إدوارد سعيد وثنائية الأنا والآخر
هذه الاستعارة هي بمثابة مفهوم مفتاحي يحتل موقعاً مركزياً في النقد الذي يطلق عليه مصطلح «نقد ما بعد الاستعمار»
(post colonial criticism).
ولعل من المفارقة القول أن إدوارد سعيد الذي يعد من أبرز مؤسسي هذا الضرب من النقد الذي تأخر الاعتراف الممأسس به كمنهج مؤثر في البحث حتى التسعينات، لم يتطرق إلى مصطلح «نقد ما بعد الاستعمار» بالذكر في أي من كتابيه «الاستشراق» الصادر عام 1978 و»الثقافة والامبريالية» الصادر عام 1993.
ولكن من المحقق أن «الاستشراق» هو في المآل الأخير، العمل الذي دشن ظهور هذا الضرب من النقد التعددي المنزع Interdisciplinary بمقارباته التي تمتح من معين أنظمة معرفية تسعى إلى سبر المركزية الأوروبية وإماطة اللثام عن دورها في صناعة الآخر.
ولا شك في أن استبصارات «فوكو»، وفي طليعتها تشديده على نفي براءة المعرفة، واعتبارها وثيقة الصلة بمفهوم السلطة، قد أسهمت بنيوياً في بلورة أطروحة نقض مؤسسة الاستشراق وتحديد معالمها المنهجية وتفكيك استراتيجيتها المعلنة والكشف عن غاياتها المستترة.
فهذه الأطروحة تحدد قبل كل شيء المدى الذي يمكن أن تعد فيه معرفة «الآخر» أو «الشرق» الذي اخترعته أوروبا وروجت له، مجرد كيان أيديولوجي مصنوع، نشأ وترعرع على نحو ملازم لنمو الكولونيالية، فأصبح ماثلاً على المستوى الأنطولوجي باعتباره خطاب كينونة جوهراني يكرس أسطورة الطبائع الثابتة من جهة، وعلى المستوى الإبستمولوجي باعتباره حصيلة معرفية لدراسات تصدر عن نزعة مركزية أوروبية متجذرة من جهة أخرى.
وبهذا المعنى يمكن القول أن الكتاب لا يدور حول الثقافات غير الغربية بل حول تمثيلات الغرب لهذه الثقافات وبخاصة نظام الاستشراق الذي أقيم بواسطة أنظمة معرفية متعددة كفقه اللغة والتاريخ وعلم الإناسة والفلسفة والأركيولوجيا والأدب.
ويكشف سعيد كيف أن صناعة الآخر «الشرق» أو أسطرته بواسطة النصوص الأدبية والثقافية، هي التي عززت طرق وأساليب النظر إليه وأسهمت بالتالي في إدارة جهاز السلطة الكولونيالية، يقول:
«هذه النصوص قادرة ليس على خلق المعرفة فقط، بل الواقع الذي يبدو أنها تصفه. وبمرور الزمن تنتج هذه المعرفة وهذا الواقع تراثاً، أو قل خطاباً على حد تعبير فوكو، لا يكمن حضوره المادي أو أثره في أصالة مؤلف بعينه، فضلاً عن كونه الخطاب المعتمد في النصوص التي تصدر عنه».
2
ويحاجج سعيد في عرضه لأطروحة «الاستشراق» التي تدشن نهجاً جديداً غير مسبوق في دراسة «الكولونيالية»، بالقول ان تمثيلات الآخر و «الشرق» تحديداً في النصوص الأدبية الأوروبية، وأدب الرحلات، والكتابات الأخرى، هي التي عززت فكرة الثنائية الضدية الجوهرانية الطابع والتي تكرس مفهوم القطيعة بين الأنا والآخر على المستويين الأنطولوجي والإبستمولوجي.
كما يبين كيف احتل مفهوم القطيعة موقعه المركزي في تكوين الثقافة الأوروبية، وتمكن بذلك من تعزيز الهيمنة Hegemony بالمعنى الذي يطرحه «غرامشي».
هكذا يبدد سعيد دخان الهالة المحيط بمفهوم «المعرفة» وموقعها من تراتبية الدرس الثقافي الأوروبي، فتبدو الخطوط التي تفصل بين ما هو أيديولوجي وما هو موضوعي متداخلة يصعب تمييزها. وحتى في الحالات التي تتشكل فيها العلاقة بين الأنا والآخر في إطار من علاقة يتعايش فيها الحب والكراهية Ambivalence تجاه الشرق، كما هو الشأن في أعمال ريتشارد برتون مترجم «ألف ليلة وليلة» ورباعيات الخيام، فإن التحيز الأيديولوجي كما يراه سعيد، يبدو ممعناً في ممارسة عملية إقصاء البحث الموضوعي باستمرار.
واللافت ان ترجمات برتون التي كان يحشوها بالعبارات الجنسية المكشوفة التي يعبر بواسطتها عن الكبت الذي كان يعاني منه المجتمع الفيكتوري، لم تلبث أن صارت جزءاً لا يتجزأ من وصفه الوهمي لكيان أيديولوجي مصنوع هو الشرق، يكتسب ملامحه من إبستمولوجيا الاستشراق التي لا بد أن تمر عبر مصفاة ثقافية متحيزة، تؤكد على أن «دراسة» الشرق ليست موضوعية، بل هي على حد تعبير إدوارد سعيد: «رؤية سياسية لواقع يعزز بنيته الاختلاف بين المألوف (أوروبا، الغرب، نحن) وبين الناشز (الشرق أو الآخر)... وعندما يستخدم الباحث مقولات كالشرقي والغربي باعتبارها نقاط البداية والنهاية في التحليل والبحث ورسم السياسات العامة… فإن الحصيلة هي حدوث استقطاب يصبح الشرقي بموجبه أشد شرقية، والغربي أشد غربية، فيضع ذلك حداً للتلاقي بين مختلف الثقافات والأعراف والتقاليد والمجتمعات».
وهذا الاستقطاب أو الثنائية الضدية كما يراها سعيد، ضرورية جداً في عملية تصور الذات الأوروبية لنفسها في مواجهة الآخر الشرقي. ذلك لأنه لو كان الشرق المُستعمر غير عقلاني فإن معنى ذلك أن يصير الأوروبي هو العقلاني. ولو كان الشرقيون همجاً وشهوانيين وخاملين (حسب خطاب الاستشراق) فإن أوروبا ستبرز بالمقابل، باعتبارها الحضارة القادرة على ضبط شهوات أبنائها الجنسية والانتصار لقيم العمل الشاق على حساب عادات الكسل والخمول. بل لعل القول إن الشرق يتسم بالثبات والجمود هو الذي يعزز القول بأن الغرب متحول باستمرار. وهكذا تكشف هذه الثنائية الضدية عن مانوية ثقافية ذات طبيعة جوهرانية، يصير الشرق فيها مؤنثاً لكي تتمكن أوروبا من لعب دور الذكر المتسم بالفحولة.
3
هذه المركزية الأوروبية يمكن إدراجها ضمن نزعة أشمل منها هي المركزية «الإثنية» ونعني بها الميل إلى الحكم على خصائص الحضارات الأخرى من موقع المجموعة الإثنية التي ينتمي إليها المراقب.
وغالباً ما تكون الأحكام الثقافية (الحضارية) التي يسفر عنها هذا التقويم للآخر سلبية إلى حد الحط عمداً من شأن الثقافات المغايرة.
وبهذا المعنى فإن المركزية الأوروبية تصبح شكلاً من أشكال هذه المركزية الإثنية، تنطلق من فكرة تكريس أوروبا مركزاً للعالم، وتعد ثقافتها متفوقة على الآخرين تفوقاً على مستوى الكينونة.
ولعل من أبرز الأمثلة على الفكر الذي تتحكم فيه النزعة المركزية الأوروبية زعم «هيغل» أن أفريقيا لا تشكل جزءاً من تاريخ العالم، وزعم ماركس بعده بسنوات أن الهند ليس لها تاريخ وان من مآثر الاستعمار البريطاني أنه سيدخل شبه القارة الهندية في التاريخ الأوروبي.
بإلغاء التاريخ المغاير إذاً، توفر النزعة المركزية الأوروبية للمستشرق فرصة اللجوء عن وعي أو لاوعي إلى كل ما يراه من السبل لإلغاء الآخر المغاير وترسيخ سلطته عليه.
وبهذا الإلغاء الذي يبدأ بحق القوة ليتحول إلى قوة الحق، يضفي المشروعية على تصوره للآخر، ويظهر هذا التصور باعتباره حقيقة ثابتة على مستوى الكينونة.
ولعل من أبرز مؤشرات المركزية الأوروبية كما يبين خوسيه راباسا أن خارطة العالم التي رسمها الرحالة والجغرافيون الأوروبيون أكدت أن هذه القارة هي مركز ومصدر المعنى الحضاري فضلاً عن المعنى المكاني للعالم بأسره.
فهؤلاء الرحالة هم الذين يطلقون الأسماء التي تروق لهم على مختلف بقاعه، وبالتالي فإن الإسم الجديد يكتسب دلالة الخلق من عدم.
ويمكن القول إن فكرة أوروبا التي تمثل وحدة حضارية جامعة مانعة تمثل مركز العالم وتدل على تفوق المركز على الأطراف، وفقاً للتصور الاستشراقي، تبلورت واكتملت في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر. وقد تعززت هذه الفكرة على نحو تزامن مع نجاح حركة الاكتشافات الجغرافية والاستعمار والتجارة وما رافق ذلك من رسوخ السلطة الفكرية والمؤسسات التعليمية كالمدارس والجامعات التي أنشأها المركز الأوروبي في الأطراف، فتمكن بذلك من إحلال القيم الأوروبية محل القيم المحلية.
وقد كانت صناعة «شرق» مغاير للغرب، يمتلك خصائص عنصرية تتسم بالثبات والاستعصاء على التغير، إحدى نتائج الأنثروبولوجيا الثقافية الاستشراقية التي كشف عنها إدوارد سعيد الذي انطلق من فكرة علاقة شرعية المعرفة بالقوة، مبرزاً خطل مفاهيم شائعة مثل: «العقل العربي» و «النفسية العربية» و «العقلية العربية» وغير ذلك من المصطلحات الجوهرانية التي تصطنع نقاط المغايرة اصطناعاً وتفسد البحث الذي يزعم لنفسه نشدان الموضوعية.
4
هذا التحليل القائم على سبر العلاقة الجدلية بين مفهومي الغرب والشرق، مستمد من تفكيكية دريدا، وبالتحديد نقده لمفاهيم «المركز» و «الهامش» و «الأنا» و «الآخر». ولهذا فإن سعيد يحاجج بالقول إن «هامش» الشرق يسهم في تحديد «مركز» الغرب. كما يرى أن «الآخر» الشرقي ليس سوى انعكاس لوجهة النظر الغربية التي صنعته. ومع ذلك لا يتردد سعيد في انتقاد تركيز دريدا الشديد على بؤرة لسانية تكاد تدور في حلقة مفرغة.
كما لا يتردد في التصدي لأطروحة الناقد البريطاني ماثيو أرنولد(1822-1888) الذي يعتبره ليونيل ترلنغ: «المؤسس الحقيقي للنقد الحديث في العالم الناطق بالانكليزية». ففي كتاب أرنولد «الثقافة والفوضى» تلعب الثقافة دور الكابح لانتشار الفوضى. غير أن سعيد يدلل كيف أن الثقافة لا تكبح جماح الفوضى بل تعمل في خدمة الإمبريالية.
وأما الاستراتيجية التي يطورها من أجل الكشف عن النزعة الإمبريالية في النصوص التي يشتغل عليها فيلخصها مصطلح «القراءة الطباقية» Contrapuntal reading وقد ابتكر سعيد هذا المصطلح المستعار من الموسيقى بهدف الكشف عن ملابسات النزعة الإمبريالية الثاوية وراء نصوص تنتمي إلى الأدب الانكليزي. وهو يقترح قراءة تستجيب للنص المقروء بحيث تكون طباقاً له، أو قل لحناً ملازماً (بلغة الموسيقى) يضاف إلى اللحن الأًصلي. وهكذا يتمكن الناقد من إماطة اللثام عن أبعاد كانت ستظل مستترة وراء النص.
إن قراءة رواية «مانسفيلد بارك» لجين أوستن، قراءة طباقية، هي النموذج التطبيقي الذي يقدمه سعيد من أجل اكتشاف مدى اعتماد الطبقات العليا في المجتمع الانكليزي على المزارع التي كانت تملكها في جزر الهند الغربية لتحقيق حياة الرفاهية التي ترفل بها، وبالتالي إبراز قضية استغلال الشعوب المستعمرة وطرحها على بساط الجدل.
وهكذا فإن التأكيد على العلاقات الفرعية Affiliated الكامنة وراء النص المقروء، وأصولها المتجذرة في الواقعين الاجتماعي والثقافي، بدلاً من علاقات القرابة Filial التي تربطها بالأدب الانكليزي نفسه، وبالقيمة التي تمثلها في العرف الأدبي السائد Canonicity، هي التي ستتيح للناقد فرصة اكتشاف الملابسات الثقافية والسياسية الثاوية والتي لا تتكشف للقارئ منذ الوهلة الأولى. وبهذا الصدد يقول إدوارد سعيد في «الثقافة والامبريالية»: ما أن نمعن النظر في الأرشيف الثقافي حتى نبدأ عملية إعادة قراءته، ليس على نحو أحادي المعنى، بل على نحو طباقي».
5
آية ذلك كله أن إدوارد سعيد الذي نقض مؤسسة الاستشراق وانهماكها في ممارسة مانوية ثقافية تنتهي بشيطنة الآخر واستقطابه في موقع تراتبي يجعله طرفاً في ثنائية ضدية لا تناظرية Non Symmetric تؤكد هيمنة المركز الغربي على الهامش الشرقي، يرفض أن يكون مشروعه النقدي سياسياً بالمعنى المبتذل لهذه الكلمة.
فهو يمثل نموذجين متباينين للمثقف في إهاب كاتب واحد: نموذج العربي الفلسطيني المكرس لقضية واحدة، ونموذج الكوزموبوليتي الرافض لمصطلح العولمة Globalism بدلالته القائمة على الإكراه، ليقترح بدلاً منه مصطلح الدنيوية Worldliness بدلالته القائمة على حرية الاختيار والانفتاح على العالم والحضور فيه والانتماء إليه انتماء يكرس مفهوم التبادلية المطلقة بين الثقافات.
وهذا يطرح بدوره السؤال التالي: هل ثمة من تناقض بين هذا التكريس لقضية محددة وبين ذاك الانفتاح على العالم!.
يقول سعيد في كتابه «العالم والنص والناقد» (1984):
«إذا كان من غير الممكن اختزال النقد إلى عقيدة أو مذهب سياسي حول مسألة معينة، وإذا كان حاضراً في العالم ومدركاً لذاته في الوقت نفسه، فإن هويته تكمن في اختلافه عن الفعاليات الثقافية الأخرى وأنظمة الفكر وطرائقه. إن النقد بريبته تجاه المفاهيم ذات النزوع الشمولي، وقلقه إزاء المواضيع المُشيأة، وبَرمه بالمصالح والاقطاعيات الخاصة، وبعادات الفكر المتصلبة، يصبح في وفاق مع نفسه.. على الفكر أن يعتبر نفسه فعالية تعزز قيمة الحياة وتناهض في جوهرها جميع أشكال الطغيان والتسلط».
هذا الموقف الذي يطرح السياسة من منظور نقدي عقلاني هو الذي يحول دون أن يُختزل النقد إلى سياسة والفكر إلى أيديولوجيا والصوت إلى بوق.
هكذا برز نقد «ما بعد الاستعمار» الذي احتل موقعه كأحد فروع نظرية الأدب وفرض نفسه بقوة في أواخر الثمانينات. وإذا كان كتاب «معذبو الأرض» لفرانز فانون مَعلماً بارزاً من معالم هذا النوع من النقد فإن كتاب «الإستشراق» هو الذي بلوره ومنحه بعده الفكري المتميز والمصقول.
بل لعل تميزه يكمن في كونه يجادل نظرية النقد في الآداب الغربية، ويفككها بأدواتها المنهجية نفسها. ولا شك في أن التأثير النوعي الصاعق الذي أحدثه الكتاب في نظرية النقد والدراسات الإنسانية عموماً جعل من الممكن الكلام عن نقد يمثل مرحلة ما قبل «الاستشراق» وآخر يمثل المرحلة التي أعقبت ظهوره. فقد كشف عن تمثيل الشرق تمثيلاً سلبياً من قبل الكتاب الغربيين الذين اعتبروه «الآخر» الصامت الغائب أو العاجز عن تمثيل نفسه.
من هنا يخلص إدوارد سعيد (بعد نقضه لأطروحة المركزية الأوروبية) إلى حكم مفاده أن: «التجربة الثقافية بل كل شكل من أشكال الثقافة هو في حقيقته شكل خلاسي».
وبعبارة أخرى فإن الثقافة كما يتصورها، ليست تعبيراً ساكناً بل صيرورة مستمرة مثلها في ذلك مثل الهوية. الثقافة صيرورة تأخذ وتعطي أو تتبادل مواقع التأثر والتأثير مع الثقافات الأخرى. وهي بذلك ترتبط فيما بينها بعلاقة «تنافذ» Permeability وبعبارة أخرى فإن جميع الثقافات وفي طليعتها الثقافة الأوروبية التي تسيطر عليها النزعة المركزية ثقافات خلاسية. وهذه ليست سمة سلبية تنفي «الأصالة» بل سمة إيجابية تنفي «الجوهرانية». ومن هنا لا يمكن للثقافة الأوروبية أن تزعم لنفسها علاقة تراتبية مع الثقافات الأخرى، أو علاقة تحددها معايير القوة بين مركز مسيطر وأطراف تابعة.
ويبرر إدوارد سعيد أطروحته الحداثية هذه بنقض مفهوم «الأصل» Origin، إذ يرى انه يمكن العثور دائماً على «أصل» أقدم من أي «أصل» تعتبره الثقافة أساساً لها.
وبهذا الاعتبار فإن من الأفضل الكلام عن بداية «Beginning» أو عن بدايات، بدلاً من الكلام عن أصل أو أصول. وتعليل ذلك هو أنه في حين يعتبر «الأصل» مفهوماً بيولوجياً ملزماً ينبغي استبعاده، فإن «البداية» تظل مفهوماً ثقافياً مجازياً قابلاً للاستبدال نظراً لأنه ليس مفهوماً يفرض نفسه بدعوى وجود قرابة محكومة بقانون الحتمية البيولوجية الوراثية.
ويطور إدوارد سعيد هذا المفهوم في كتابه: «بدايات: القصد والمنهج» Beginnings: Intention and Method الصادر عام 1975، أي قبل صدور كتاب «الاستشراق». فهو يتحدث عن علاقتين تربطان بين الإنسان والثقافة: العلاقة الأولى تستعير سماتها من البيولوجيا ويطلق عليها مصطلح علاقة البنوة Filiation أو قل علاقة الإبن بالأب، ولهذا تكون علاقة وراثة لا خيار فيها.
بل إنها تفرض نوعاً من الحتمية الميكانيكية لورثة التراث لا تسمح لهم بحرية الاختيار.
وأما العلاقة الثانية فإن إدوارد سعيد يطلق عليها مصطلح علاقة التبني Affiliation. ومفهوم التبني قائم على حرية الاختيار. كما أن الاختيار بدوره مفهوم حداثي قائم على حرية التصرف. وهو بهذا المعنى مفهوم مجازي أو استعاري. ونتيجة ذلك هي أن الأب الثقافي (المجازي) يحل محل الأب (البيولوجي).
آية هذه المحاجة التي يطرحها إدوارد سعيد بقوة مدعومة بجهاز نقدي شديد العقلانية، أنه يجد نفسه قادراً باسم النزعة الحداثية التي تقترح كوزموبوليتية جديدة، على تضمين مفاهيم مستلة من صميم الثقافة العربية الإسلامية في بحث يخصصه لتعريف مفهومه للنقد الأدبي.
وأحد الأمثلة على ذلك تطرقه إلى أفكار لإبن حزم وابن جني وابن مضاء القرطبي والمدرستين الظاهرية والباطنية في التفسير، في دراسة يعقدها في كتابه «العالم، النص والناقد» باسم تبادلية ثقافية حرة.
هكذا تصير الثقافة، أي ثقافة، صيرورة مستمرة، أو تكويناً معرفياً خلاسياً مفتوحاً على أفق تبادلي وتعددي.
وهنا يصبح الأب المجازي (الإستعاري) أباً حقيقياً مشروعاً للإنسانية كلها.