المرأة العربية في عين الإعصار
إن نظرة سريعة على ما يجري في العالم العربي اليوم تُعزِّز مثل هذه الرؤية السوداوية، فحلم الثورات العربية الأخيرة بالحريات والديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان -بما فيها حقوق المرأةـ تحول في أعين الكثيرين من مناصريها إلى ما يشبه الكابوس. وبغض النظر عن المسببات ودور المستبد في حرق البلاد ليبقى الاستبداد إلا أن الواقع الحالي يُظهر كيف تحولت تلك الآمال إلى حروب أهلية ومدنية وطغيان كاسح للحركات الإسلامية، بل والجهادية منها الأكثر تشدداً وقمعاً وسلباً للحريات وعداءً لقيم المدنية.
في مثل هكذا أوضاع تبدو الأمور وكأنها في طور الغرق والتراجع قهقرى نحو عصور الظلام، بل نحو مراحل لم يعرفها تاريخ العرب من قبل في تخلفها ورجعيتها وعنفها. لكن المظاهر خادعة غالباً وما يحدث اليوم ليس نهاية التاريخ ولا نهاية قصة “الثورة” بل جزء من دوراتها.
إن الثورة التي أقصدها هنا أوسع مما اصطُلح على تسميته “ثورات الربيع العربي” والتي ليست إلا تجليات جزئية للثورة الكبرى والتي ليست أقل من عصر مضطرب تحدث فيه عدة ثورات. سأدعو هذا العصر المتفجر هنا بالإعصار، وذلك لقوته وهيجانه ودورانه السريع. ولأن من الصعب جداً أن تحدّد الجهات وأنت تدور مع الإعصار وأن كل ما يمكن لك أن تلمحه هو الحطام الذي يخلفه وهو يدمِّر منظومة القيم القديمة والباراديغمات التي أخذت شكل الحقائق الثابتة، فإن هذا المقال لن يجازف بتصور مآلات هذا الإعصار أو الكيفية التي سينتهي عليها وآثاره.
إذن لنحذر هنا من التفاؤل أو التشاؤم فالأمور لم تستقر بعد والإعصار لم يتوقف للآن ومن المبكر جداً تحديد مآلاته ونتائجه سلباً أو إيجاباً على المدى البعيد، بل ولا حتى المتوسط أو القريب. عن أيّ إعصار أتحدث؟ إنه إعصار التكنولوجيا الذي فجّر العالم القديم وجعل الأمور المضبوطة سابقاً بقوة الرقابة تتفلّت من أيّ قيد معلنةً أن الزمن الماضي مضى وأن حاضراً آخر قيد التشكل رغم كونه دون برنامج ولا خطط ولا مشاريع مسبقة ولا أفكار موجهة.
إنها تفاصيل التكنولوجيا اللانهائية التي استلبت وعي الناس وعقولهم وغيرت من نمط وعيهم وإدراكهم لمحيطهم ولعلاقتهم بالآخر. أثر التكنولوجيا على الوعي مسألة فلسفية أصيلة قد ترجع بأصولها إلى أرسطو أي قبل أن تظهر العناوين الفلسفية الكبرى في نقد التقنية والتكنولوجيا والأداتية والمكننة عند ماركس وهايدجر وفيبر ومدرسة فرانكفورت وفوكو على سبيل المثال لا الحصر. ليس موضوعي هنا نقد التكنولوجيا، لكني أود رصد أثرها غير الموعى به تماماً على وضع المرأة في العالم العربي وذلك فيما وراء الخير والشر أي دون تقديم حكم أخلاقي على هذا التحول.
التكنولوجيا التي أقصدها هنا هي ما يُسمى بثورة الاتصالات بمختلف تطبيقاتها الكثيرة صعبة الحصر من أجهزة الكمبيوتر الخاصة وصولاً إلى الهواتف المحمولة الذكية. عبر هذه الأجهزة تتشقق كل جدران الرقابة التقليدية التي غالباً ما فرضها الرجل: الأب، الزوج، الأخ، رجل الأمن، الزعيم.. الخ. ربما لم يكن البيت بجدرانه القوية وأسواره العالية مجرد ملجأ يقي أصحابه من هجمات خارجية: حيوانات متوحشة، لصوص، أعداء، شمس، أمطار.. الخ، ولكنه كان دوماً حبساً غير رسميّ لنساء سيّد البيت.
هنا الجدران تحمي رب البيت من خطر الداخل: حجب النساء، وإخفاء الأسرار وتكثيف الرقابة في المكان. لفترة قصيرة كان التفلُّت من الرقابة أمراً عسيراً جدّاً في مجتمعاتنا وأيّ محاولة للهرب من هذه السجون كانت تنتهي غالباً بالقتل أو العودة إلى السجن مع تكثيف الرقابة. إن خرجت المرأة من البيت سيشعر أفراد الأسرة الذين يمارسون مهمة الرقيب والجاسوس والواشي مجاناً بحكم العادة بغيابها. وإن خرجت فالحارة تعرف أنها خرجت وتراقبها عيون الجميع الفضولية. اليوم ومع ثورة الاتصالات تُخلق فضاءات جديدة تخدع كل رقيب وتفتح المجتمع على تغيرات كبيرة تعصف ببناه القديمة جميعاً. ولكي أوضِّح موقفي أكثر فإنني سأحاول هنا رصد تراجع سُلطة الرقيب النفسي والرقيب الاجتماعي اللذين يسهران على حراسة جسد المرأة وحرياتها.
إنه زمن البورنو إذن كما وصفه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار. والبورنو هنا لا يعني المعنى الحرفي للكلمة ومدلولها الجنسي ولكن للإشارة على أن كل شيء صار مباحاً ومُتاحاً، لا رقابة ولا لذة ولا متعة ولا تقنين
لعل الشرطيّ الأول الذي تجب مساءلته هُنا هو الرقيب الاجتماعي وهو الأكثر تهديداً اليوم بانتهاء وظيفته وإحالته على التقاعد. فبعد تلك السُّلطة القوية التي كان يمتلكها في الماضي مُستمدّاً سلطته من عادات المجتمع وتقاليده ونظمه ومحاسبة كل من يخرج عليها فإن هذا الشرطي يتم الاحتيال عليه بسهولة اليوم. لقد مكّنت وسائل الاتصال حريّة الاختباء من الشرطي الاجتماعي فلم تعد الناس ولا حتى أفراد العائلة ترانا في حلنا وترحالنا ومع من كنا وكيف تعرفنا على فلان ومارسنا الحب أو الجنس (قد يكون افتراضياً) مع علاّن. لكل واحد اليوم ولكل واحدة موبايل خاص به أو بها ويمكن أن يضع كل فرد كود سري لهاتفه فلا يستطيع أحد مراقبة مع من تكلّم وما هي الرسائل التي وصلته أو تلك التي أرسلها. كل فتاة عربية اليوم تقريباً لديها إميل خاص وكلمة سر خاصة بها وحدها ولم يعد بمقدور أحد مراقبة رسائلها والصور التي ترسلها أو التي تتلقّاها. الكثير من السيدات والفتيات العربيات اليوم، والأرقام تتضاعف بشكل مطّرد، لديهن اليوم حساب على الفيسبوك وصندوق رسائل وكلمة سر خاصة وجهاز لابتوب خاص على الغالب أو سمارت فون يحتوي كل تقنيات الاتصال والتواصل. لا يستطيع الشرطيّ الاجتماعي هنا أن يراقبهن ويحاسبهن على ما كان يلزمهن به من قيود يعتبرها مقدّسة وحقاً شرعياً للرجل.
الرقيب الثاني الذي يتراجع دوره بسرعة فلكية هو الضمير. هناك بعض التصورات الخاطئة حول الضمير عندنا كأن نقول “شخص بلا ضمير” لوضع كل الصفات السيئة بمن ننعته بهذه الصفة. في الواقع الضمير ليس مُطلقاً وليس معياراً للصحّ والخطأ سوى وفق معايير المجتمع بغثِّها وسمينها. الضمير يتكوّن باللاوعي وفق لاءات المجتمع ومحرّماته من هنا هو ابن الشرطيّ الاجتماعي وحامل صفاته. التصور الخاطئ الثاني المتعلّق بالضمير هو تصوّرنا أن الضمير حاجز وسدّ يمنعنا من ارتكاب ما يخالف عادات المجتمع وما تربينا عليه وما كبتناه. في الواقع الضمير لا يمنع ولا يسدّ ولا يحجز وإنما هو مجرّد مُنبّه يشعل إنذار الخطر كلما حاولنا أن نتجاوز محذوراً من محذوراته ولكنه لا يمنعنا من فعله في النهاية. إنه ينبِّهنا وحسب، ثم يعاقبنا على ما فعلنا ولكنه وكأيّ كلب حراسة يمكن أن يتوقف عن النباح إذا ما حرفنا انتباهه. الضمير يؤنّب ويحرق ويعذّب عندما نرتكب شيئاً تربينا على أنه حرام أو خطأ، ولكنه يهدأ في المرّة الثانية التي نعاود فيها ما فعلناه في المرة الأولى قبل أن يختفي نهائياً من مكان حراسته بعد ذلك.
يقول الشخص لنفسه، وبخاصة المرأة بوصفها الأكثر حرماناً وتعرضاً للرقابة في مجتمعاتنا، سأجرِّب هذا وسأكتب لهذا وسأضيف ذاك. تبدأ الأمور بحذر كطفل يتعلم المشي وفي كل مرّة يتروّض الضمير على الحُريّة وعلى الاختراق حتى ينام.
مع وسائل الاتصال الحديثة وتطبيقات الخصوصية فيها التي تساعد دوماً على الهروب من سجن الرقيب تستنفر الأسر العربية لمعرفة كيفية مراقبة أبنائهم وبخاصة بناتهن ويستشيط الزوج ويحترق لمعرفة من يتحدث مع زوجته وسبب قضائها ساعات بكاملها مع الموبايل.. الخ.
إنه زمن البورنو إذن كما وصفه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار. والبورنو هنا لا يعني المعنى الحرفي للكلمة ومدلولها الجنسي ولكن للإشارة على أن كل شيء صار مباحاً ومُتاحاً، لا رقابة ولا لذة ولا متعة ولا تقنين. دون أن ننساق مع سوداوية بودريار في هذا الصدد ودون أن نحمل أيّ حكم أخلاقي كما وعدنا هنا إلا أن علينا التأكيد في هذا الصدد أن عصر الرقابة القديم قد انتهى. طبعاً تمكن لنا هنا العودة إلى فكرة فوكو الممتازة في “المراقبة والمعاقبة” والقول إن الأمر مخادع ومخاتل ففي حين نظن أن الرقابة تتراجع إلا أنها تزداد بالفعل.
فوراء الهواتف المحمولة والحسابات الشخصية رقابة مؤسسات كاملة وأجهزة رقابة عالمية تتيح لشركة مثل غوغل أو فيسبوك أو واتس أب مثلاً أن تراقب كل أسرارك وتعرف مكانك ومدخراتك وووو.. الخ. طبعاً هذا صحيح، لكن لا يمكن مراقبة كل البشر وشكل الرقابة هذا يظل حصراً في أيدي شركات التواصل العملاقة وليس في يد الزوج أو الأب أو الحارة والمجتمع. ثورة الاتصالات هنا هي حالة فوضى الإعصار. هكذا يتضعضع وضع الأسرة التقليدي وتشير الإحصائيات إلى أن حالات الطلاق تزداد بشكل كبير بسبب طغيان هذه الوسائل. تتعدد العلاقات الجنسية من خلال تسهيل الغواية التي توفرها سريّة الحسابات الشخصية لكل شخص.
الحب يزداد نزقاً معها فالوقوع بالحب أو الإعجاب والارتياح للآخر يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة فلكية وبنفس السرعة تنتهي مثل هذه العلاقات الكلينيكس. وسائل الاتصال تخلق الحيز الشخصي وتحتال بوعي وبدون وعي، بإرادة أو بعفوية على الشرطيين الاجتماعي والنفسي وتفتح الباب أمام شكلٍ جديد من أشكال الفردانية وتُفجّر بنية الأسرة التي راحت تتصدّع وتنهار.
سيحاول المجتمع العربي الذكوري القبلي بطبيعة الحال أن يُشدّد من الرقابة ويستفيد من التكنولوجيا نفسها ليستمر بسلطته وليبقي عينيه مفتوحتين على مقتنياته بما فيها المرأة التي لا يعدها أكثر من متاع وخطر، لكن عبثاً ستنتهي محاولاته أدراج الإعصار
في هذا الإعصار هناك بنية ثقافية تتكوّن وتتشكل ولا يمكن الوقوف في وجهها ستُغيِّر من مفاهيم الارتباط “الدائم” أو “الخيانة” أو الجسد الحرام أو الخطيئة حيث لن تظل هذه الأخيرة مثلاً مشحونة بتلك الشحنة الأخلاقية العالية وستنفتح العلاقات العاطفية والجنسية بشكل أكبر ويصبح من شبه المستحيل ضبطها. حتى علاقات الزواج ستعرف تعددية جنسية سريّة على الأغلب، ولكنها قائمة على قدم وساق منذ الآن.
سيحاول المجتمع العربي الذكوري القبلي بطبيعة الحال أن يُشدّد من الرقابة ويستفيد من التكنولوجيا نفسها ليستمر بسلطته وليبقي عينيه مفتوحتين على مقتنياته بما فيها المرأة التي لا يعدها أكثر من متاع وخطر، لكن عبثاً ستنتهي محاولاته أدراج الإعصار.
وإن نجحتَ في مراقبة حساب لمن تعتبر نفسك وصياً عليها، فإن لديها غيره وهي قادرة على إنشاء العشرات من الحسابات بالمجان. لا شك عندي أن أشكال التطرف الخطيرة التي نشهدها اليوم مثل داعش وسوق النساء وجهاد النكاح.. الخ، ما هي إلا رد فعل يائس على ما يتفلّت اليوم من يدي قوى الماضي فالرقابة لم تعد ممكنة فعلياً. هل هذا التغير العاصف جيد أو سيء؟ مرّة أخرى السؤال هذا خاطئ هنا فقد يكون خطأ الحاضر تصرُّفاً صحيحاً في المستقبل فكم من المعايير كانت مُقدّسة كعبادة الفرج مثلاً صارت مرذولة ومحرّمة أو العكس. كل ما وددتُ الإشارة إليه هنا هو رصد هذا التغير وهو يمرّ بيننا وفينا خفيّاً دون أن يتمكّن الكثيرون من وصفه أو الإمساك به وإنما يتغيرون معه يومياً دون أن يعرفوا.
ليست هي المرّة الأولى التي تضطرب فيها بنية المجتمع فقد حصل هذا في السابق، لكن لم يكن ذلك يوماً بمثل هذه السرعة وهذه القوة وهذه الاستمرارية والتدفق. ومع هذا لا يستطيع المجتمع لكي يبقى إلا أن يستقر في النهاية أو أن يوازن نفسه من جديد، وعليه سيحتاج إلى أن ينتقل من باراديغم الحقيقة الذي يعيش فيه إلى باراديغم آخر يستوعب مآلات الثورة الحاصلة فيه والتي دمّرت البارديغم الأخلاقي والاجتماعي السابق. أظن أن أموراً كثيرة ستتغير في هذا الصدد ستزول أفكار ومعتقدات، بل وحضارات ودول وأديان.
حاولتُ منذ البداية أن أظل في هذا النص فيما وراء الخير والشر، لكني سأجازف برأي توجيهي في الخاتمة. نعم في الخاتمة، فلم تكن مقولة هيجل “لا تفرد بومة منيرفا جناحيها إلا بعد أن يرخي الليل سدوله” أكثر صدقاً في توصيف وضع الفكر بالنسبة إلى الواقع كما هو الحال مع إعصار التحول التكنولوجي الحالي. لكن لا بد من حدّ أدنى من الإرادة الواعية في توجيه الأشياء.
قد يكنس الإعصار عالماً قديماً عفناً صار جثة، لكنه قد يترك الأرض خربةً بعده إن لم يُصلحها الإنسان. لقد نُظِّر علينا طويلاً من مواقع ماركسية أو من مشتقاتها أن ثورة التكنولوجيا هي جزء من العولمة، لكن لننتبه أن هذه الثانية هي الأعم وأن العولمة هي التي تدور في فلكها لا العكس. لا يتعلق الأمر هنا بتلك الرؤية المحدودة للاقتصاد ودوره في تفجير شكل الدولة/الأمة بصيغتها التي حازتها منذ القرن التاسع عشر في أوروبا، ولكن بعالم يتفجّر وتتغير فيه آليات التحكم.
لم تعد الدول بقادرة على ضبط كل تلك التكنولوجيا وتفاعلاتها الثورية. لم يعد الأمر مجرد دول تتحكم بالتكنولوجيا، لا فهذا صار كلاسيكياً، بل في تكنولوجيا تتحكم في دول وتغير العلاقات الاجتماعية. هنا قد يصبح المخلوق خالقاً والخالق عبداً لما خلق. طبعاً الأمرهنا يظل مفتوحاً أمام الإرادة الواعية لعدم وقوع الإنسان في حالة الاستلاب الكلي وتحقيق شروط إنسانية أكثر عدالة وإنسانية. ولهذا لا بد من العمل ومن التنظيم والتفكير لاستدراك أخطاء الماضي ونواقصه وعيوبه التي جعل فيها من المرأة سلعة جنسية أو عبدا للعمل. هي فرصة إذن أمام المرأة “العربية” التي لم تعد تحت الوصاية ولا الرقابة لتعيد هي من موقعها بناء عالمها الجديد وتصوغ دورها في المجتمع فقد أصبحت حرّة من رقابتنا نحن الذكور على الرغم منّا وهذا لحسن حظها وحظنا.