غرافيتي عربي.. فن الشارع فن الحرية
هذا هو منطق فن الغرافيتي «الأصيل»، إذا جاز التعبير. هو ينمو كالأشواك في تشققات الأبنية المهجورة ويتناسل في الأحياء الأكثر شقاء. هو منبر عمودي «مُسطح» وغير شرعي تنطلق منه شتى مفردات الاختلاف والتمرد على السلطة بمعناها الأكثر انفتاحا على الاحتمالات.
تتألف كلمة «غرافيتي» من عبارتين «التاغ» و»الغراف». تعني الكلمة الأولى التوقيع المُشفر لفنان الغرافيتي، الذي كتب رأيه أو احتجاجه على الجدار، تعني عبارة «الغراف» الرسومات.
يعتمد فن الغرافيتي على منطق الكلام المكتوب. يعتمد كذلك على رسومات ليست أقل عنفا أو احتجاجا من الكلمات. ينصهر الاثنان أحيانا ليشكلا بنياناً بصرياً استفزازياً (كما هو الحال في الأعمال الغرافيكية التي تتبع التوجه الغربي).
تاريخيا، نشأ هذا النوع من العمل الفني في «مدينة الجداريات»، نيويورك وذلك في ستينات القرن الفائت قبل أن يتحول إلى ظاهرة فنية عالمية. غير أن أصوله تمتد في نظر كثيرين إلى فترة ما قبل التاريخ حين كان الإنسان الأول يعبر عن مخاوفه وأفكاره على شكل كتابات غامضة ورسومات تتبع سياقاً عاطفيا منفعلا. نذكر من تلك الأماكن التاريخية مغارة «لاسكو» و»تاميرا» كما عُثر لاحقا على بعض الرسومات والنقوش لشعوب بلاد ما بين النهرين، وشمال الجزيرة العربية، كما كان معروفا في الحضارة الفرعونية.
خرائط الغضب
انتشر هذا الفن خصوصاً في أحياء هارلم السوداء الأكثر حرمانا وارتبط بجيل المراهقين والشباب الذين لا تتعدى أعمارهم غالبا الخامسة والعشرين والذين تدفعهم رغبة عنيفة إلى تنفيذ كتابات مضادة للسلطة القائمة وإلى مخالفة السائد بشكل فاضح إن من حيث الألفاظ المشينة أو الرسومات الإباحية. يلعب عامل الرغبة في إثبات الوجود وتحقيق الاختلاف، عن طريق الإشهار البصري، دوراً كبيراً في انتشار هذه الظاهرة.
ينفذ هؤلاء الشباب، على اختلاف انتماءاتهم وأعراقهم، تلك الكتابات والرسومات، في الأماكن العامة وعلى الجدران الخاصة التي يمتلكها الآخرون أو الدولة. يقومون بذلك بسرعة كبيرة خوفاً من ملاحقتهم وإلقاء القبض عليهم من قبل السلطات التي تحظر تلك الممارسات المخلة بالقوانين والمتعدية على ممتلكات الآخرين.
تقنيا يعتمد هذا الفن بشكل أساسي على الرسم ببخاخات الأصباغ متعددة الألوان بخفّة على الجدران العامة في شوارع المدينة، خاصة تلك التي تقع في زواريب شعبية. كما يستخدم فنانو الغرافيتي أغطية كرتونية للتحكم في مساحة الرش، وأقلاما تنتهي بالإسفنج.
غير أن هذا الفن/الظاهرة ما لبث أن امتد إلى الحدائق العامة ومحطات المترو والساحات العامة. إثر هذا الامتداد بدأ فن الغرافيتي يشكل أزمة حقوقية ومادية (قبل أن يتحول لاحقا إلى خطر داهم يهدد كيان السلطات وما تمثله كما بات الحال إبّان الثورات العربية).
كلّف الفن الغرافيتي حتى يومنا هذا دولاً كثيرة كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أموالاً طائلة لتنظيف الجدران والممتلكات الخاصة من «خربشات» الغرافيتيين. رصدت السعودية مبلغ عشرين مليون ريال سعودي لمعالجة الجدران «المتسخة» وتصميم برنامج لاحتواء هذه الظاهرة المتفشية في مدينة جدّة، أما في مدينة برلين الألمانية فقدت عمدت السلطات المختصّة إلى تخصيص مبلغ مالي قدره 1200 يورو لكل شخص يدلي بمعلومات حول أي غرافيتيّ عابث.
غرافيتي على حائط في بيروت - تصوير جوزيف عيد 2014
مرايا الجدران
تردّ فئة من التربويين، والمرشدين الاجتماعيين العرب والأجانب عمل الغرافيتي إلى جملة من الأسباب أهمها عدم النضج «فالشباب سينضجون يوما ما ويتوقفون عن الخربشة على الجدران» أو أن «دافع التخريب هو سبب ظهور للغرافيتي» أو حتى «أن الغرافيتي هو نتيجة سوء تربية من الصغر».
ربما تحمل الأسباب المذكورة آنفا شيئا من الطرافة إذ أنها تهمل صوابية ما جاء على لسان أحد الغرافيتيين مجهولي الهوية حين قال «إن أردت أن تعرف ما يجري في مدينة من المدن، انظر إلى جدرانها». الغرافيتي هو مرآة للأزمات التي تحدد أشكال الدول ومستقبلها وهو روح المدينة الهادر في أوصال الحياة اليومية وظل ساكنيها القانطين أو الثائرين، فمن دفعه «النضج» إلى إغفال هذه الحقيقة دخل إلى متاهة المظاهر الرتيبة وتكللَ بعدميتها.
يعتبر العديد من الأخصائيين العرب أنه في ظل البطالة المستشرية فإن تقديم «بعض الوظائف البسيطة» لهؤلاء الشباب لن يُبقي لهم متسعاً من الوقت للكتابة على الجدران. لا شك أن للبطالة والفقر والأزمات النفسية أدواراً لا يستهان بها في نشوء الغرافيتي ولكن أليست حيوية العمل الغرافيتي هي من «العوامل» الفاعلة التي أخرجت تلك الأزمات إلى العلن الفاضح وتطلبت بعدئذ إيجاد حل سريع لها؟ أليس مجرد اعتبار الغرافيتي «آفة» هو دليل ساطع على الدفاع عن النمطية في تعارض ساذج مع طبيعة الحياة المتحولة.
ضد الجداريات
لم ينشأ الغرافيتي يوما في بلد من البلدان ليكون «تجميلا» أو «تحسينا « لمظهر المدينة! فالغرافيتي الشهير «جارود كنتز″ كان قد صرّح قائلاً: «بدلا من أن نهدم مبنى قديما لماذا لا نرسم عليه بالغرافيتي ونسميه «فنا»؟»، هذا الكلام كان له واعتبر سخرية من اعتبار الغرافيتي «فناً تجميليا».
فن الغرافيتي هو في جوهره اعتراض، تساؤل، وتنافر. إذا غابت عنه هذه العناصر أصبح فناً جداريا له أسبابه وأساليبه الخاصة كما له «تبريكاته» المؤسساتية الحكومية كانت أم المدنية.
عرفت مصر موجتين متتاليتين من الرسم الغرافيتي أولها بعد تنحي الرئيس مبارك عن الحكم وثانيها بعد بضعة أشهر على استلام مرسي الحكم
فن الجداريات فن من نوع آخر له أصوله ودوافعه ومواطن تنفيذه ولا يجب خلطه «بالغرافيتي»، كما يحصل الآن خاصة في لبنان، حيث يقف الرسام، بعد أن أعد الجدار وطلاه بالمواد المطلوبة لتلقي الألوان أمام العمل ويشتغل عليه ساعات طويلة برفقة مخطط ومساعدين وجمهور.
الغرافيتي «الأصيل» يشبه إلى حد كبير ما تركه الطلاب الفرنسيون على جدران باريس أثناء ثورة أيار 1968 وما رأيناه ونراه على جدران سوريا، ومصر وتونس، ولبنان أيضا وإن تميز هذا الأخير باختلاف نوعي مردّه مناخ الحرية الذي اعتاد عليه وإن كان قد أصبح اليوم مناخا صوريا.
ما يميز فن الغرافيتي اللبناني أنه أكثر تهكماً وفيه أجواء عبثية ما، كما أنه يتمتع ببرودة ذهنية راكمها عبر السنين.
لعل عمل الفنان يزن حلواني الذي يحمل اسم «غداً يوم أفضل» هو الأكثر تعبيراً عن تلك الفكرة بالتحديد. رسم الفنان بورتريهاً ضخماً لعلي عبدالله، المتشّرد الذي قضى حتفه برداً في شتاء العام الفائت في شارع بيروتي، وأرفقها بجملة «غداً يوم أفضل» المأخوذة من أغنية لفرقة «مشروع ليلى» التي تعد بدورها «غرافيتا لبنانيا سمعيا». خلد هذا الرسم ذكرى أحد أشهر المتشرّدين في بيروت. وليصير أكثر مصداقية من ناحية كونه عملا فنيا غرافيتيا رسم حلواني بعد أيام قليلة، وجه محمود درويش في المنطقة نفسها محتفلا بذكرى ميلاده. هكذا وضع «علي» البطل الشعبي المأساوي جنبا إلى جنب محمود درويش شاعر الأرض فبدا عمله حالة تعبيرية غرافيتية تعبر عن انصهار الجماعة بالفرد، المجهول بالمشهور، العابر بالخالد ليكوّنوا كلاً واحدا.
لصوصية هادفة
الغرافيتي هو فعل السارق والمسروق! كالنار يلسع ليصقل، مصيره أن ينطفئ متأثرا بالعوامل الطبيعية ومرور الفصول. وهو الفن الذي يتفاعل تحت «صبغات» غرافيتي آخر أراد بدوره «التعليم» وكثيرا ما أراد هذا الفن، بعد انطفاء حريق اللحظة الكاتبة، ذر الرماد في عيون المارين والرافضين لمساءلته: من أنت؟ ماذا تريد؟
لا يقتصر الغرافيتي على التعبير عن النقمة الشعبية أو الثورة على النظام بل نراه يشغل مساحات وجدرانا تنطق بالأزمات الشخصية أو السخرية على الذات وتفريغ الحمولة النفسية بشكل وقح أحيانا وأحيانا بمنتهى الشعرية أو الطرافة المباشرة. الأعمال التي تقتصر على أقوال مكتوبة بعفوية تنتمي انتماء حقيقيا إلى فن الغرافيتي أكثر من انتماء «اللوحات» المرسومة على الجدران بتأن وفن (كمثل «جدارية» الفنان التشيلي «إنتي» في شارع الحمرا التي كتبت عليها غريبة نزلت إلى مدينة وغريبة حطت على أحد جدران أبنيتها).
غالبا ما يكون مصدر هذه الكتابات العفوية على الجدران هو فئة مضطهدة ، أو فقيرة، أو مجرد «بوهيمية». هي صورة عمّا يحدث في المدينة غير الازدهار والإعمار والتسوّق. نذكر من تلك «المكتوبات» سيلاً من الأمثال في شوارع بيروت، والأوتوسترادات التي توصل المناطق ببعضها البعض قلبا وقالبا: «مقهى الصرصار دلهون»، «الحياة جزرة كبيرة» ، «إنتي فيلتر حياتي»، «بغيبتك نزل الشتي»، «ليش ما في كهربا؟»، «أنا أحمد اذكروني ، وإن لم تذكروني فعلى.. ما تذكروني»، «شعبي نعسان»، «يا مُربعي الصادم»، «قلبي من الحامض لاوي، لا مين شاف ولا مين دري» الخ… الحقيقة أن هذا النوع من التعابير حين يتطور أو ترافقه صور يشكل ما يمكن تسميته بالغرافيتي اللبناني الذي تأثر بالأسلوب السائد في نيويورك الثمانينات، بينما استنبط فنانو الدول العربية الأخرى أسلوبهم من الخط العربي الطيع الذي اعتبره الكثير من فناني الغرب خطاً فنياً بامتياز.
الغرافيتي في جوهره اعتراض، تساؤل، وتنافر، وإذا غابت عنه هذه العناصر أصبح فناً جدارياً له أسبابه وأساليبه الخاصة كما له "تبريكاته" المؤسساتية الحكومية كانت أم المدنية
الغرافيتي اللبناني
ما يميز فن الغرافيتي اللبناني أنه نما في جوّ من الحرية فخرج إلى العلن شخصياً ولاذعاً لا يترك أحدا «من خيره أو شره» حتى ذاته.
لا شك أن حيز التعبير عن الرأي هو على أفضله في لبنان على شرط أن لا تشمل حرية الرأي تلك «في رعايتها» ذمّ أو انتقاد الطبقة السياسية وإلا وقع المحظور. وفي ذلك سخرية كبرى: فها هي صيغة «الحرية التسامحية» الخبيثة تشمل فقط بحنانها تعرض فنان الغرافيتي لذاته بالقدح والذم وإلى مجتمعه المنخور بالفساد. أما أصل الفساد (الطبقة السياسية) فهو المنزه عن النزول للارتطام بالجدران على النحو الذي يستحقه. هو في عليائه يراقب ويبتسم…
نذكر من تلك الأعمال الغرافيتية هذه الأمثال: «لن يموت شعب لديه غرندايزر»، «بوس الواوا»، «خذّ» وهي كلمة بغنى عن التفسير و»طائر الفنيق» الذي صور على هيئة طبق من الفروج على صحن وبجانبه شوكة وسكين، «سكرة دايمة» بدلا عن صفرة دايمة. ونذكر أيضا العمل الغرافيتي الذي يحمل اسم «نحن معك» والقول مقرون بمطبوع لميكي ماوس في الإشارة إلى الفتوى التي أحلت دم هذا الفأر.
الدفاع عن "ميكي ماوس" يذكرنا كثيرا بما صنعه الفنان الغرافيتي روبرت بانسكي في الفيديو الشهير الذي نشره على اليوتيوب سنة 2013 والذي حاز على أكثر من خمسة ملايين مشاهدة أثناء فترة قصيرة. يظهر في الفيديو متطرفون إسلاميّون، في سوريا، يُحاولون إسقاط طائرة، وبعد أن نجحوا في ذلك يكتشف المشاهد أن الضحية هو الفيل الظريف «دمبو» الشخصية الكرتونية في فيلم ديزني.
بانسكي رسام إنكليزي «غامض» يتفادى الإعلام والظهور وهو ملقب «بالشهير المجهول»، ولعل ذلك ما يحفظ مكانته كرسام غرافيتي حقيقي في عيون الناس. مثير للإعجاب وللانتقاد على السواء لحدة تعليقاته على الجدران وبلاغتها البصرية. وصلت أعمال هذا الفنان إلى الجدار الفاصل في فلسطين المحتلة حيث رسم طفلة فلسطينية تقوم بتفتيش جندي إسرائيلي بعملية معكوسة. كما رسم (تعاطفا مع الثورة السورية) بنتاً صغيرة في يدها بالون على شكل قلب أحمر.
فرقة «أشكمان» تعد أهم الفرق الغرافيتية اللبنانية وهي تتألف من الأخوين عمر ومحمد قباني. في إحدى المقابلات الصحفية قال عمر «أرسم ضمن فريق «أشكمان» الذي يعتمد اللغة العربية، أما اسم الفريق فهو مستوحى من اللهجة العامية اللبنانية «أشكمان»، وهو تعريب لكلمة (echappement) الفرنسية أي عوادم السيارة، كما استوحينا أيضاً وظيفة «الأشكمان» وهي تنظيف السيارة من الأوساخ من الداخل إلى الخارج، فقررنا أن نقوم بالعملية ذاتها بالنسبة إلى المجتمع، ونخرج الأوساخ إلى الخارج، إلى العلن».
غرافيتي على حائط في كفرنبل/ إدلب للفنان السوري أحمد جلال - تصوير فادي مشان 2014
محاولات الترويض
عمدت العديد من الدول إلى تحويل، الغرافيتيين الحقيقيين، خفافيش الليل الدامس الذين يتجولون تحت جنح الظلام كي يتركوا آثارهم على الجدران، إلى حمائم سلام في ضوء النهار.
استطاعت بعض الدول «ترويض» الفن الغرافيتي عبر سنّ القوانين التي تغّرم الغرافيتيين وصولا إلى زجهم في السجن. كما اعتمدت أساليب أكثر «لطفا» أو «خبثا» (لا فرق)، وذلك عبر تنظيم مهرجانات وتخصيص جوائز للفنانين بعد تخصيص أماكن محددة لهم لكي يرسموا عليها كل ما يريدون وضمن «اللياقة والحدود» التي تفترض ضمنا عدم التعرض للأنظمة السائدة والنافذين في المجتمع.
نعطي مثلا على ذلك ما حدث في مدينة فيلاديلفيا الأميركية سنة 1984 حين طلب عمدة المدينة من الفنانة التشكيلية جين غولدن إدارة شبكة لمكافحة أعمال الغرافيتي. استطاعت أن تبني برنامجا يحمل اسم «برنامج فن الجداريات» تعيد فيه تأهيل مجموعات الشبان العاطلين عن العمل.
قالت الفنانة تمّ «ترويض أفكارهم المتطرفة لصالح المجتمع وتنمية الحس الجمالي لديهم» وهكذا تحول شغب الأمس إلى لوحات فنية عملاقة هي دعوة للتآخي والفرح والتغيير».
هناك تجارب عربية ضمن هذا الخط نذكر منها النشاط الذي حمل اسم «واو بلدك» لتمكين المرأة من خلال الغرافيتي وكان من ضمن اللوحات، أو الجداريات المعروضة لوحة للفنانة البحرينية مريم حاجي، التي أظهرت صراعا بين أسد وامرأة، في الإشارة إلى نضال المرأة ضد القوانين الاجتماعية السائدة.
يذكر أنه اكتفي بإنجاز هذا «المعرض» في مكان شبه مغلق تشرف عليه هيئات الرقابة على المصنفات الفنية. جاء رسم الغرافيتي على جدران داخلية غير مرئية للمارة. وبرّر مدير المدينة في أمانة عمّان الكبرى فوزي مسعد ذلك بقوله آنذاك: «لأننا قد لا نستطيع السيطرة على الأمور في الشارع" بغض النظر عن أهمية «تمكين المرأة في المجتمع" أو المستوى الفني للأعمال فإنها أبعد ما يكون عن فن الغرافيتي إلا من حيث اعتماد الجدار كالقماش المُعدّ للرسم.
أما التجربة اللبنانية في هذا المضمار فهي الأفصح إذا جاز التعبير إذ «انسلخ» جلد المدينة ليدخل إلى صالات العرض الكبرى ولكن بعد حصوله على «طعم» ضد الاعتراض على الأحزاب، السياسات، وأشخاص الدولة السابقين واللاحقين.
نذكر من تلك المعارض، المعرض الذي أقيم في «مركز بيروت للفن» تحت عنوان «الجدار الأبيض». احتضن هذا المعرض إلى جانب 19 فنانا لبنانيا فنانين من أميركا وأوروبا وجاءت الخلطة منمقة تحت رعاية رسمية رافقتها ندوات وورش عمل إلخ.
لبعض الأعمال قيمة فنية كبيرة ولكنها وعلى الرغم من اعتمادها على تقنية الغرافيتي ظلت أقرب إلى الجداريات المؤطرة التي تعرض في الصالات وتعلق في المنازل، وهي كسائر الأعمال الفنية تدخل المزادات العلنية وتباع بالملايين.
خارج الجدران البيضاء لـ»مركز بيروت للفن»، انطلق «الغرافيتيون» حينها ليرسموا على جدران المدينة بعد أن حصلوا على خرائط توزيعهم وحازوا على الموافقة على أعمالهم وعلى التراخيص من الدولة اللبنانية وبلدية بيروت.
غرافيتي على حائط في جربة تونس للفنان البرتغالي ماريو بليم 2014
انفجار القبة
يقول الفنان التونسي الغرافيتي Meen-One: «كنا نعيش في عهد الدكتاتورية كما لو أننا تحت قبة زجاجية، والآن انفجرت هذه القبة وصار بإمكاننا أن نعرض فنَّنا على كلِّ المجتمع″.
لا غرابة في هذا القول لأن انطلاقة الثورة التونسية كانت بداية لتغيير جذري في مفهوم الفن. هذا أقل ما يقال عن فن خرج إلى العلن بعد طول حصار. إذا كانت تونس هي من شهدت بداية هذا التغير فإن الغرافيتي خرج إلى شمولية المشهد الدامي في مصر أولا ومن ثمة في سوريا.
هناك أصبح الغرافيتي «المارد اللصيق» للثورة. أصبح الناطق باسمها ومحرض الخائف-الشجاع على متابعة الثورة. ليس حضور الدروس الفنية أو زيارة المعارض الفنية ما أحدث هذا التغيير بل الجرح الذي أخرج سمومه والكلمة التي خرجت من قمقم البطش. يحيلنا هذا الكلام إلى أعمال الفنان السوري التشكيلي همام السيد حين رسم كائناته كما «الكبيس في مراطبين» اتّحد فيها الملح مع الخل بغية «تمييع″ الحدود ما بين الموت والحياة وبين السجن والحرية.
ليس همام السيد بفنان غرافيتي لكن مثله مثل عدد من الفنانين السورين الذين أصبحت لوحاتهم أشبه بأعمال غرافيتية من حيث مضمونها.
من الفنانين أيضا نذكر الفنان عبدالكريم مجل بك التي تشبه العديد من لوحاته «جوهر» فن الغرافيتي إلى حد بعيد فهي متقشرة تحت رحمة التغيرات المناخية وعرضة لطبقات من الخربشات، والأثلام، والعبارات النابية، والثائرة على الواقع.
الغرافيتي المصري
إثر انطلاق الثورة المصرية في يناير 2011 أصبح الفن إحدى الوسائط التعبيرية الأساسية في التعبير عن الثورة الشعبية والدعوة إلى العصيان المدني، الثورة ضد النظام والمطالبة بتحقيق العدالة والحرية.
المكان الذي انطلقت منه شرارة فن الغرافيتي الذي استلهم الثورة كان ميدان التحرير حيث ارتدت الجدران أحلام المصريين صوراً وكتابات اكتسبت قيمة فنية عالية، إذ اختلط التاريخي بالأسطوري، والواقعي بالرمزي بشكل أعطى لهذا الفن هوية فنية متفردة.
عرفت مصر موجتين متتاليتين من الرسم الغرافيتي أولها بعد تنحي الرئيس مبارك عن الحكم وثانيها بعد بضعة أشهر على استلام الرئيس مرسي الحكم إذ عمد هو الآخر إلى التشدد وقمع الحريات وكأن الثورة لم تحدث. أثناء هذه الفترة عمدت مجموعة من شباب الثورة إلى توثيق تاريخ الغرافيتي الثوري منذ نشأته واتصاله بثورة يناير ثم أطلقوا على هذا الفيلم اسم «الصرخة الصامتة». على الرغم من غزارة الأعمال الغرافيتية التي عرفتها مصر فإن سوريا تبقى الصرخة الأبعد مدى في فوهة البركان المشتعل. يكفي أن نعرف كيف بدأ فن الغرافيتي هناك لكي ندرك حجم المأساة التي عاشها ويعيشها القلب السوري.
خربشة سورية
«وُثّق» تاريخيا أنه، هناك، في درعا كُسر حاجز الخوف واشتعلت نيران الثورة حين خرجت مجموعة من التلاميذ تتراوح أعمارهم بين الـ15 والـ18 من الأسر وآثار التعذيب بادية عليهم. أما الجريمة التي ارتكبوها فكانت أنهم كانوا أول فناني الغرافيتي في سوريا. رشوا شعارات مناوئة للحكومة على جدران مدرستهم. بعد ذلك بدأت سوريا تستقبل شهداء فن الجرافيتي ومنهم الناشط نور زهرة فنان «كفر سوسة» الذي عثر عليه مستشهدا والبخاخ لا زال في يده.
رسومات وكلمات الغرافيتي لم تنحصر في سوريا بل خرجت منها لتصل إلى عواصم عربية مثل بيروت حيث انتشرت على سبيل المثال صور رئيس النظام السوري بشار الأسد على أرض شارع الرصيف البحري في طرابلس ومكتوب عليها «ادعس هنا».
غرافيتي على حائط في غزة/ فلسطين - تصوير عادل ذا النون 2014
دفاتر المجانين
يقول مسرحي سوري شاب غادر مؤخرا إلى بريطانيا: «هناك قول مأثور في سوريا وهو «الحيطان دفاتر المجانين» كتب السوريون على الجدران في سوريا مطالبهم، لذا يمكن اعتبار الجدران ألواحا للمجانين حقاً، لأن المجنون في المجتمع السوري، وضمن آليات قمع النظام السوري، هو المعارض. لذلك كان من الطبيعي أن تكون الجدران السورية هي ألواح المجانين».
أثناء الثورات العربية انتقى فنانون غرافيتيون عبارات وأبياتا شعرية لأبي القاسم الشابي وأمل دنقل وصلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وبابلو نيرودا ولوركا وأحمد فؤاد نجم ومحمود درويش، وغيرهم. ولعل كلمات محمود درويش هي أكثر الكلمات التي انتشرت على جدران الثورات العربية. منها ما هو بسيط مثل»وطني ليس حقيبة» ومنها ما يحمل في طياته تأويلات مثل «مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم؟».
من قصائد الأبنودي العامية نعثر في بعض الرسومات الغرافيتية على «الثورة مش حكر.. لا ملكك ولا ملكي»، ومقتطف من كتابات بابلو نيرودا «يمكنك أن تسحق الأزهار ولكن ليس بمقدورك أن تؤخر قدوم الربيع″.
أشارت إحدى المواقع الصحفية أنه في دوما السورية «رُسمت قصيدة «لا تصالح»، وتكمن أهمية ذلك في المزاوجة بين اللوحة والمكان، فالحائط الذي اختاره الفنان ليرسم عمله، هو ما بقي من منزل دمره قصف الطيران الأسدي».
من الأعمال الغرافيتية السورية الأكثر نقمة على الرئيس الأسد عمل «سردي» يخبر قصة «أمنية سحرية» في السياق ذاته الذي كان فيها البشر الأولون يرسمون مشاهد الصيد كنوع من الطقوس الشعائرية التي تجمع بين رسم الصيد وتحقيقه. العمل الغرافيتي هذا يجسد مشهدا جنائزيا يحمل فيه مجموعة من شهداء الثورة الأسد ويرمونه في صناديق القمامة. يصرخ الرئيس، عند سقوطه في القمامة مع السابقين من الرؤساء المخلوعين، «مشان الله لا تحطوني مع القذافي»، والشهداء يرددون: كمّل العدد.. أشعلوا النار».
بخاخ الذاكرة
يقول فنان الغرافيتي روبرت بانسكي «يقال إنك تموت مرتين. مرة حين تتوقف عن التنفس ومرة حين يتلفظ أحدهم باسمك لآخر مرة».
يؤمن الغرافيتي السوري بذلك. اسم الطفل حمزة الذي استشهد تحت التعذيب على يد النظام السوري «يهجى» كل مرة على الجدران العربية وكأنها المرة الأولى. أسماء الشهداء الغرافيتيين الذين سقطوا وهم «يبخون» الجدران بأصباغ مُخططة تدين النظام هم الخارجون من الموت إلى الخلود. من المعروف أن «الرجل البخاخ» لا يدع اسماً من أسماء الشهداء يسقط سهواً من كتابته على جدار الحيّ الذي استشهد، أو اعتقل فيه، فعلى سبيل المثال بعد اعتقال الناشطين كفاح ديب ورامي الهناوي في مدينة صحنايا، كتب الرجل البخاخ على الجدران هذه المدينة: «رامي هناوي، كفاح علي ديب: في قلوبنا. كتيبة الرجل البخاخ» فدخلوا بذلك فضاء الأسطورة الشعبية من الباب العريض.