكوصية تدور في فلك جوهرانية ماضوية على صعيد التعامل مع التراث العربي.
وأما العامل الثالث فيتصل بالعلاقة بـ"البارادايم "Paradigm، أي الصيغة المعرفية المعتمدة والتي يحدد المركز المهيمن بموجبها الحقيقة العلمية التي يعرفها توماس كون في كتابه "بنية الثورات العلمية" بقوله إنها (الحقيقة) التي تفرضها الجماعة العلمية السائدة، والتي تتغير فجأة عندما تنجح جماعة علمية أخرى منافسة بتفنيدها واستبدالها بحقيقة معتمدة أخرى.
وكما هو معروف فإن مفهوم "البارادايم" صار معتمدا في مجال الإنسانيات، وهو اعتماد يسري على المركز المنتج وعلى الهامش المستهلك. هذا على الرغم من أنه ليس ملزما في هذا الحقل المعرفي شأن الحقل العلمي.
وعندما يترجم الباحث العربي المصطلح الأدبي أو النقدي فإن عليه أن ينظر نظرة نقدية إلى حدوث التغيير المفاجئ والمتعلق باعتماد (حقيقة) بديلة نجحت جماعة معرفية منافسة في جعلها "البارادايم" الآمر الناهي. فالتمييز بين "البارادايم" المسيطر في مجال الإنسانيات، وبين نظيره المسيطر في المجال العلمي، ضروري.
الإشكالية الثانية التي تواجه مترجم النظرية الأدبية ومصطلحاتها تتصل بـ"السياق "Context المحدد لمعنى النظرية والمصطلح. وبعبارة أخرى فإن نقل النظرية أو المصطلح من لغة إلى أخرى قمين بإبراز ثلاثة أنماط من السياقات: سياق لغوي، وآخر معرفي وثالث ثقافي.
السياق اللغوي يمكن التمثيل عليه بمصطلح Critique (النقد)، وهو مصطلح استعاره النقد الإنكليزي من الألمانية والفرنسية ولكنه منحه محمولا معرفياً إضافياً فأصبح يعني النقد الشامل والمشفوع بطاقة أبستمية (فلسفية) مستمدة من هيغل وماركس وفرويد وديوي ونيتشه وهيدغر وأدورنو وفوكو.
وقد أصبح هذا المصطلح يستعمل بالإنكليزية للدلالة على نوع آخر غير النقد الأدبي الشائع Criticism وأعني به النقد الذي يعود بأصوله إلى مفهوم الأزمة Crisis.
وفي ترجمته لكتاب إدوارد سعيد "الثقافة والامبريالية" اقترح كمال أبوديب كلمة "تنقيد" كترجمة ممكنة لمصطلح Critique، وذلك تمييزا له عن مصطلح نقد Criticism.
وبصرف النظر عن الرأي الشائع بهذه الترجمة، سلبا أو إيجابا، يمكن القول إنها تظهر بجلاء مشكلة المحمول المعرفي الثاوي وراء المصطلح الأدبي الغربي عندما ينقل إلى اللغة العربية.
وبهذا الاعتبار تصبح المشكلة أكثر من مشكلة لغوية. إنها مشكلة السياق المعرفي الذي يشير إلى وجود معان تراكمية للمصطلح من المتعذر أن تستدعيها ذاكرة القارئ المعرفية إذا لم يكن المصطلح مألوفا لديه أساسا.
ويضاف إلى هذين السياقين اللغوي والمعرفي، السياق الثقافي الدال على عملية موضعة هذا المصطلح المشفوع بمعان ابستمولوجية غربية المنشأ، وتوطينه في ثقافة مغايرة هي الثقافة العربية.
ولهذا السبب بالذات، أرى أن ترجمة المصطلح النقدي إلى معادله المفهومي بدلا من البحث عن معادل لغوي له، ربما كانت الحل الأفضل في كثير من الأحيان. وقبل سنوات سمعت من الدكتور جابر عصفور ترجمة مفهومية مقترحة لمصطلح "بارادايم" هي "الصيغة المعرفية المعتمدة". وأعتقد أن هذه الترجمة تحل جانبا من جوانب الإشكالية آنفة الذكر، فهي تقدم للقارئ المعنى الذي يختزل المحمول المعرفي لهذا المصطلح دونما إخلال بالدقة المطلوبة.
آية ذلك كله أن إشكالية المصطلح الأدبي كما أسلفت، هي جماع إشكاليات المثاقفة الثلاث. من هذا المنطلق تجدر الإشارة إلى أن المناهج النقدية المشفوعة بجهاز مصطلحاتها المعرفي ليست محددة – على الصعيد الإجرائي على الأقل – بحدود اختصاصية قاطعة باترة تفصل واحدها عن الآخر، بل إن حدودها متداخلة تداخلا شديدا بحيث يقال إنها مناهج ذات أنظمة معرفية كل منها مفتوح معرفيا على الآخر. كما أن النظرية النقدية، لُحْمَةُ النقد الشامل (Critique) وسداته، توصف عادة بأنها جماع نطريات متداخلة Interdisciplinary.
ويمكن التمثيل على هذا التداخل والانفتاح بمصطلح "الثابت والمتحول" Statics and dynamics، وهو المصطلح الذي أشاعه أدونيس ولكن أصوله تعود إلى أوغست كونت(6) مؤسس علم الاجتماع والفلسفة الوضعية، وقد استعاره كونت من العلوم الفيزيائية وأدخل بعض التعديلات على محموله المعرفي.
يرى كونت أن الثابت الاجتماعي Social statics يمثل السعي للوصول إلى قوانين التعايش، بينما يمثل المتغير(أو المتحول) الاجتماعي Social dynamics السعي للوصول إلى قوانين التغير التاريخي.
نشر أدونيس كتابه "الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والإبداع عند العرب" ثم أتبعه بالجزئين الثاني والثالث. وكما هو واضح فإن أدونيس اعتمد، كما فعل طه حسين من قبله، ولكن دون أن يشير إلى المصدر
غير أن وضعية أوغست كونت لم تلبث – كما هو معروف – أن تحولت إلى ضرب من العلموية Scientism أصولية المنزع والتي ترى في الحدث الاجتماعي والثقافي علما دقيقا شبيها بالعلوم الطبيعية، علما يعتبر طرق الاستدلال المستخدمة في تلك العلوم مصدرا وحيدا للتوصل إلى معرفة الإنسان والمجتمع معرفة حقيقية.
وفي عام 1952 نشر طه حسين كتابه "ألوان" الذي تضمن دراسة مثيرة عنوانها "الأدب العربي بين أمسه وغده" لم يلتفت النقد العربي إلى أهميتها الاستثنائية. وقد أشار فيها إلى مصطلح (الثابت والمتحول) على وجه التحديد، وأوضح أنه استعاره من أوغست كونت.
يقول طه حسين: "أدبنا العربي كغيره من الآداب الحية، بل كغيره من كل الظواهر الاجتماعية، مكون من هذين العنصرين اللذين كان أوغست كونت يسمي أحدهما ثباتا واستقرارا، ويسمي ثانيهما تحولا وانتقالا".
ويضيف: "والذي يمتاز به أدبنا العربي من الآداب الحية الأخرى هو أن التوازن لم ينقطع بين هذين العنصرين، ولم ينشأ عن انقطاعه جمود الأدب وموته بتغلب عنصر الثبات والاستقرار، أو فناء الأدب وتفرقه بتغلب عنصر التحول والتطور. وليس من شك في أن أحد هذين العنصرين قد تفوق على صاحبه بين حين وحين في القوة، فكان الأدب في بعض العصور مسرعا إلى التطور ممعنا فيه. وكان في بعضها الآخر مؤثرا للثبات حريصا عليه. فقد تفوق عنصر التطور بعد ظهور الإسلام بنحو نصف قرن، حين نشأ الجيل الجديد من العرب، واتصل بالأمم الأجنبية…". "ألوان" ص 17 دار المعارف بمصر.
وفي عام 1974 نشر أدونيس كتابه "الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والإبداع عند العرب" ثم أتبعه بالجزئين الثاني والثالث. وكما هو واضح فإن أدونيس اعتمد، كما فعل طه حسين من قبله، ولكن دون أن يشير إلى المصدر، على مصطلح أوغست كونت "الثابت والمتحول" محورا لمشروعه في نقد الثقافة العربية.
وفي حين استعمل طه حسين المصطلح استعمالا إجرائيا ينفتح فيه النقد الأدبي على علم الاجتماع الثقافي بملامحه المبكرة، اختار أدونيس مفهوم النقد الشامل الذي كان جماعا للنقد الأدبي والنقد الثقافي والفلسفة.
ولا شك أن هذين الاستعمالين لمصطلح كونت يؤكدان أن مفهوم النقد الشامل الذي سبره ورازه شرابي والجابري وأركون وأبو زيد ليس جديدا في الثقافة العربية. لقد غاب الاسم الاصطلاحي ولكن المسمى كان ماثلا باستمرار.
ناقد من سوريا مقيم في لندن
(1) The letters of Edward Fitzgerald, Pricneton, Princeton University Press, 1980, p. 33.
(2) Omar Pound, Arabic & Persian Poems, Introduction by Basil Bunting, London : Fulcrum Press, 1970.
(3) Susan Bassnett, Comparative Literature : A critical Introduction, Oford : Blackwell, 1993, p p. 147, 151
(4) Henry Gifford, Comparative Literature, London, Routldge & Kegan Paul, 1969, p. 86.
(5) Reinhard May, Heidegger’s Hidden sources : East Asian Influences, London and New York, routledge, 1989
(6) August Comte) 1798-1857).
(7) طه حسين، ألوان، القاهرة دار المعارف بمصر 1952 الصفحات 5 – 32.