فاوست العربي.. إضاءات في الاستشراق الأدبي
أن كتابه هو الذي أثار الزلزال المعرفي الذي تبلور على إثره ما دعي بـ »نقد ما بعد الاستعمار» .من المفارقة القول إن إدوارد سعيد الذي يعتبر أحد مؤسسي هذا الضرب من النقد الذي تأخر الاعتراف به كمنهج مؤثر في البحث حتى التسعينات، لم يتطرق إلى مصطلح نقد ما بعد الاستعمار بالذكر في أي من كتابيه: "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية" ولكن من المحقق أن "الاستشراق" هو في المآل الأخير العمل الذي دشن هذا النوع من النقد تعددي المنزع بمقارباته التي تمتح من معين أنظمة معرفية تسعى إلى سبر النزعة المركزية الأوروبية ونقضها، وإماطة اللثام عن دورها في صناعة الآخر، أو قل (الشرق) الذي اخترعته أوروبا، وروّجت له بالمعنى الذي يتجاوز المعنى الجغرافي، فأصبح ماثلا على المستوى الأنطولوجي باعتباره خطاب كينونة جوهرانيا يكرس أسطورة الطبائع الثابتة. وهكذا يصبح "الشرق شرقا والغرب غربا ولن يلتقيا" على حد تعبير "كيبلنغ"، ويصير صدام الحضارات حقيقة ثابتة لا سبيل لإنكارها أو الالتفاف عليها.
غير أن من الضروري التعقيب على هذه المحاجَّة بالقول إن إدوارد سعيد حاول في أطروحته الكشف عن الطبيعة الأيديولوجية لهذا الصدام، ولم يتطرق تحديدا إلى البحث في إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب في إطارها الأدبي، فالشرق والغرب التقيا ويلتقيان ضمن ذلك الإطار، وهما مستمران في تفعيل هذا اللقاء وفق شروط تفرضها علاقات القوة غير المتكافئة بين الطرفين. ولهذا ينبغي لدى استعراض هذه "الأنابيش"، أو قل الإضاءات التي تكشف ملامح من الاستشراق الأدبي، التذكير برأي إدوارد سعيد في هذه العلاقات. يقول سعيد: "المستشرق يستطيع أن يقلد الشرق ولكن العكس ليس صحيحا".
وبعبارة أخرى فإن المستشرق قادر (بسبب علاقات القوة غير المتكافئة) على الأخذ عن الآداب والثقافات الشرقية دون أن يصبح مقلدا لأصل شرقي. أما الشرقي فإن تقليده للغرب أو أخذه عنه يجعله مقلدا حسب خطاب الأصالة الذي ينطبق عليه وحده.
خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت صورة الشرق في الآداب الغربية تعكس ملامح مستمدة من الشرق الأدنى. وقد صار هذا الشرق العربي الإسلامي المرآة الرمزية التي يرى الغرب نفسه بها. وبعبارة أخرى فإن الاستشراق الأدبي هو صانع تلك المرآة الرمزية التي تعكس شرقا خاصا بالغرب يستجيب لحاجاته. فعندما ترجم ريتشارد بيرتون (ألف ليلة وليلة) إلى الإنكليزية (ولم تكن الترجمة الأولى) زودها بهوامش فاضحة حاول فيها إشباع نزواته المقموعة التي لم يكن باستطاعته التعبير عنها في مجتمع فكتوري متشدد أخلاقيا، فأحال ملاحظاته الشهوية إلى شخصيات (ألف ليلة وليلة) وألصقها بهذه الشخصيات في عملية تتبع لما هو موجود حسب رأيه في الشرقين الأوسط والأقصى، وذلك وفق عمليات تقليد أو استلهام للآداب الشرقية يختلف شكلها وطبيعتها بين حكاية أو رواية أو سردية ملحمية وأخرى. ومن هذه الأعمال -على سبيل تعداد القلة لا الحصر- رواية فلسفية للدكتور جونسون عميد الأدب الإنكليزي عنوانها (تاريخ راسيلاس أمير الحبشة)، تجري أحداثها بين السويس والقاهرة. ونذكر منها أيضا قصيدتين ملحميتين للشاعر بايرون هما: "القرصان" و"جور" (Giaour). الأولى تروي قصة كونراد القرصان الشجاع الذي يتصدى لباشا تركي يحاول احتلال الجزيرة التي يتخذها قاعدة له. وعندما يلتقي الطرفان يوهم القرصان خصمه بأنه دوريش مسكين فار من القراصنة، ولكن حيلته لا تنطلي على الباشا إذ يصاب بجرح بليغ ويقع في الأسر ولكن ليس قبل أن ينقذ جلنار إحدى محظيات الباشا التي كانت سجينة في جناح للحريم. وتحاول المحظية التي أولعت بالقرصان أن تقدم له خنجرا يذبح به الباشا خلال نومه، وعندما يشعر القرصان بالنفور إزاء هذه الفكرة ويعجز عن تنفيذها تسارع جلنار إلى قتله بنفسها ويفر الاثنان إلى الجزيرة التي كان يتخذها قاعدة انطلاق له فيجد أن حبيبته التي سبق أن هجرها لدى شروعه في مغامرته قد ماتت حزنا عليه.
وأما القصيدة الملحمية (Giaour) وهي كلمة يقول الشاعر كولردج إنه يمكن إرجاعها إلى أصلها العربي (جور) فهي تروي قصة أمة تدعى ليلى: تعشق الأمة (جور) الشخصية البايرونية التي جعلها الشاعر بطلا لملحمته فيعاقبها سيدها (حسن، بأن يضعها في كيس يغلقه ثم يرميه في البحر. ولكن (جور) سرعان ما يقتله انتقاما منه لـ(ليلى). بعد أيام يشعر بطل الملحمة بالندم فيعتزل الحياة ويصبح ناسكا في أحد الأديرة.
وفي ملحمة أخرى عنوانها "لالا روخ" يروي توماس مور قصة يسرد أحداثها بمزيج من الشعر والنثر. واللافت أن (لالا روخ) هي ابنة امبراطور الجزيرة العربية. كما أن أحد أبطالها فارس يدعى ابن خراسان المقنع. ويبدو أن توماس مور استوحى هذه الشخصية من قصة "المقنع الكندي" في التاريخ العربي.
ومن القصائد الملحمية التي تصنف في عداد الحكايات الشرقية، قصيدة عنوانها: "ثَعْلَبَة المٌدَمِّر" للشاعر ساوثي. "ثعلبة" هذا تحريف لكلمة (ثعلب). وهي قصيدة ملحمية تعتمد في بنائها على إحدى حكايات ألف ليلة وليلة. يقول ساوثي: "من يقرأ الحكايات العربية لا بد أن يجد أنه قد استوعب المعرفة الضرورية لفهم مقاصد هذه القصيدة واستكناه روحها". وتدور فكرة هذا العمل حول ساحر مغربي سبق أن أسس في تونس مدرسة خاصة بتعليم السحر. وكما يستعين "فاوست" بالشيطان لقاء بيع روحه له حسب الأسطورة الشهيرة التي اعتمدت إطارا معروفا في الآداب الغربية، فإن هذا الساحر يلجأ إلى إبليس الذي يتردد باسمه العربي في الملحمة. فينذر نفسه لمهمة التعاون معه من أجل تعليم السحر لأبناء الحكام. ولكن الذين تتلمذوا عليه من هؤلاء يفشلون في تعلم فنون السحر وإتقانها فيلقي بهم في كهوف مخصصة للتعذيب. وهنا يتدخل أمير سوري يدعى عبدالرحمن، أتقن فنون السحر على نحو تفوّق فيه على الساحر المغربي، فيتغلب عليه ويطلق سراح السجناء. ومن المعروف أن السحر هو فن استدعاء القوى فوق الطبيعية بغرض الإيحاء بالسيطرة على القوى الطبيعية. ولهذا فهو يستخدم في الملحمة كحيلة تقنية تهدف إلى التأثير في أحداثها وجعل شخصياتها مؤثرة.
الواثق بأمر الله
أشرنا إلى ظهور الروح الفاوستية في الأدب الإنكليزي من خلال ملحمة (ثعلبة) للشاعر ساوثي التي تصنف في عداد الحكايات الشرقية التي بلورت الحركة الرومانسية، وبخاصة ألف ليلة وليلة كما هو معروف. غير أن رواية الواثق Vathek التي ألفها وليم بكفورد بالفرنسية أولا قبل أن يترجمها إلى الإنكليزية في عام 1986 ويشفع عنوانها بعبارة "حكاية عربية" هي التي اعتبرها النقاد صورة نموذجية لـ"فاوست العربي". والحال أن هذه الحكاية رواية تُسْرَدُ وفق تقنيات مستمدة من ألف ليلة وليلة، كما أن أسماء أبطالها عربية وشرقية، والأجواء التي تدور فيها ذات منطلقات تاريخية حقيقية تسخّر لخدمة خيال المؤلف وشطحاته وأهوائه. تبدأ أحداث "الواثق: حكاية عربية" وهذا هو عنوانها بالإنكليزية، وتعتبر نواة لجنس يدعى الرواية القوطية Gothic Fiction تبدأ في مدنية (سرّ من رأى) قبل أن تتحول إلى "سامراء" أو "ساء من رأى". ويقدم وليم بكفورد شخصية بطلها على النحو التالي: (الواثق هو الخليفة التاسع من الخلفاء العباسيين، وهو ابن المعتصم وحفيد هارون الرشيد.. ونظرا لتوليه العرش مبكرا وتمتعه بالمواهب اللازمة، فقد كانت رعيته مدفوعة إلى أن تتوقع أن يكون حكمه طويلا وسعيدا). ويصف المؤلف بطل الرواية بقوله إنه كان مفعما بالقوة والشهوانية. ونظرا لأن الواثق بأمرالله هو حفيد هارون الرشيد الذي يتردد اسمه في ألف ليلة وليلة، فإن هذه الصلة بين الجد الأكبر والحفيد هي التي تمكن المؤلف من التوقف عند هذه النقطة لينطلق منها مطلقا العنان لمخيلته المفعمة بالإسراف والجموح. فهو يحاول تقديم الخليفة كشخصية "فاوستية" لا تعتقد على حد قوله: "إن من الضروري تحويل هذا العالم إلى جحيم من أجل أن يستمتع المرء بالفردوس في الحياة الأخرى". وبعبارة أخرى فإنها شخصية مناقضة للشخصية الإسلامية المنضبطة. وهكذا يصبح الواثق بأمرالله "فاوست" الأسطوري الذي يعقد صفقة مع الشيطان يحصل بموجبها على حق الاستمتاع بحياة من الفتوة طويلة الأمد ومفعمة بالملذات مقابل خسارة روحه.
وبدلا من أن تكون هذه الصفقة معقودة بين "فاوست" و"ميستوفليس″ كما تشير الأسطورة المعروفة التي استخدمها كتاب وشعراء عديدون من أمثال غوته الألماني ومارلو الإنكليزي، فإنها تصبح صفقة طرفاها "الواثق بأمرالله" و"إبليس″.
ومن الشخصيات التي تؤثر في الخليفة والدته اليونانية الأصل "قراطيس″ وهي شخصية مستمدة من الواقع التاريخي، فوالدة الواثق كانت يونانية، ولهذا فإنها لا تدين بدين ابنها. ويصفها المؤلف بأنها ساحرة تعلّمه السحر وتحاول أن تعرّفه على ما يعتبره المسلمون مشروعا في أخلاقهم الدينية، ثم تسعى من ثمة إلى إقناعه بالابتعاد عن الإسلام والتمتع بالحياة وملذاتها. وهكذا ينطلق الواثق في رحلة البحث عن الملذات فيغادر مدينة سرّ من رأى إلى مدينة استكار Istakar التي تقبع تحت خرائبها مملكة "إبليس″ الأرضية التي باع (الواثق) روحه للشيطان لقاء الوصول إليها واكتشاف أسرارها. ويرافقه في تلك الرحلة عدد من الأمراء، وما أن تقع عيناه على "نور النهار" ابنة أحدهم، وكانت باهرة الجمال حتى يبادر إلى الزواج منها حيث تشاركه في رحلة البحث عن عالم "إبليس السفلي". وسرعان ما يكتشف (الواثق) خواء ذلك العالم تحت الأرضي، ولكن اكتشافه كان متأخرا، فقد اشتعلت أجساد الباحثين عن تلك السعادة الملعونة وتحولت بفعل نار شبت فجأة إلى حقل من الرماد.
هازلت الناقد الإنكليزي اعترض على تلك الحكاية لأنه رأى أنها تضمر حقدا على الجنس البشري، غير أن نقادا آخرين رأوا أنها مشحونة بقدر عظيم من السخرية البارعة. فإذا تجاوزنا المشاهد المرعبة التي تملأ النص والإشارات المقززة التي تصدم القارئ العربي، ويمكن اعتبارها من قبيل التنميطات السلبية التي تصطنع شرقا خياليا مصنوعا لإرضاء نزوات غرب يشعر بأن علاقات القوة بينه وبين الآخر علاقات غير متكافئة، إذا تجاوزنا ذلك كله أمكننا أن نتفق مع بعض النقاد الذين رأوا في "الواثق" رواية سحرية بارعة قبل كل شيء. ولكن الأمثلة على الإشارات السلبية ذات الطابع النمطي كثيرة، فقبل أن يصل الواثق بأمرالله إلى عالم إبليس تحت الأرضي، "يقوم بالتضحية بخمسين صبيا"!
وعندما تشير الرواية إلى إحدى زوجات الخليفة، وهي امرأة حبشية، يقول المؤلف ساخراً إنها اعتادت أن تحمل الواثق على كتفيها "مثل كيس من التمر". بل إن قيام الخليفة بإلقاء خطبة عصماء كان يرافقه استهلاك كمية كبرى من الفاكهة في الوقت نفسه. وفضلا عن ذلك فإن الأقزام الذين يملأون بلاطه لا يترددون في القفز على كتفيه والهمس بالأدعية والصلوات في أذنيه. صحيح أن هذا الضرب من السخرية ربما أسهم في إضفاء مسحة من النزعة العبثية على الأحداث، إلا أنه لا يساعد على نموها عضويا، فكأن هذا العبث مركّز لهدف السخرية من الآخر، بل تثبيت الصور النمطية السلبية الخاصة به.
ومما يعزز ذلك أن الرواية مليئة بإشارات تتعلق بالممارسات الدينية الإسلامية، كالدعوة إلى الصلاة، والآذان من المآذن وتلاوة القرآن وطقوس الموت التي يستعرضها الكاتب في أعقاب مصرع "نور النهار".. هذا فضلا عن عبارة (لا إله إلا الله) التي تتردد في كل مكان.
آية ذلك كله أن الثيمة الشرقية وما يرتبط بها من تقنيات ليست وحدها التي صنعت الاستشراق الأدبي، وإنما رافقت ذلك عملية تثبيت مستمرة لصور نمطية ذات طبيعة سلبية. هذه الصور كثيرا ما تهدف إلى إرضاء النزعات المقموعة لدى الكاتب بقدر لا يقل عن سعيها -عن قصد أو غير قصد- إلى الإسهام في تشويه صورة الآخر.
وهذا ينطبق كما أسلفت على ما فعله ريتشارد بيرتون مترجم ألف ليلة وليلة في الهوامش التي ألحقها بها لكي يوهم القارئ بأنه يقدم له معلومات بريئة تنتمي إلى الأنثروبولوجيا التي تدرس حياة الشعوب الشرقية وتَسْبُر عاداتها. وقد تكرر هذا الصنيع على نحو أشد ابتذالا وذلك في ترجمته لكتاب "الروض العاطر" للشيخ النفزاوي.
وربما تصلح رواية "الواثق بأمرالله" من حيث مضمونها الذي يعكس ممارسات وليم بكفورد للجنسية المثلية رغبته في القيام بعملية إسقاط على الآخر، تتيح له أن يتخفى وراءها. وقد اختار بكفورد السرد الحكائي المستمد من الليالي العربية مسرحا لعملية الإسقاط هذه. وكان هذا الكاتب ثريّا لم يرث عن أبيه لقب "لورد" فحسب بل ثروة طائلة أنفقها بعد أن انتخب عمدة لمدينة "لندن" على تشييد قصر Fonthill Abbey الباذخ الذي بناه على الطراز القوطي. وهناك عاش حياة اللهو والقصف والشذوذ التي جسدها في روايته هذه التي أسقط فيها حياته الشخصية على الخليفة الواثق في إطار أسطورة (فاوست) عربيّ فَصَّلَهُ على مقاسه.