نقد الوعي التاريخي لدى المؤرخين المسلمين
بات من المتفق عليه أن الإسلام ليس مجرد دين أقام القطيعة مع الوثنية العربية. بل هو حضارة جديدة كلية.
أجل إنه تقدم تاريخي علمي أدبي تقني جمالي شاركت في صنعه أقوام متعددة كونت النسيج السكاني للدولة العربية-الإسلامية حتى انهيارها.
ولما كنا بصدد ما سميناه الوعي التاريخي من حيث كشفه كوعي مؤرخين إسلاميين، فإنّا طرحنا على أنفسنا فض هذه المسألة انطلاقاً من الكشف عن الكتابة التاريخية التي ازدهرت في الحضارة الإسلامية. فمع الإسلام راح المؤرّخون بالظهور وكان من الطبيعي أن تكون الكتب التي تؤرّخ للرسول الكريم هي الأولى.
ثم توالت كتب التاريخ التي تسرد لتاريخ الكون والأمم والفتوحات والدول والحروب والصراعات والملوك. ولقد ترك لنا المؤرخ الإسلامي مادة تاريخية في غاية الثراء صالحة للنظر لا في الوقائع فحسب، بل في الأفكار والوعي والأماكن والاتجاهات السياسية والأيديولوجية. ذلك أنه لم يترك ما هو قابل للتأريخ إلا قد أثبته.
وإنّ أول مظهر من مظاهر الوعي التاريخي للمؤرخ الإسلامي هو اتحاد الرواية بالحدث، والنقل عن الرواة في تسلسلهم الزمني وذلك لتأكيد صحة رواية ما أو للإشارة إلى الاختلاف في الروايات. وفي كل الأحوال ظلت الرواية الشفاهية أو الكتابية الطريقة الأكثر حضوراً في إيراد الخبر.
هذا يعني أن التاريخ هو إخبار خبر يتناوله الرواة ويثبتونه في الكتب، فابن هشام يروي عن ابن إسحاق المتوفى (151 هـ)، والطبري المتوفى سنة ( 310هـ) يروي عن ابن هشام والسيوطي المتوفى سنة (911 هـ) يروي عن سابقيه وهكذا.
والحق أن استمرار الرواية طريقةً في التأريخ هو استمرار للشفاهي، فالشفاهي صار مكتوباً في سفر متعدد المجلدات وهذا الحجم الكبير من الكتب التأريخية ما كان ليكون إلا بسبب استمرار تثبيت الروايات حول حدث واحد.
ومن النتائج المترتّبة على بقاء الرواية أن صدق الحدث ظل مرتبطاً بصدق القول المتواتر عن السلف، فصحة وقوع الحدث ناتجة من صحة الروايات وعدد الرواة.
وهذا ما عطل البحث في معقولية الحدث ذاته، إذ الأولوية للرواية وليس إلى معقولية الحدث التاريخي.
ولهذا من النادر أن تجد حضوراً للشك في الوعي التاريخي للمؤرّخ المسلم، إلا في حالات قليلة مرتبطة بالشخوص ذات المكانة الدينية. ولقد استخدم المؤرخ المسلم تلميحات دالة على الشك كـ: زعموا ويزعمون وقيل، دون أن ينسب الزعم أو القيل لأحد بعينه. هذا كي يظل الراوي عنصراً مهماً من عناصر صحة الحدث.
«فزعموا» و« قيل » لا تشير إلى أحد بعينه، فظل الزاعم والقائل مجهولين. مثال على ذلك رواية زواج الرسول الكريم من خديجة حيث نقرأ: وقال الواقدي «ويقولون أيضاً أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدعوه إلى نفسها… وكانت امرأة ذات شرف، وكان كل قريش حريصاً على نكاحها، وقد بذلوا الأموال لو طعموا بذلك، فدعت أباها فسقته خمراً حتى ثمل. ونحرت بقرة وخلقته بخلوق، وألبسته حلة حبرة، ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته، فدخلوا عليه فزوجه، فلما صحا قال: ما هذا العقير؟ وما هذا العبير؟ ما هذا الجبير؟ قالت زوجتني محمداً بن عبد الله، قال: ما فعلت: إني لم أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش، فلم أفعل.
قال الواقدي: وهذا غلط، والثبت عندنا المحفوظ من حديث محمد بن عبدالله بن مسلم عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم، ومن حديث ابن الفرقاد، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة، ومن حديث ابن حبيبة، عن داوود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن عمها عمرو زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أباها مات قبل الفجاء». (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مجلد 2، ص 282).
انتقلت أساطير التوراة إلى كتب التاريخ العربي-الإسلامي بوصفها تاريخاً ووقائع دون أيّ إعمال للنقد بهذه الأساطير. وآية ذلك أن المؤرخ الإسلامي، إضافة إلى وعيه الديني بالعالم لم يجد أمامه إلا هذا المرجع ليسدّ الفراغ في معرفة تاريخ المنطقة
لقد دحض الواقدي برواية الطبري قصة من يقول أن خديجة قد سقت أباها الخمر، عبر رواة بأسمائهم. أما القائلون فلا أسماء لهم، وذلك كي يحرم الخبر من أهم عناصره ألا وهو أسماء الرواة وتسلسلهم.
فالرواية عن شخص صريح الاسم وذي مكانة هي الصادقة أما عن مجهول فهي المشكوك فيها حتى وإن كانت غير سلبية.
فحين تحدث السيوطي في تاريخ الخلفاء عن إسلام عمر، قال: قال النووي، والنووي فقيه ذو مكانة. وبعد أن أورد ما قاله النووي من أن عمراً قد أسلم بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، قال: وقيل بعد تسعة وثلاثين رجلاً وعشرين امرأة، وقيل بعد خمسة وأربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة . (السيوطي- تاريخ الخلفاء، القاهرة، 1952-ص 108).
مجرد أن ينسب الخبر إلى النووي فهو إذن يفضل روايته، وما أن قال: قيل: فإنه ضمناً يشكك بما قيل.
إن السؤال الأبرز هنا: ترى هل كان صاحب كتاب التاريخ مؤرخاً أم راوياً؟ والحق أنه كان راوياً أكثر من كونه مؤرخاً. ذلك أنه راو يروي عن رواة، ويقول نقلاً عن أقوال، والراوي نوعان: راو يروي عن سلفه، وراو يروي بوصفه شاهد عيان، وإن كانت الغلبة للصنف الأول.
والحق أنّ استمرار الرواية ناتج عن غياب التاريخ الكتابي فليس هناك في تاريخ العرب مرجع مكتوب منذ العصر الجاهلي وحتى القرن الأول، ولم يصلنا على الأقل مثل هذا الأثر. حتى الشعر العربي والذي هو النص الأكثر حضوراً في تاريخ الثقافة العربية اعتمد تدوينه في عصر التدوين على الرواية الشفاهية، ولهذا رأى البعض أن القرآن الكريم هو النص المكتوب الوحيد الذي دوّنه كتّاب الوحي.
ولم تنته عملية التأريخ عبر الرواية، إذ ظلت المسألة في التاريخ هي الإخبار نقلاً عن الرواة الثقاة المتسلسلين من الأقرب حتى الأبعد حتى شاهد العيان الأول أو الراوي الأول.
وهذا لا يعني اتفاق الرواة أو شهود العيان كما يروى عنهم، بل إن تسلسل الرواية حتى الراوي الأخير أو الشاهد أبقى على الاختلاف، وبخاصة في الجزئيات أو التواريخ والأمثلة كثيرة جداً.
الحضور الأسطوري
إذا كانت الأسطورة متخيلا لوقائع حدثت رغم تناقضها مع قوانين الحياة والطبيعة والمجتمع، فإن المؤرخ الإسلامي قد تعامل مع الأساطير بوصفها وقائع لا يرقى إليها الشك، وبخاصة حين يؤرخ المسلم لتاريخ ما قبل الإسلام.
فالمشكلة تكمن بأن قصص القرآن الكريم والتي هي قصص الأنبياء السابقين على الرسول الكريم عوملت كوقائع لا يستطيع أيّ مؤرخ أن يكشف دلالتها الرمزية فقط.
ومع ذلك فإنا لا نشهد امتحاناً ما، بصدق الراوي أو الرواية أو حقيقة وجود الراوي نفسه.
لوحة: سعاد مردم بيك
ففي كتابه «عبد الله بن سبأ أساطير أخرى» يمتحن السيد مرتضى العسكري روايات سيف بن عمر ويستخلص أن سيف بن عمر في رواياته عن حروب الردة قد اختلق معارك وأبطالاً وشعراء، كما اختلق أراضي ذكر وقوع الحوادث عليها، واختلق رواة عنهم كسهل بن يوسف وعروة بن مزية والمس.
وقد روى عن سيف الطبري وياقوت وابن حجر وابن الأثير وابن خلدون وعبد المؤمن، وأن أحداً من هؤلاء لم يشك بروايات سيف بن عمر.
وفي كلّ الأحوال لم يعمل المؤرخ العربي عقله في نقد الرواية، بل تعامل معها كحجة لصدق الخبر. ومما يزيد الطين بلة أن المؤرخ الإسلامي وهو يحكي عن تاريخ قديم جداً اعتمد أيضاً على رواة تناقلوا الخبر بينهم وبين الخبر الذي رووه مئات السنين. وبالتالي لم يكن الراوي شاهداً دائماً على الحدث.
التاريخ بين الأسطورة والواقع
إذا كانت الأسطورة متخيلاً إنسانياً لأحداث لا تنتمي إلى المعقول ولا إلى الواقع المحكوم بعلاقات سببية واقعية موضوعية فإن المؤرخ العربي-الإسلامي لم يكن قادراً على التمييز بين الأسطورة والواقع دائماً، وتعامل مع الأساطير على أنها وقائع حدثت فعلاً.
والسبب الأرأس، أن وعيه التاريخي لم ينفصل عن وعيه الديني، ولهذا تعامل مع التوراة والقرآن الكريم كمرجعين تاريخيين، التوراة بما تتضمنه من أساطير حول العالم وحول تاريخ اليهود، والقرآن بما يتضمنه من قصص الأنبياء.
فالتوراة شكلت مرجعاً أساسيا لدى جمع المؤرخين الإسلاميين، وهم يؤرخون لمرحلة ما قبل الإسلام بدءاً من تاريخ البشرية وحتى آخر ملوك بني إسرائيل، بل إن بعض المؤرخين الأوروبيين المعاصرين ما زالوا يرجعون إلى التوراة لرصد تاريخ المنطقة، ولكن مع تعامل جديد وتحريره من الأسطورة. وإذا كان هناك ما يبرر عودة المؤرخ الإسلامي للتوراة مرجعاً، فإن العودة إليه الآن بعد الكشوفات الأثرية وفك رموز اللغات القديمة وتطور مناهج البحث التاريخي ليس له ما يبرره إطلاقاً.
أجل، لقد انتقلت أساطير التوراة إلى كتب التاريخ العربي-الإسلامي بوصفها تاريخاً ووقائع دون أيّ إعمال للنقد بهذه الأساطير. وآية ذلك أن المؤرخ الإسلامي، إضافة إلى وعيه الديني بالعالم لم يجد أمامه إلا هذا المرجع ليسدّ الفراغ في معرفة تاريخ المنطقة، هذا من جهة، ولأنه اعترف باليهودية كدين سماوي من جهة ثانية، إلى الحد الذي تعامل مع أكثر ملوك «إسرائيل» بوصفهم أنبياء.
فهذا الطبري ينقل عن التوراة حرفياً، تسلسل البشرية عن آدم، فشيت بن ادم عاش «تسعمئة سنة وإثني عشرة سنة». وعاش أنوش بن شيت «تسعمئة سنة وخمس سنين» وعاش قينان بن أنوش «تسعمئة سنة وعشر سنين » وعاش مهلائيل بن قينان «ثمانمئة سنة وثلاثين سنة» وهكذا…(انظر الطبري، مرجع سابق، ط1، ص163-165-ثم قارن مع التوراة في الكتاب المقدس ص ص 85-86 ).
لكن العودة إلى التوراة لم تمنع المؤرخ العربي من إعمال خياله الأسطوري إلى جانب أساطير التوراة، فالتوراة مثلاً لا تذكر موت إبراهيم إلا في سطور قليلة حيث بات شيخاً مشبعاً بالأيام…
أما خيال المؤرخ العربي فقد أضاف «فلما أراد الله تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم، صلى الله وعليه وسلم، أرسل إليه ملك الموت في صورة شيخ هرم. فحدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماه قال: حدثنا أسباط عن السدي بالإسناد الذي ذكرته قيل: كان إبراهيم كثير الطعام يطعم الناس ويضيفهم. فبينما هو يطعم الناس إذا بشيخ يمشي في الحرة، فبعث إليه بحماره فركبه حتى أتاه أطعمه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه، فيدخلها عينه وأذنه ثم يدخلها فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره، وكان إبراهيم قد سأل ربه عز وجل ألا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت.
فقال للشيخ حين رأى من حاله ما رأى: ما بالك يا شيخ تصنع هذا؟ قال: يا إبراهيم الكبر، قال: ابن كم أنت ؟ فزاد على عمر إبراهيم سنتين، فقال إبراهيم: إنما بيني وبينك سنتان، فإذا بلغت ذلك صرت مثلك؟ قال: نعم، قال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك، فقال الشيخ فقبض روحه، وكان ملك الموت».
والقصة نفسها يوردها أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالثعالبي والمتوفى سنة (427 هـ)، في كتابه قصص الأنبياء، والمسمى عرائس المجالس في الصفحة (16).
وإذا كنا قد أبرزنا سبب العودة إلى التوراة لأسطورة التاريخ، فإن الأمر لم يتوقف عند هذا السفر، فقد ظل الخيال الأسطوري حاضراً في وعي المؤرخ العرب في سرد تاريخ الإسلام نفسه.
فلقد أمدنا ابن الكلبي بكتاب مهم «الأصنام» حيث أرّخ لوجود الأصنام عند عرب الجاهلية وطقوس عبادتها وعلاقة قبائل العرب بأصنامها، ومازال هذا الكتاب مرجعاً مهماً في هذا الشأن. غير أنه لوّث كتابه بسرد أساطير حول هذه الأصنام، أي ظل وعيه التاريخي مختلطاً بوعيه الأسطوري.
فحين يتحدث عن الصنمين: إساف ونائلة يورد الأسطورة المعروفة والتي تفيد بأن «إسافاً رجل من جرهم هو إساف بن يعلى، ونائلة هي بنت زيد من جرهم، وكان إساف يتعشق نائلة في أرض اليمن، فأقبلوا حجاجاً، فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت ففجر بها في البيت، فأصبحوا فوجدوهما مسخين، فأخرجوهما فوضعوهما فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حج إلى البيت بعد من العرب».(ابن الكلبي- الأصنام ص 9).
ورواية كهذه ترد في أغلب كتب التاريخ الإسلامي.
ويقول عن العزّى نقلاً عن الرواة أن العزّى كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، وحين ضربها خالد الضربة الثالثة فإذا هي حبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها».(ابن الكلبي، الأصنام ص 25).
فوجود الأصنام في الكعبة واقعة تاريخية صحيحة، وكذلك تحطيم الأصنام بأمر الرسول الكريم، إذ من الطبيعي أن تحطم الأصنام بعد فتح مكة وانتصار المسلمين. لكن المؤرخ الإسلامي لم يكتف بسرد الواقعة بل أصبغ عليها حلة أسطورية، وألّف رواية أوردها بمعزل عن امتحانها، لأن وعيه بالأساس لم يصل إلى مستوى الوعي التاريخي الصرف.
وكثير من الوقائع الصحيحة قد تعرضت لمثل هذه الأسطرة فمقتل الحسين بن علي غير مشكوك به إطلاقاً، ولا يشك أحد أن قتله كان بكربلاء. ولكن القصة التي رويت عن قتله قد أردفت بأسطورة وذلك ليعلى أكثر من شأن الحسين ولتضفى على مقتله مسحة تراجيدية كونية فلنستمع إلى السيوطي يقول «ولما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام، الشمس على الحطيان كالملاحف المعصفرة والكواكب يضرب بعضها بعضاً، وكان قتله يوم عاشوراء وكسفت الشمس ذلك اليوم، واحمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لازالت الحمرة ترى فيها بعد ذلك ولم تكن ترى فيها قبله، وقيل :
إنه لم يقلب حجر بيت المقدس يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط، وصار الورس الذي في عسكرهم رماداً ونحروا ناقة في عسكرهم، فكانوا يرون في لحمها مثل النيران، وطبخوها فصارت مثل العلقم وتكلم رجل في الحسين بكلمة، فرماه الله بكوكبين من سماء فطمس بصره». (السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 207).
وقائل يقول: إن هذا قليل من كثير، فكتب التاريخ العربي الإسلامي أرّخت لمراحل طويلة وهي عديدة جداً.
هذا صحيح، ولكن حضور مثل هذا الوعي، على قلّته، ليشي بنمط من التفكير قد يفسد حتى الوقائع التي حدثت فعلاً. والملاحظ أنه كلما بعد الزمن عن الأصل صار المؤرخ أقرب إلى الواقعية وزالت الحوادث المتخيلة، ومضى الحديث عن الشخوص ذات المكانة الدينية التي يمكن أن يسبغ عليها المؤرخ طابعاً أسطورياً.
الوعي التاريخي والمعقولية
نقصد بمعقولية الوقائع التاريخية تلك التي يقبلها العقل ومنطق العقل والواقع نفسه. ولهذا يكون فهم التاريخ فهماً معقولاً إذا تطابق مع معقولية الواقع نفسه، إني هنا لا أتحدث عن الأسطورة التي أتيت على ذكرها سابقاً بل عن الوقائع نفسها من حيث فهمها.
من حيث كشف جملة الأسباب المتبادلة التي تجعل من الواقعة نفسها معقولة من حيث معرفة الأسباب الجوهرية التي ولدت الواقعة التاريخية.
فالتاريخ العربي-الإسلامي منذ الدعوة وحتى انهيار الدولة العربية مروراً بالفتوحات وقيام الدولة الأموية والعباسية والدويلات الأخرى ينطوي على وقائع تاريخية لا حصر لها، تاريخ يمتد إلى أكثر من سبعة قرون ويمتد إلى قارات ثلاث واشتركت في صناعته أمم وشعوب شتى، وقائع هي من الثراء بحيث يصعب على الباحث الواحد امتلاكه، وفيه من الانتصارات والهزائم والفتن ما يكسر رأس الباحث عن الأسباب والنتائج.
والحق أن المؤرخين المسلمين قد سجّلوا لنا وقائع كثيرة صغيرة وكبيرة لكن التاريخ ظل بمجمله سردياً، تاريخ إجابة عن سؤال كيف جرت الحوادث أو الوقائع؟ لا، لماذا جرت على النحو؟
فمن المعروف مثلاً أن أكبر حدث في تاريخ الإسلام المبكر بعد وفاة الرسول (ص) هو نشوء الخلافة وتكوين الدولة، لقد استدعى المؤرخ هذه اللحظة وتحدث عن نشوء الخلافة ويسرد الطريقة التي صار فيها أبوبكر خليفة للمسلمين بعد الرسول الكريم، والقصة معروفة للجميع، أوردها جميع المؤرخين المسلمين متفقين على الوقائع التي تمت في السقيفة.
هذا الحدث الكبير يبدو بسيطاً جداً: الأنصار اجتمعوا في السقيفة، سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة، بلغ الخبر إلى أبي بكر وعمر فجاءا إليهم ومعهم أبوعبيدة، وخطب أبوبكر وأكد أن عشيرة رسول الله أحق بأمره. واقترح الحباب بن المنذر أن يكون من الأنصار أمير ومن قريش أمير، رفض عمر هذا الاقتراح، أشار أبوبكر إلى عمر ليبايعه فرفض كما رفض أبوعبيدة البيعة منه، بايعا أبا بكر ثم بايعه الأوس ثم أقبل الناس يبايعون أبا بكر، لكن سعداً رفض البيعة وقيل إنه لحق بالشام وأن الجن قتلته.
لندع مقتل سعد، فهذا أمر من قبيل الأسطورة للحدث، لكن أحداً من المؤرخين لم يتساءل كيف تأتّى لأبي بكر، أن يصبح خليفة رسول الله؟ من أين استمد أبوبكر قوته؟ هل الأمر مجرد نقاش ينتهي بأن يبايع عمر أبا بكر وكفى الله المؤمنين شر القتال، ثم يتقاطر الناس على أبي بكر للمبايعة؟ لماذا لم يفكر المتناقشون بعليّ خليفة، وهو أقرب الناس إلى الرسول؟ القضية قضية سلطة تشرع دونها السيوف وليس من المعقول أن تحل بهذه البساطة.
لم يعمل المؤرخ الإسلامي خياله التاريخي ليفهم كيف آلت الخلافة لأبي بكر، ويفسر -عبر احتمالات عقلية- هذا الأمر.
الرسول الكريم يحج حجة الوداع ويلقي خطبته المشهورة، وكان المرض قد اشتد عليه، ثم بعد اشتداد المرض، خرج للناس وأعطاهم وصاياه، وسأله الحاضرون عن مغسله وعن الكفن وعن الصلاة عليه وعمّن يدخله القبر، وطلب دواة وقرطاسا ليكتب لهم كتاباً لا يضلون من بعده.
إذن، كانت قريش والأنصار يعرفون قرب انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، وبالتالي فإن مسألة خلافته لا بد وأن طرحت في هذه اللحظة من حياة الرسول، ولا بد أن شيوخ قريش وعلى رأسهم أبوبكر وعمر وعثمان وأبوعبيدة قد اتفقوا على الخلافة وهم يدركون أن طالبيها كثر، واستقر رأيهم على أن يتولى أبوبكر الخلافة لاعتبارات كثيرة أهمها: أنه قرشي أولاً، ثم أنه أقرب الناس إلى الرسول الكريم، فضلاً عن هيبته في الجاهلية والإسلام، فقد كان من رؤساء قريش ناهيك أن شيوخ قريش لهم تجربة في الحكم سابقة في دار الندوة، ولن يقلل تعيين أبي بكر من سلطانهم، ولا بد أنهم اتفقوا مع الأوس على هذا الأمر، وإلا لماذا بايع الأوس أبا بكر ولم ينتصروا لسعد؟ أما الحديث عن أن أبا بكر قد أشار إلى عمر وإلى أبي عبيدة ليبايع أحدهما بالخلافة وامتناعهما عن ذلك فهذا نوع من التورية ليس إلا، أو أن الحادثة كلها مشكوك فيها.
والحق، أن مبايعة أبي بكر خليفة -سلطاناً- هو دفاع قريش عن الملك فمن ذا الذي يتصور أن يكون الملك من غير قريش، وقد ظلت الخلافة في قريش مئات السنين؟
إذن حسمت الخلافة أولاً بين شيوخ قريش وأفخاذها، ثم بين شيوخ قريش والأنصار، والتاريخ اللاحق، يدلل على أن قريشاً سعت لأن يظل الملك بيدها، والصراع على السلطة بقي داخل قريش بالذات، والمؤسسة العسكرية التي نشأت أثناء الفتوح كانت تحت قيادة القرشيين في الغالب، وقد حددت الحاجة إلى دولة مركزية، الصراعات على السلطة والتي كانت الصراعات على الخلافة أحد التعبيرات عن هذه الحاجة.
لا نهدف في هذا المقال إلى فهم التاريخ الإسلامي وتفسيره، حسبنا القول، إن الحوادث في هذا التاريخ لم يعمل الوعي التاريخي الإسلامي فيها الفهم كمقتل عمر وعثمان والفتوحات وانتصار الفرع الأموي في الصراع على الخلافة، بل إن المؤرخ الإسلامي قد حشد ما هبّ ودبّ في كتب التاريخ فلم يقف عند الوقائع الحاسمة الأساسية، بل راح يسرد ما هو ثانوي من قصص حصلت مع هذا الخليفة أو ذاك، أو مع هذا الصحابي أو ذاك وهكذا… من هنا نفهم لماذا تتألف كتب التاريخ العربي والإسلامي من مجلدات ضخمة عنصر الشك فيها شبه غائب.
إن أحداً لم يقف عند رواية التحكيم ورفع المصاحف موقفاً شاكاً باستحالة هذه الحادثة، أو قصة عمرو بن العاص الذي ثبّت معاوية كما يثبّت الخاتم في يده، وصمت أبي موسى الأشعري، وكأن الذي حسم قصة الصراع هو الاختلاف بين سلوك الداهية وسلوك التقي.
لم يقف أحد عند عدد القتلى في المعارك التي جرت بين الإمام علي وخصومه موقف الناقد، فإذا أضفنا شهداء الفتح وشهداء حروب الردة وقتلى الصراعات على الملك أيام الأمويين والعباسيين والقتلى من الخوارج فسنحصل على عشرات الألوف من الذين قضوا، ترى كم كان عدد العرب المسلمين آنذاك حتى يفقدوا هذه الأعداد الكبيرة من المقاتلين وظلوا قادرين على الملك والحياة، ففي معركة الجمل وصفين وحدهما تتحدث الأخبار عمّا يقرب من مائة ألف قتيل.
فإذا عرفنا أن جيش علي يوم الجمل كان ثلاثة عشر ألفاً، وعلى فرض أن عدد الطرف المقابل كان يساوي عدد جيش علي، فيكون المجموع ستة وعشرين ألفاً، فهل يعقل أن يقتل خمسة عشر ألفاً في معركة الجمل؟ ( انظر: الطبري، د ع، ص 508-539 ).
الوعي التاريخي في إهاب الوعي الأيديولوجي
ليس من باب القول الجديد اعتبار التأريخ ملوثاً دائماً بالوعي الأيديولوجي، وليس الوعي الأيديولوجي هنا سوى الانحياز والنظر إلى التاريخ نظرة تعبر عن موقف مسبق ومحاكمة الوقائع عموماً أو الأفراد انطلاقاً من هذه النظرية المسبقة، وبخاصة إذا عرفنا أن المؤرخ عموماً هو دائماً متهم شاء أم أبى، فكيف إذا تأملنا وضع المؤرخ قبل قرون، وبخاصة المؤرخ الإسلامي الذي تقاذفته أهواء الانقسامات الدينية، وانحيازاته السلطوية؟
يظهر الانحياز الأيديولوجي في أكثر من مفصل أساسي من مفاصل الحكم الإسلامي، حيث أظهر المؤرخ الإسلامي موقفه الأيديولوجي بأكثر من مظهر.
لنأخذ مقتل عثمان، والذي تجمع أكثر الروايات على سرده بشأنه، ولنأخذ واقعة الغلام حيث يورد المؤرخون المسلمون القصة التالية: دخل أصحاب محمد وأشاروا عليه أن يعين محمداً بن أبي بكر بدلاً من أن أبي سرح فكتب عهده وولاّه، فخرج محمد بن أبي بكر ومن معه إلى مصر، فلما كان على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة، إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً وكان رجل يطلب ويطلب فقال له أصحاب محمد: ما قصتك وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب؟ فقال له رجل: هذا عامل مصر، قال: ليس هذا أريد، وأخبر بأمره محمد بن أبي بكر، فبعث في طلبه رجلاً، فأخذه، فجاء به إليه، فقال: غلام من أنت؟ فاقبل مرة يقول: أنا غلام أمير المؤمنين، ومرة يقول أن غلام مروان، حتى عرفه رجل أنه لعثمان، فقال له محمد إلى من أرسلت؟ فقال إلى عامل مصر، فقال: بماذا ؟ قال برسالة، قال معك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يخرج وكان معه أدوات ففتشوا الأدوات فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرج، فجمع محمد من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم ثم فك الكتاب بمحضر منهم فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاقتلهم، وأبطل كتابه. وقر على عملك حتى يأتيك رأي، ويحبس من يجيء إليّ بتظلم منك يأتيك رأي في ذلك إن شاء الله تعالى، فلما قرأوا الكتاب فزعوا فرجعوا إلى المدينة، وختم محمد الكتاب بخواتم نفر كانت معه، ودفع الكتاب إلى رجل منهم، وقدموا المدينة، فجمعوا طلحة والزبير وعلياً وسعداً ومن كان من أصحاب محمد (ص) ثم فضوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام وأقرأوهم الكتاب، فلم يعد أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك من كان غضب لأبن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر حنقاً وغيظاً. وقام أصحاب محمد (ص) ولحقوا بمنازلهم.. وحاصر الناس عثمان سنة خمس وثلاثين وأجاب عليه محمد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحة والزبير وسعد وعمار ونفر من الصحابة، ثم دخل على عثمان ومعه الكتاب والغلام والبعير، فقال عليّ: هذا الغلام غلامك ؟ قال: نعم، قال والبعير بعيرك، قال: نعم، فأنت من كتبت هذا الكتاب، وقال له وحلف بالله: ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به، قال علي: فالخاتم خاتمك؟ قال: نعم. فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتاب عليه خاتمك ولا تعلم به؟ فحلف بالله ما كتب هذا الكتاب ولا أمر به ولا وجّه هذا الغلام إلى مصر قط. وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان وشكّوا في أمر عثمان وسألوه أن يدفع إليهم مروان فأبى.. إلى آخر رواية القتل.
إن أحداً لم يقف عند رواية التحكيم ورفع المصاحف موقفاً شاكاً باستحالة هذه الحادثة، أو قصة عمرو بن العاص الذي ثبّت معاوية كما يثبّت الخاتم في يده، وصمت أبي موسى الأشعري، وكأن الذي حسم قصة الصراع هو الاختلاف بين سلوك الداهية وسلوك التقي
لندقق في هذه الواقعة لامتحان صحتها، إذ يبدو لي أنها مختلفة اختلافاً كلياً.
أولاً: لا يعرف عن عثمان أنه ذو أخلاق ماكرة، أو أنه يميل إلى العنف والغدر.
ثانياً: ما هذا الغلام النكرة الذي يحمل الكتاب ولا اسم له، فهل يعقل أن يكون للخليفة وأمير المؤمنين غلام نكرة أسود لا يعرفه أحد في المدينة التي يعرف الناس فيها بعضهم بعضاً.
ثالثاً: إذا كان عثمان يهدف إلى ذلك المكتوب في الكتاب، أليس أولى به أن يرسل برسالة شفهية بدل أن يضع ختماً على رسالة مكتوبة؟
رابعاً: إذا كان الخليفة قد حلف يميناً بالله أن لا علم له بذلك فلماذا الشك برجل يحلف بالله كعثمان (هذا إذا افترضنا أن الغلام يحمل رسالة مختومة بختم عثمان).
خامساً: إذا كان مروان هو فعلاً من كتب الكتاب وكان عثمان لا علم له بذلك، أليس نوعاً من الخيانة من مروان لعثمان وكان أولى بعثمان أن يعاقب مروان أو يجعل الآخرين يعاقبونه؟ (تاريخ الخلفاء- ص ص 158-159) إذن القصة كلها مختلفة.
لكن المؤرخين -وهم ميالون- لإدانة عثمان اخترعوا هذه القصة لإيجاد مبرر أيديولوجي-أخلاقي إضافي لمبررات قتل عثمان، لم يقل أحد من المؤرخين المسلمين إن مقتل عثمان مظهر من مظاهر الصراع على السلطة والثروة.
أو تأمل القصة التالية: وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن جبلة سحيم قال: دخلت على معاوية بن أبي سفيان -وهو في خلافته- وفي عنقه حبل وصبي يقوده، فقلت له: يا أمير المؤمنين أتفعل هذا؟ فقال: أسكت فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: من كان له صبي فليتصاب له، قال ابن عساكر: غريب جداً.
هل يمكن تصديق قصة كهذه عن معاوية؟ ترى هل بقي لمعاوية أن يطبق هذا الحديث ليكون قد أتم العمل بوصايا الرسول الكريم. وما قول ابن عساكر أن الأمر غريب إلا تأكيد لاختلاق هذه الحادثة للنيل من معاوية.
والحق أن تاريخ بني أمية في السلطة قد كتبه أعداء بني أمية الذين ذكروا القارئ دائماً أن إسلام أبي سفيان وولده معاوية قد جاء بعد الفتح ليظهروا رقة إسلامهم، ولهذا تجد اللغة نفسها التي تتحدث عن بني أمية ليس فيها إلا قليل من الاستحسان والمديح وكثير من الإدانة والتشويه. إذ قيل عن يزيد بن معاوية قولاً لا يمكن لعاقل أن يقوله «وكان سبب خلع أهل المدينة له أن يزيداً أسرف في المعاصي وأخرج الواقدي أن عبدالله بن حنظلة بعد الغسيل قال: والله فأخرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من المساء، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة». (تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص 309).
وكما تعرض تاريخ حكم بني أمية لوعي أيديولوجي كذلك خضع تاريخ الخوارج هو الآخر لموقف سلبي مسبق، في وقت أجمع المؤرخون على إصدار أحكام ايجابية على تاريخ آل البيت.
بإمكاننا أن نعرض أمثلة مثيرة تؤيد وجود العقبات الأيديولوجية الكثيرة أمام الوعي التاريخي المطابق بدءاً من تاريخ الحياة الجاهلية وانتهاء بتاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة.
وبعد:
لم نقصد أبداً محاكمة المؤرخ العربي وفق معيار المنهج أو المناهج التاريخية المعاصرة لنعطه علامة الصفر، إنما قصدنا إلى تبيان مستوى الوعي التاريخي الإسلامي وطبيعته هذا لأن الراهن العربي لم يقم قطيعة على وعي كهذا.
فإذا كان المؤرخون العرب يكتبون الآن تاريخ المرحلة الجاهلية والإسلامية مبتعدين عن مثالب الوعي التاريخي الإسلامي، فإننا ما زلنا في مدارسنا ندرس تاريخنا -في الغالب- انطلاقاً من قصص التاريخ كما أوردها مؤرخونا القدامى. ناهيك عن أن العربي والمسلم عموماً مازال يستمع إلى هذه القصص في أكثر من محفل ومكان وفضائية، عبر أحاديث الجمعة وخطبها، وعبر البرامج الدينية المتنوعة، وعبر الدعاة الجدد والقدامى، ممّا يعزز الوعي القديم بالتاريخ والطابع الأسطوري له.