المصائر مقررة في السماء بانتظار حدوث المعجزة
ما لم نتمكن من تحقيق إجماع على إعطاء العقل والفكر مكانته المناسبة في مواجهة تحولات الزمن والتحديات المختلفة للعصر لن نتمكن من تحرير أنفسنا من براثن وأعباء الأجيال السابقة والمضي قدمًا نحو المستقبل وإعادة بناء الحضارة. وبقدر تعلّق الأمر بالتفكير وإعمال العقل فإنّنا لن نتمكن من التغيير عن طريق الجلوس مكتوفي الأيدي والصلاة على أمل أن تحدث معجزة، بينما تخطو الأمم الأخرى خطوات متسارعة ومهولة نحو المستقبل. أما هؤلاء التقليديون الذين يعتقدون خطأً بأنّ كل مصير أو متغير، سلبيًا كان أم إيجابيًا، قد تقرر سلفًا في السماء، وأن أيّ جهد أو محاولة هي مجرد وهْمٌ ميؤوس منه وغير ذي جدوى، فهو بالتأكيد أحد الأسباب التي أدت إلى تخلف أمتنا.
وبالعودة إلى رصد أبرز النظريات المتخلفة أو الاتكالية التي جعلت وظيفة العقل العربي-الإسلامي تتراجع وتضمحل، هي نظرية انتظار خروج “المهدي” الذي سينقذ المسلمين ويقودهم نحو الانتصار على أعدائهم ويملأ الأرض عدلاً بعد أن تمتلئ جوراً. وحسب ابن خلدون فإن مثل هذه النظرية إنّما أُريد بها تخلف المسلمين ودفعهم للركون إلى الانتظار وتقبّل مصيرهم وعدم فاعليتهم في الفكر والجهد الإنساني وبالتالي جعلهم أكثر سلبية وقدرية.
لقد حرّر القرآن العرب والمسلمين من الجهل والنزعات القبلية في غضون بضعة عقود من الزمان، ونشر الإسلام تعاليمه ورؤيته الإنسانية في الشرق والغرب، ونتج عن هذا الانفتاح والتّوسع إقامة أوّل مجتمع أيديولوجي في التاريخ، نتيجة لاعتماده على الوعي والمعرفة، ثم تسلّم المفكرون المسلمون في العصور الوسيطة مهمة التنوير والبحث عن المعرفة بحريّة وفق أسس العقلانية والقوانين الطبيعية، الأمر الذي جعل من المسلمين ـوقتهاـ في مقدمة الأمم.
لقد تفوّقت ثقافة العقلانيين المسلمين وأثّرت على الفكر الغربي الأوروبي كلّه وأحدثت ثورة في طريقة التفكير، انعكست بشكل واضح وعميق على الثقافة الأوروبية، الأمر الذي مهد لدخول أوروبا عصر النهضة الفكرية والعلمية التي قامت على تأسيسات العلماء المسلمين.
فما الذي أدّى إلى تراجع طريقة التفكير وإهمال العقل الإصلاحي ومواصلة النهضة الفكرية والعلمية؟ لقد لعبت الكثير من العوامل دورًا محوريًا في هذا التراجع في الحقيقة، من أهمها القراءة والتفسير الخاطئين للدين وطريقة فهم النصوص المقدّسة من جهة، وتأويل ما ليس له دلالات علمية في تلك النصوص من جهة أخرى.
إنّ النظرة الجامدة والحرفية في فهم القرآن والراديكالية التي هيمنت على المفسرين في العهود المتأخرة من تاريخ الدولة الإسلامية، لا سيما في عهد الدولة العثمانية، هو الذي أدى لانتشار طرق التفكير غير العقلانية التي لا تستند إلى قوانين الطبيعة. يقول الباحث والمفكر الإسلامي الماليزي أحمد فاروق موسى في كتابه “الإصلاح الراديكالي” بهذا الصدد ما معناه، إنّ المسلمين في العصور المتأخرة وقعوا تحت هاجس النموذج الإقصائي بدل انتهاج المبادئ الأساسية في التفكير، والواقع أنّنا كي نتقدم ونثبت بأنّ الإسلام دين يتناسب مع حقوق الإنسان الأساسية والمفاهيم الحديثة للأمة يجب أن يكون الدين متماشيا مع المنطق السليم.
وإذا ما أردنا اتّباع طريقة وآلية التفكير لدى الراديكاليين المسلمين فإن جميع التعاليم السماوية رفعت منزلة الإنسان وجعلته خليفة الله على الأرض وأرقى منزلة حتى من الملائكة، فكيف يفسر المنطق تلك الرفعة أو الخلافة؟ أعتقد أن الجواب واضح وجليّ يتلخص في قدرة البشر على التفكير والتفوق العقلي على بقية الكائنات، وبالتالي وراثة المعرفة والقدرة على استخدام العقل، وهي من أبرز الخصائص الفريدة للبشرية.
إنّ غياب النقّديّة الجدلية عن العقل العربي النكوصي الحالي هو أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تراجع العقل الإصلاحي إن جاز التعبير، ذلك لأن تعطيل الخاصّية الجدلية في التفكير معناه إعطاب الفكر وتحييد وظيفة العقل، ومن مظاهر هذا النكوص اليأس من الإصلاح بالدرجة الأساس وتراجع الثقة بالمعرفة كمغير كوني والركون إلى الغيبيات والإيغال في التفسير الحرفي للنصوص، حتى بالنسبة إلى طبقات واسعة من المثقفين العرب الذين وجدوا أنفسهم في لحظة حاسمة من التاريخ عاجزين عن مواجهة الردّة الشاملة التي تسببت بها الأنظمة السياسية والدينية السائدة في منطقتنا العربية تحديدًا، ناهيك عن القدرة الساحقة للإعلام المتخلف على التأثير، وبالتالي وجد المثقف نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، إما مواجهة تلك الموجة العارمة من أساليب التفكير وأنماطه الظلامية وبالتالي نبذه وخروجه من التركيبة الفكرية النمطية أو الوهمية (كما حصل للكثير من المفكرين والمثقفين) التي ما فتئت تتشكل وتزداد صلابة أو مهادنتها ومحاول إيجاد مشتركات فكرية بين ما يعتقده ويراه وبين أنماط التفكير الراديكالية السائدة.
إنّ تقهقر العقل نحو العصبويات القبلية التي وجد لها تأسيسًا ما في تراثه بطريقة أو بأخرى ناتج عن طريقة التفكير النكوصي وعدم التخلص من عادت وأنماط التفكير القديمة التي تهيمن عليها في الغالب مفاهيم الأبوية والمشيخة والتقاليد البالية وتأليه رجال الدين ومفسّريه وتطويعهم كأداة من أدوات الاستبداد الشاملة
لكن ما هي السبل الكفيلة بالخروج من هذه المعضلة؟ وهل للثقافة عمومًا دور يذكر في تأسيس أو ابتكار أنماط تفكير جديدة؟ في الواقع لا يمكن تخيل الخروج من تلك الأزمة من دون التفكير بمفهوم الحريّة المطلقة في الحوار، ونظرًا لكون المثقّف كائنًا كونيًا وجدليًا، حسب جيرار ليكريك، ليس من حيث الظرف التاريخي والثقافي الحديث وحسب، بل بسبب رؤيته المهنية القديمة جدًّا والمتلخصة بالبحث عن الحقيقة في مختلف دوائر النشاط الإنساني، “إنّ ما يسمّى (معنى التاريخ) لن يشكّل معيار الحقيقة الوحيد ولكن أيّ خطابات أو ممارسات، ستكون نتيجة لذلك، خارج دائرة البحث والتقصي الحر والنقاش والحوار وإعمال العقل، وهذه هي الأسس التي تشكّل أساس النشاط الفكري النابع من الحداثة..”.
والواقع أن جميع التحديات التي نواجهها الآن هي التحديات نفسها التي واجهها الإصلاحيون السابقون متمثلة بالركود الفكري، ونتيجة لهذا الانخفاض في العقلانية فإنّنا نشهد انحلال العالم الإسلامي اليوم.
يشعر الجميع تقريبًا الآن بالفخر نتيجة لتأثير الحضارة العربية والإسلامية في العصور الوسيطة، في وقت كان الغرب لا يزال يتمرغ بالتخلف في العصور المظلمة، فثمة آلاف العلماء والفيزيائيين والرياضيين والكيميائيين وعلماء الفلك والأطباء العرب والمسلمين، وتلك الخبرة العلمية والفكرية المتراكمة التي أقامت الأسس المكينة لبيوت الحكمة، حسناً، ولكن كل ذلك يبقى في طيات التاريخ الآن، ولا يشكّل فرقاً يذكر في طريقة وأنماط التفكير السائدة في عالمنا المعاصر ما لم نسع لاستخدام العقل وتحقيق مفهوم العدالة وامتلاك الإرادة الحقيقية المستندة إلى العقلانية والابتعاد عن التفسير التعسفي للنصوص.
لا يمكن تحديد وصفة نهائية للتخلص من أنماط التفكير النكوصي في الواقع، ما لم نكن مستعدين لتقبّل وفهم الواقع السياسي المحيط بنا. لقد أدت قرون من الردّة والتخلف والانحطاط إلى فسح المجال لهيمنة الطامعين واللاأخلاقيين في العالم المعاصر الذين لا يتورّعون عن انتهاج مختلف الأساليب وأقذرها لتحقيق غاياتهم، وعلى رأسها تعطيل الفكر وإقناع الأفراد بعقم المحاولة والشعور بالنكوص والتردي والإيمان بالغيبيات، ناهيك عن البحث في موروثات الشعوب عن أيّ ممكنات يمكن استغلالها لإشاعة روح اليأس والإحباط تلك.
تقول الكاتبة الأميركية ميرديل لو سويور “إنّ تاريخ الشعوب المضطهدة مخفيٌّ في الأكاذيب والأساطير التي يروجها الغزاة”، وبالتالي فإنّ الاشتغال على تدمير الأمم يبدأ بتعطيل عقولها وإغراقها بأنماط متردية من طرق التفكير الشوهاء وابتكار المعرقلات الأيديولوجية من وحي فكرها وتاريخها ومرتكزاتها العقائدية. لننظر إلى قضية تنامي المدّ الإسلامي الراديكالي الذي استخدم في حقبة ما لتمكين بعض المستبدين الطموحين من امتلاك السلطة وترسيخ هيمنتهم عليها، وكيف استغلته دوائر الاستخبارات الغربية لصنع نموذج ما يسمى بـ”داعش” وكيف تمكنت من استنباط مستنداته الفكرية من طريقة وأنماط التفكير النكوصي السائدة، وكيف جرى استغلاله للقضاء على المتنفسات الثورية والطموحات التنويرية لدى شعوب المنطقة، بواسطة الخلط المتعمد، لتحقيق الهدف الحقيقي لتلك الدوائر، المتمثل ليس بتحرير الشعوب من الاستبداد بل لتحطيم البنى التحتية المادّيّة والفكرية لها، ناهيك عن خطل الحركات الثورية التي استندت بالدرجة الأساس إلى الشعارات الساعية للتغير المفاجئ والسريع والجذري، من دون إيجاد مرتكزات فكرية حقيقية لمفهوم الإصلاح التدريجي والتمهيد بتغيير أنماط التفكير والسعي للإصلاح العقلي، لا سيما بطريقة وأنماط تفكير الشباب الجدد الذين هم في الغالب الأداة الحقيقية للتغيير مهما كان نوعه.
إنّ تقهقر العقل نحو العصبويات القبلية التي وجد لها تأسيسًا ما في تراثه بطريقة أو بأخرى ناتج عن طريقة التفكير النكوصي وعدم التخلص من عادت وأنماط التفكير القديمة التي تهيمن عليها في الغالب مفاهيم الأبوية والمشيخة والتقاليد البالية وتأليه رجال الدين ومفسّريه وتطويعهم كأداة من أدوات الاستبداد الشاملة، كما أن إسباغ القدسية على الأب أو المعلم أو الموجه أو الحاكم سيؤدي في المحصلة لتعطيل العقل وعدم إعمال الفكر، فبالنسبة إلى المرأة المنسحقة تحت تأثير العادات والتقاليد البالية والمحاصرة في بيتها أو الشاب اليافع الموضوع تحت طائلة التهديد والتخويف من العقوق وعدم الإيفاء لتضحيات الوالدين مع أنّها من بديهيات الحياة، كلّها محبطات ومعطلات للتفكير، الأمر الذي ينتج في المحصلة قوّة اجتماعية هائلة تتجاوز النصف معطلة عن التفكير واستخدام العقل بالكامل.
لا بد أن تكون الجامعات معاقل للحريّة في أيّ مجتمع من المجتمعات، وينبغي أن تكون بعيدة عن التدخل الحكومي في أغراضها وأنماط تدريسها وأهدافها الأساسية في البحث والتعليم، وعلى الأكاديميين أنفسهم السيطرة على إدارتهم الأكاديمية، ولا يمكن أن تصبح الجامعات مؤسسات علمية حقيقية في حال عدم توفر مثل هذه الظروف
إنّ الأخلاق -المواقف والسلوكيات والقناعات إلى حدٍ ماـ يجب أن تجد بيئة مدنية لتنظيمها، بيئة متفهمة وعقلانية ومنطقية تستند إلى الطبيعة البشرية والكونية، وليست بيئة الأديان والتكيات والمساجد التي خُصصت للعبادة وحسب، إن فصل نمط التفكير المدني عن أنماط التفكير الدينية المستندة في الغالب إلى جاهزيات فكرية -غير قابلة للمناقشة أو التمحيص- لهو أولى الخطوات الحقيقة لامتلاك حريّة التفكير والقدرة على استخدام العقل، كما أنّ التدين الظاهري العام منبعه الرغبة لإرضاء العالم وطمأنة القوى الكبرى المتحكمة في السياسة والاقتصاد العالميين وليس الإيمان، بدليل أنّنا نرى معظم الداعين لهذا المفهوم والقائمين على إشاعته يتمتعون بالحياة المدنية وما تقدمه من مباهج أثناء زياراتهم المتواصل للغرب.
إن التمييز بين استخدام الدين كرمز ظرفي من جهة وكنمط من العلاقة الروحية بين الإنسان وخالقه من جهة أخرى هو من أولويات التحرر من النكوص الفكري، وطالما أن الدين والعبادة يتطلبان كمًا كبيرًا من التوحد والصفاء الذهني بين العابد والمعبود فإن الخروج بأنماط تلك العلاقة إلى العلن ومحاولة إقحامها في الصراعات السياسية والعنصرية والشوفينية لهو نوع من تعطيل الفكر، أنظر كيف يُرفع الأذان في محطات التلفزة الفضائية التي تبث لمختلف قارات العالم حيث تختلف مواعيد التوقيت والصلاة، الأمر الذي يجعل من عملية بث الآذان ممارسة رمزية يُراد منها الإعلان عن الهوية لا أكثر وإخراج الروحي والمقدّس والإلهي من إطاره الذاتي إلى اليومي العام والمتداول والمبتذل.
أيضاً لا بد من القول إن التظاهر بأداء الصلاة وسط الاحتجاجات وأمام خراطيم المياه ووسط تدافع الناس والصراعات يحيل الفعل الروحي والوجداني إلى ممارسة رمزية يُراد توظيفها في الصراع اليومي المتداول، لأن أبسط مقومات الصلاة هي التوحد والهدوء والصفاء الذهني كما ذكرت. إن الخروج من هيمنة التدين الظاهري والتخلص من سيطرة الحشود وتأثيراتها اللاواعية على الفرد هو أيضاً أحد أنماط إعمال العقل وتنمية وسائل التفكير لدى الأفراد.
وفي المحصلة لا بدّ من طرح السؤال بالطريقة التالية: هل يمكن للثقافة أن تلعب دورًا في تنمية وتحديث وسائل وأنماط التفكير؟ نعم بالتأكيد ولكن أيّ ثقافة نقصد هنا، هل هي الثقافة التي تسعى لتحييد الجمهور وتنمية روح الجدل والتمحيص والمقارنة لديه أم الثقافة النمطية السائدة التي تسعى لتلبية احتياجات الجمهور المستسلم قدريًا حسب عادات التفكير البالية؟
إن الثقافة الحقّة يمكن أن تلعب دورًا خطيرًا على هذا الصعيد في الواقع إذا ما امتلكت الرؤية العميقة والأساليب المبتكرة التي يمكن أن توجه الجمهور نحو طرح الأسئلة والشكّ وعدم التسليم الافتراضي بالأنماط السائدة، وبالتالي إعمال روح الجدل لديه كما أن جزءًا كبيرًا من البيئات الثقافية المتمثلة بالجامعات والصروح العلمية والمعاهد العليا ما زال معطلاً عن مثل هذه المهمة.
لا بد أن تكون الجامعات معاقل للحريّة في أيّ مجتمع من المجتمعات، وينبغي أن تكون بعيدة عن التدخل الحكومي في أغراضها وأنماط تدريسها وأهدافها الأساسية في البحث والتعليم، وعلى الأكاديميين أنفسهم السيطرة على إدارتهم الأكاديمية، ولا يمكن أن تصبح الجامعات مؤسسات علمية حقيقية في حال عدم توفر مثل هذه الظروف والاشتراطات، لأن شرط حريّة التفكير والجدل والمقارنة هي من أساسيات التعليم الحقيقي كما هو معروف.
وبالتالي إذا ما تمكّنت الجامعات من تحقيق هذا الشرط الحيوي يمكنها أن تسهم بشكل فاعل في تغيير نمط التفكير والتحريض على الجدل وتنمية الثقة لدى الأجيال الجديدة للمضي قدمًا في تقويض المحبطات العقلية الجامدة والظلامية لأن دور الجامعة الحقيقي هو تعزيز صراع الأفكار وتصادمها على صعيد اختبار نتائج البحوث مع علماء آخرين على سبيل المثال، ونقل المعرفة الجديدة للطلاب. وبالتالي فإن حريّة الكلام والمنطق والتفكير أساسية لتلك الجامعات بما يمكّنها من الحفاظ على الإحساس بالإنسانية المشتركة ودعم التسامح والتفاهم المتبادلين اللذين يشكلان أساس أيّ مجتمع حرّ. وهذا بطبيعة الحال يجعل الجامعات والمؤسسات العلمية خطرة على الحكومات الاستبدادية التي تسعى إلى خنق القدرة على طرح الأسئلة الصعبة ومحاولة الإجابة عليها وإعمال العقل والتفكير.