الوطنية المكلومة
“أن تمارس فعل الكلام فأنت تقاتل” (ليوتار).
في المسعى نحو الكشف عن التفاعل الدلالي للأنظمة الحاكمة للعلامات داخل أيّ مجتمع تتبدى أهمية الوقوف العميق عند المضمر النسقي الكامن فيها والعمل على تفكيك عرى العلاقات التي تمسك بزمامها الموجهات والأطر الراسخة والمعاني الثابتة والقناعات المترسبة في الأعماق، تلك التي تتطلع عادة نحو نبذ أيّ فعالية للحراك والتفاعل والنقد.
لقد فرض الشائع والبديهي نفسه على الواقع حتى ترسّخ وأضحت ترسباته الطبقية موغلة في العمق تعصى على الحفر أو تلمّس المعنى فيها، فهي حاضرة وجاهزة (هكذا وجدنا آباءنا…). تلك التي أصبحت تابوهات محرّمة غير قابلة للمساس وهي الحاجز والحجاب الثقيل الذي راح يغطّي بثقله على منافذ النور أو كوّة الضوء الشحيح مهما صغر، تحت دعوى الحفاظ على السلام الاجتماعي باعتبار ما توفره من سياقات وبيئة تحكمها العلاقات التي اتفق عليها الجميع، وصار لزاما عليهم الخضوع لها والتماهي مع متطلباتها وإجراءاتها وشفراتها والأكواد الناظمة لها.
فوضى العلامات
القراءة الثقافية للواقع العراقي الراهن تحيلنا نحو الوقوف عند ظاهرة “تقاطع العلامات” وليس “أنظمة العلامات”، فالأوضاع التراجيدية التي تحيط به تجعل منه يعيش تحت وطأة التداخل والتشظي والتقاطع والتحلل والانحدار. إنه الواقع الذي يحيل إلى تبني شعار “(إلى الوراء دُر” بكل ما فيه من تدهور وتدنّ، ومن دون شائبة تعلوه، تراجع مريع مهول مخيف لم يعد يجدي فيه القول واللغة والكلام، حتى استكانت الناس إلى تداول “لقد أسمعت…..” وبإفراط ممل وغزارة مريعة تبعث على السأم والمرارة والكآبة.
في ظل التحولات التي يعيشها العراق تبقى دالة الانقطاع في التواصل هي المتسيدة على المجمل من الفعاليات، فـ”الناس في السر غير الناس في العلن” كما يقول الرصافي. وليت الأمر يقف عند حدّ يمكن تلمّسه أو الوقوف عنده، بل إن الأوضاع العامة صارت تدل على إنتاج هذا المركب المتداخل من المعاني والدلالات المقطوعة تلك التي تترهّل عندها اللغة والخطاب والرؤى والتصورات. إنها “ولاية بطيخ” تلك التي يعسر فيها تمييز العلاقات الداخلية فيها، وهو الغموض الذي ما برح ينتج المزيد من الدلالات المفجعة حيث التداعي التراجيدي لصورة الدولة تلك التي ما انفكت تحضر بعدتها الأيديولوجية. لكنه الحضور الهزيل الضعيف البئيس، فالمواطن لم يجد من هذا الحشد الهائل من السيطرات الأمنية سوى الخروقات الأمنية التي تمارسها القوى الإرهابية بحق المواطنين، لا النخبة الحاكمة. ومن هنا تتبدى أحوال العبث في المكونات الثقافية للصور التي اختزنتها الذاكرة الوطنية والذهنية العامة، حول صورة “جهاز الأمن”، فإذا كان السابق قمعيا فإن اللاحق لا يظهر بوصفه جهازا أمنيا، بقدر ما يقوم على “المشهدية والعرض”. وإذا ما عبّر المواطن عن تبرّمه وضيقه من الإفراط والمبالغة واللاجدوى من هذا الكمّ من السيطرات سرعان ما تأتيه الإجابة الجاهزة من القائمين على تلك السيطرات، بـ”إنها الأوامر!؟”.
فضاء اللعب
مشهد يقوم على العلاقة التواصلية بين “جهاز الأمن” و”الحكومة” فيما يتم استبعاد جمهور المواطنين من اللعبة برمتها، فما عليه سوى الصبر والسلوان والقبول بالأمر الواقع، وعليه أن يتوجّه بالدعاء الحار العميق الصادق أن ينتهي الإرهاب ويلفظ أنفاسه “فالإرهاب لا دين له”، كما يقول الشعار الذي تتبناه الجهات الحكومية. ولا تختلف تفاصيل المشهد حول العلاقة القائمة بين الجهاز المؤسسي والإداري ذلك الذي راح يعمّق مدى تواصله مع الحومة، ويسعى بكل ما أوتي من قوة وقدرة للبعد والنأي عن المواطنين، حتى لم يعد يستبان من الجهاز المؤسسي العراقي، الذي تمت الإطاحة بثمانين سنة من عمره وتاريخه وتقاليده، سوى انعدام التقاليد الإدارية والارتجال الذي يضرب بأطنابه والحضور المخجل والمسف للمحاصصة والطائفية والنهاية المأساوية لمفهوم المصلحة العامة تلك التي بات تمثُّلُها يقوم على أنها نكتة سمجة غير قابلة للاحتمال والحضور المخل للولاء الجديد القائم على إيلاء صاحب الفضل “الممسك بتلابيب القرار” آيات الولاء والعرفان دون الالتفات ولو للحظة إلى المسؤولية تلك التي قيل عنها ذات يوم بأنها “تكليف لا تشريف”.
راح المواطن العراقي يعيش خيبة الأمل المضاعفة حول عدة الدولة وأجهزتها، الأمن المخترق والمؤسسة الحكومية التي يتناهبها الفساد، حتى أن الواقع العراقي بات ينتج المزيد من معاني الخداع، ذلك الذي ينطوي على فعالية المشاهدة وليس الاعتقاد الراسخ الصميم. لم يعد رجل الأمن قادرا على إنجاز معنى الأمن المفترض، بل تحوّل إلى مجرّد صانع علامات. ولا تختلف أحوال الموظف عن تمثل أوضاع اللعب بالمعاني، والتطلع نحو اغتنام الفرصة للكسب السريع اللامشروع.
في ظل الفرص الشحيحة للمواطن والحصار المادي والرمزي الذي يحيط به يكون التوجه نحو تفعيل مدار إنتاج المعاني، تلك التي تقوم على أحوال الكوميديا السوداء حيث التهكم والسخرية والهجاء المحمل بالمرارة والسوداوية الحالكة. إنها الأوضاع الحرجة تلك التي تحرك الأنساق الكامنة وتستدعي حيل الثقافة في إمرار شفراتها وعلاماتها. إنه التطلع نحو الكشف والتوجه نحو نزع الأقنعة من خلال بوابة لعبة التصحيف، ليصار إلى التحوير والتعديل والقلب في الألفاظ، فيما يكون التوجه نحو تحميل المفردات الرفيعة السامية المزيد من الهجائية السخينة. وهكذا يتم تصحيف الديمقراطية إلى دمقراطية والوطنية وثنية والنائب ناهب والنائبة ناهبة والسياسة نجاسة والمنجزات مقاولات والسُلطة سلَطة.
توجه الناس للبحث في ماوراء العلامة، حيث المسعى نحو الوقوف على المعاني المعلنة والمخبوءة في محاولة نحو تلمس المعنى. في كل هذا الثقل من اللاجدوى والتداخل والزيف والخداع والفساد والفوضى يقف العراقي اليوم واجما قانتا مهموما، يسترجع السؤال الأثير الذي تعلمه في القراءة الخلدونية “إلى متى يبقى البعير على التل؟” ذلك الذي جاء عفويا، فيما عمد العراقي إلى شحنه بالمزيد من التأويلات، وتحميله بما لا يطيق من التفسيرات والمعاني. لكنها الأقدار والحظ والبخت والقسمة والنصيب، ولك الله أيها العراقي.