ماهية الحقيقة.. عبدالغفار مكاوي قارئاً هيدجر
قد بدأت علاقة مكاوي بالفلسفة الألمانية عن طريق حبه للغة الألمانية في سنوات مبكرة من حياته، ضمن ولعه بتعلم اللغات عموماً، حيث تعلم الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية. وقرأ للعديد من الأدباء الألمان وأعجب بـ”جوته” عندما قرأ له رواية “آلام فارتر”، ثم قام بالتدريس للألمانية والترجمة منها خاصة أعمال “يوختر” و”برخت” و”جوته” و”هولدرلن”، بالإضافة إلى العدد من الشعراء الأوربيين المعاصرين.
ولمكاوي مؤلفات عديدة في الأدب والفلسفة. ففي مجال الأدب أسهم بعدد من المجموعات القصصية على رأسها “ابن السلطان”، “الست الطاهرة”، “الحصان الأخضر يموت على شوارع الإسفلت”، وله مسرحيات منها “من قتل الطفل؟”، “زائر من الخية”، “دموع أوديب”.
وفي الفلسفة كتب عدة دراسات هامة منها “لم الفلسفة؟”، “المنقذ”، “الحكماء السبعة”، “النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت”، “نداء الحقيقة”.
وهذا الأخير هو موضوع هذه المقالة حيث يتناول ثلاثة نصوص تدور حول مفهوم الحقيقة عند أفلاطون وهيدجر، وسيكون كلامنا متعلقاً بمفهوم الحقيقة عند هيدجر في محاولة للكشف عن طبيعة العلاقة التي بين مكاوي وهيدجر من خلال البحث في الكيفية التي تناول بها مكاوي مفهوم هيدجر عن الحقيقة.
وبهذا المعنى سنحاول الإجابة عن السؤال: كيف قرأ مكاوي هيدجر؟ ومن خلال الإجابة سنتوصل إلى الإجابة عن سؤال آخر مضمر: إلى أيّ مدى كان مكاوي هيدجرياً؟
شعرية القراءة
يعتبر مكاوي من الفلاسفة العرب القليلين الذين يجمعون في كتاباتهم بين عمق الفكرة ورشاقة الأسلوب. ويرجع السبب في ذلك إلى ارتباط مكاوي بالفلسفة من ناحية، وبالأدب من ناحية أخرى. وعلاقة مكاوي بالأدب -كما ذكرنا- علاقة قوية وعميقة، لأنه ترجم وألّف في مجالات الشعر والمسرح والقص، وهو الأمر الذي ترك أثراً إيجابياً على أسلوبه في الكتابة الفلسفية التي عُرفت لدى القراء غير المتخصصين بالغموض والتعقيد.
وإذا أضفنا إلى ذلك ولع مكاوي بالأدب الألماني والفلسفة الألمانية خاصة لدى هيدجر لاستطعنا أن نضع أيدينا على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الأسلوب الفلسفي الأدبي ذي الطابع المميز والخاص لدى مكاوي. ويكفي أن نعرف علاقة هيدجر بالشعر واحتفائه بهولدرلين حتى يتأكد لدينا هذا المعنى. فهيدجر يفكر بالشعر، ويربط بينه وبين الحقيقة، كما يربط بين اللغة والوجود، وعلى نفس النهج يمكننا أن نقول إن مكاوي يمضي في ذات الطريق ويسعى إلى نفس الغايات.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يتعلم مكاوي من هيدجر منطق السؤال بحيث يكون نقطة انطلاقة الدائمة في معظم كتاباته وتأملاته الفلسفية العميقة. فكيف تحقق ذلك؟
يستهل مكاوي كتاب “نداء الحقيقة” بتمهيد يبدأ بالسؤال: ما الحقيقة؟ أين نجدها وكيف نعرفها؟ ولا يتوقف الأمر عند مجرد طرح السؤال، وإنما يأتي السؤال في صورة آدمية مجازية بديعة، فيقول “بأيّ سهم فريش طائرها الأبيض المستحيل، أي قفص يتسع لآفاقها البعيدة وأسفارها العديدة في البلاد والأجيال؟” (مارتن هيدجر، نداء الحقيقة، ترجمة وتعليق ودراسة/ د.عبد الغفار مكاوى، القاهرة: دار الثقافة للطباعة والنشر، سنة 1977، ص1).
ويستمر في إيراد سيل كبير من الأسئلة على مدار صفحتين كاملتين تدور كلها حول المعاني المختلفة للحقيقة والمدارس والمذاهب التي تناولتها، سواء عند الأقدمين أو المحدثين، سواء أكانت عند الإنسان العادي أو لدى الفلاسفة أو الأدباء أو الفنانين. ويعبِّر في النهاية عن غزارة الأسئلة وضرورتها بالنسبة إلى الإنسان قائلاً “أسئلة لا آخر لها صحبت الإنسان منذ أن بدأ يعي ويعبِّر باللغة، وستبقى ما بقى العالم والإنسان. وضعت عنها مئات الكتب والبحوث، واختلفت حولها المذاهب والعقول والقلوب، وستظل مختلفة مادامت تواجه الألغاز في الباطن والظاهر والداخل والخارج” (المرجع السابق، ص 3).
ويلاحظ أن مكاوي هنا يستعير منطق السؤال من الفلسفة ومنطق اللغة من الأدب حتى يمكنه أن يصوغ إشكاليته عن الحقيقة عبر علاقة جدلية بين ما هو فلسفي وما هو أدبي، ويتبدّى تداخل الأدبي في الفلسفي، لا في السياق اللغوي -الشعري على الأخص- ولكن في السياق الحياتي الواقعي كذلك.
فمكاوي لا يقارب الحقيقة كمنظِّر أكاديمي يجلس في برج عاجي أو كعالم يمارس أبحاثه داخل مختبره مقطوع الصلة بالعالم. إن مكاوي يعيش الإشكالية ويواجه أسئلتها من واقع حيرته ومعاناته الشخصية، ورحلته الطويلة الشاقة التي انتهت به عند هيدجر الذي يعد بمثابة الدليل بالنسبة إلى المسافر في صحراء المعرفة، والمرفأ الآمن لكلّ سفينة ضلّت طريقها في متاهات البحار فيقول “ولقد عشت معها في الفترة الأخيرة من حياتي، وحيّرتي كما حيّرت غيري. ثم دلّتني رحلتي الطويلة مع ‘هيدجر’ إلى اختيار درب واحد من متاهاتها والاكتفاء بخيط واحد من عقدتها” (نفس الموضع).
ويكشف لنا مكاوي عن مكانة هيدجر في تاريخ الفكر الفلسفي باعتباره قامة فكرية كبيرة اختلفت حولها الآراء حتى وصلت إلى التناقض، فهيدجر -كما يراه مكاوي- لا ترجع أهميته إلى كونه “فيلسوفاً” بالمعنى التقليدي المفهوم من الكلمة، لكنه يمثل تحولاً بارزاً في الفكر المعاصر ودعوة للإنسان إلى فكر جديد. وبهذا المعنى لا يقتصر تأثيره على ميدان الفلسفة فحسب لكنه يمتدّ ليشمل ميادين أخرى كثيرة من شعر وفن ونقد أدبي إلى علوم طبيعية ونفسية وطبية وإنسانية.
ويبدو هيدجر فيلسوفاً إشكالياً بالنسبة إلى مكاوي فإما أن ترفضه كله أو تقبله كله، لأنه ينطوي على محاولة جبارة لنسخ كل ما سبقه أو على الأقل إعادة النظر فيه. وهو موقف من شأنه أن يضع القارئ لهيدجر في قياس إحراج عبَّر عنه مكاوي قائلاً “فإما أن تتبنى وجهة النظر الجديدة فتجرفك وتستولي عليك بحيث يصبح كل ما سبقها في ذمة التاريخ، أو تحكم عليها من وجهة نظر ثابتة آمنت بها أو اعتدت عليها، فتبدو لك كل فلسفة هيدجر طلاءً لفظياً ونقشاً معقداً بغير جدار يستند إليه.. فإذا حاولت أن ترتفع فوق كلا الطرفين.. وجدت صعوبة في اكتشاف الجوانب الإيجابية التي سلمت من مبالغات الأصدقاء والأعداء” (نفسه، ص 4).
وبوحي من التجربة الشعرية يقترح مكاوي طريقاً رابعاً يرى أنه الأجدر بالإيقاع لسبر أغوار الفلسفة الهيدجرية العصيّة على السيطرة والفهم، وهو طريق طويل وربما يكون مستحيلاً، فيقول “ولا يبقى لك إلا أن تدخل بنفسك عالم الفيلسوف لتحاول أن تجرب تجربته ‘من الداخل’ قبل إصدار حكم موضوعي أخير” (نفسه، ص 6).
وبالرغم من أن مكاوي يطالب القارئ بأن يدخل تجربة هيدجر بنفسه ويتأملها من الداخل، وهي مسألة لا بد وأن يتداخل فيها الذاتي مع الموضوعي، إلا أنه يطالب بالنظرة الموضوعية المنصفة التي تكشف عن الوجه الحقيقي لهيدجر وتردّ له حقّه الضائع في زحمة الأحداث والظروف الملتبسة والخانقة. إنها موضوعية -برغم ذلك- من نوع خاص، لأنها لا تعتمد على تجرد القارئ من الظروف والملابسات التي تحيط به وتؤثر على تفسيره، لكنها -على العكس- تعتمد على تجرد هيدجر نفسه -موضوع القراءة والبحث- من الظروف والملابسات التي ألمّت به ووضعت تفكيره وفلسفته في دائرة ضيقة من إساءة الفهم. وفي هذا الصدد يقول مكاوي “لعل السنين المقبلة أن تقدم النظرة الموضوعية الصالحة للحكم عليه، بعد أن يتغير الزمان والجوّ الذي تعيش فيه، ولا يعود هيدجر مجرد فيلسوف ‘أزمة’ يتحدث للإنسان في ‘محنة وجوده’. عندئذ يمكن أن تخبو هالة السحر التي تشعّ من جبينه، كما تخفت أصوات السخط التي تتعالى حوله، عندئذ يوضع في ميزان العقل الصحيح” (نفس الموضع).
ومكاوي بهذا المعنى -وبمصطلحات التأويل الكلاسيكية- لا يرغب في إعادة بناء الظروف التاريخية للمؤلف على نحو ما كان يدعو شليرماخر، وإنما على العكس يرمي إلى هدم هذه الظروف والقضاء عليها وإزاحتها من أمام طريق قارئ هيدجر حتى يخلو له وجه هيدجر خالصاً من كل شائبة.
وإن كان يترك هذه المهمة للزمن فهو القادر على خلخلة الظروف وإذابة الملابسات والإبقاء فقط على كل ما هو حقيقي وأصيل. إنها نفس رؤية جادامر عن المسافة الزمنية الكفيلة بالإبقاء على التحيزات المشروعة التي صمدت عبر العصور ضد اختبارات العقل وحادثات التاريخ، لكن مكاوي لا يفهم المسألة على هذا النحو لأنه يقرأ هيدجر بمصطلحات هيدجر نفسه، وهو يريد أن ينقي الذات القارئة كما عمل على تنقية الموضوع المقروء (هيدجر) بحيث يكون اللقاء صميمياً منتجاً لنوع من الفهم المتعالي المتجاوز لواقعه.
وعن هذا المعنى يقول “لا شك أن قارئ هيدجر يشعر بجو قاتم مفجع، ترفرف عليه أجنحة الموت والمأساة. ولكننا نخطئ لو أسأنا فهمه وتصوّرناه داعية اليأس والتشاؤم والعدمية واللامعقولية كما نعته الكثيرون. فتفكيره في محنة العصر لا يجعله نذير خراب، وحسه الجاد العميق لا يسبغه بسواد التشاؤم” (نفسه، ص 7).
إن مكاوي لا يدافع عن هيدجر بقدر ما يدافع عن طريقة في التفكير، طريقة تملك القدرة على فهم الموجود الإنساني في ماهيته وفي أصالته باعتباره الموجود الوحيد المتجاوز لوجوده، المتخارج عن نفسه المتّجه إلى المستقبل في إسكافية مفتوحة، “فهو لا يبلغ النهاية أو التمام أبداً، بل يحيا دائماً حياة كائن ‘لم يكن يعد’، لأنه يسعى إلى تحقيق إمكاناته ولا بد أن يعلو فوق الحاضر باستمرار. هذا العلوّ قانون أساسي من قوانين وجوده المرتبط بالمستقبل” (نفسه، ص ص 7-8).
وكما عمل مكاوي على تخليص فلسفة هيدجر من أبعادها السياسية والاجتماعية، فقد عمل -كذلك- على تخليصها من أبعادها اللاهوتية المؤولة التي ألصقت بها من قبل الباحثين والشراح الذين اتهموها بالإلحاد والبعد عن الدين.
وفي هذا الصدد يرى مكاوي أن هيدجر نفسه يرفض أن توصف فلسفته بالإلحاد، وينكر هذه الكلمة كل الإنكار، بل إنه يصرّح في بعض أحاديثه بأن فكره يهيئ “بعد القداسة” الذي ينبغي أن يسبق كل حديث عن الله أو الدين.
ويكفي أنه لم يغلق باب الحوار بينه وبين رجال اللاهوت المسيحي الذين أفادوا كثيراً من فلسفته. هذا بالإضافة إلى تأثير التصورات الدينية عليها بصورة لا يمكن أن تخطئها العين.
وهنا يبيّن مكاوي بعض المواضع التي تلتقي عندها فلسفة هيدجر بالدين، فيتساءل “ألا يذكّرك وصفه الإنسان بأنه الموجود الذي يهتم بوجوده وكلامه عن الهم وحرصه على تحقيق الوجود الأصيل بما تسعى إليه الأديان من الخلاص والنجاة؟ ألا تلمس في تحليلاته للذنب والضمير أصداء بعيدة من الخطيئة الأولى؟” (نفس الموضع).
وفي كل الأحوال يرفض مكاوي منطق “القوالب الجاهزة” التي يضع فيها الباحثون فلسفة هيدجر، بحيث لا يقرأونه إلا داخل تصنيف معين، ضيق ومحدد. ويعود ليؤكد على ضرورة فهم تفكيره من الداخل، ومحاولة التعاطف معه، لأن ذلك التعاطف هو السبيل الوحيد للاقتراب من فلسفته والإنصات لحكمتها العليا، حكمة الوجود الذي نسيته الفلسفة الغربية عبر تاريخها الطويل واهتمت بالموجود. إنه تحول من الكلي إلى الجزئي، من الوجود الأصيل إلى الوجود الزائف والمبتذل.
هذا، ولا يعني التعاطف مع هيدجر عدم التوجه إليه بالنقد والتسليم بكل ما جاءت به فلسفته، ولكن أن يكون النقد مرحلة لاحقة على التعاطف، أو لنقل أن يكون النقد متأسّساً على التعاطف. وفي هذا الصدد يصرح مكاوي بمنهجه الذي اتخذه لنفسه في قراءته لهيدجر قائلاً “وليس معنى التعاطف واللقاء أن نسيح في مجراه ونرتدي زيه ونتخذ موقفه وننظر بعينيه، فهذا تكرار شاحب لا يليق إلا بالببغاوات. بل معناه أن نتابعه على الطريق الشاق ونحقق حركته الفكرية في تطورها وصيرورتها قبل إصدار الحكم عليها وهذا هو موقفي الذي لا أحيد عنه. أما المتعجلون والمتزمتون منهم فلهم ما يشاؤون” (نفسه، ص 19).
فإلى أي مدى التزم مكاوي بدعوته هذه؟ وإلى أي مدى كان هيدجرياً؟ وإلى أي مدى كان محتفظاً بمكاويته؟ وهذا ما سنتعرف عليه في المبحث القادم.
هيدجرية مكاوي
إذا أردنا أن نعرف إلى أي مدى كان مكاوي هيدجرياً فعلينا أن نبحث في الطريقة التي تعامل بها مكاوي مع نصوص هيدجر، وفي هذا الصدد يتتبع مكاوي طريقة هيدجر في التفكير ليسير على هديها، وهي طريقة تهتم بالفكر أكثر من الحدث وتركّز على الحياة الداخلية أكثر من الحياة الخارجية، فهيدجر لا يهتم بجمع المعلومات عن الفلاسفة وتجاربهم مع العصر والناس قدر اهتمامه بتجربتهم الفكرية على نحو ما فعل في محاضراته التي كرّسها لتفسير واحد من نصوص أرسطو في كتاب الطبيعة، عندما بدأ هذه المحاضرات قائلاً “ولد أرسطو، تعب، ومات” في إشارة إلى رغبته في اختزال حياة المعلم الأول إلى محض تفكيره الخالص.
وعن هذه العبارة التي أوردها هيدجر، يقول مكاوي “ولا شك عندي أن العبارة نفسها تصدق على هيدجر. فالفكر والحياة عنده شيء واحد. والإشكال الذي دفعه للسؤال عن الوجود والحقيقة هو نفس الإشكال الذي ملأ عليه حياته، وصحبه خطوة خطوة على الطريق. ولهذا فإن دراسة هذه الخطوات التي قطعها في صبر ومشقة هي سبيلنا الأوحد إلى التعرف على تجربته مع الفكر والحياة” (نفسه، ص22).
ووفقاً لهذا النهج يرى مكاوي أن حياة هيدجر خالية من الأحداث الخارقة وأن تجربة الفكر نفسه في صراعه مع الوجود والحقيقة هي الحدث الوحيد الذي يتخلّلها ويحدّد ملامحها ويوضح تأثيرها وثورتها التي غيّرت خريطة التفكير الفلسفي في القرن العشرين، وفي عبارة دالة يقول مكاوي “خير ما نفعله إذن هو أن نتابع هيدجر على طريقته لكي نقدّر بعد ذلك مدى أصالة فكره وتأثيره على الحياة الفلسفية والعلمية المعاصرة” (نفسه، ص 25).
وتنبع أهمية هذه العبارة من أنها تلفت الانتباه إلى علاقة مكاوي بهيدجر وهي علاقة فيها الكثير من ولاء الأول للأخير والإخلاص لأفكاره. وسيتضح ذلك بنمو أكثر عندما نتعرض لواحد من نصوص هيدجر الهامة التي تناولها مكاوي في كتاب “نداء الحقيقة” وهو المعنون بـ “ماهية الحقيقة”.
“وماهية الحقيقة” محاضرة ألقاها هيدجر في خريف وشتاء سنة 1930 في مدن ألمانية مختلفة ويعتبرها مكاوي أول عمل فلسفي بالمعنى الكامل يظهر بعد “الوجود والزمان” و”ما الميتافيزيقا”، بل يعدها من أهم أعماله الفلسفية. فكيف تناول مكاوي نص “ماهية الحقيقة”؟
في الحقيقة أننا لكي نستطيع أن نجيب على هذا السؤال فينبغي علينا أولاً أن نتعرف على “ماهية الحقيقة” على نحو ما كتبها هيدجر وقرأها مكاوي. ذاك أن مكاوي -فيما نرى- إنما كان يتعامل مع النص الذي يتناول الحقيقة بنفس منطق النص ووفقاً لمفهوم هيدجر الخاص عن الحقيقة باعتبارها تكشفاً لا تحجباً.
فمفهوم الحقيقة عند هيدجر يتجاوز التصور التقليدي في الفلسفة الذي يذهب إلى أن مكان الحقيقة هو الحكم وأن ماهيتها هي التطابق بين الحكم والشيء. فالعبارة التي تحكم على قطعة نقدية بأنها مستديرة ليست هي نفسها شيئاً مستديراً، وليس الهدف منها أن تصبح هي الشيء الذي تعبِّر عنه، بل أن تكشف عن الحالة التي يكون عليها هذا الشيء. ويلخص مكاوي المعنى في عبارة واحدة قائلاً “أي أن العلاقة المميزة للحقيقة (أو الصدق) -وهي علاقة التطابق أو التوافق- علاقة من هذا النوع كما -هي- عليه..” (نفسه، ص 133).
ويمكن نقل هذا المعنى إلى قراءة مكاوي نفسها. فمكاوي لا يميل إلى إصدار الأحكام على النص الهيدجري، لكنه يحرص دائماً على أن يظهره على النحو الذي هو عليه. إن قراءة مكاوي بمثابة الإضاءة التي تسقط على النص فتجلي عناصره وجوانبه لتصبح واضحة للعيان، خاصة أن النص الهيدجري -عموماً- يتسم بالصعوبة واللبس والغموض.
إن مكاوي لا يسعى للقبض على النص والسيطرة عليه كما هو الحال في القراءات التقليدية، لكنه يمنح النص حرية التعبير عن نفسه، أي حرية أن يوجد. وهي حرية مستمدة من حرية مكاوي بوصفه منتمياً للموجودات الإنسانية، الوحيدة المتمتعة بالحرية وبالقدرة على التحرك خارج ذاتها واقترابها من حقائق الأشياء الموجودة في العالم الخارجي ورؤيتها في كليتها.
“فالكشف عن الموجود على ما هو عليه وفي كليته -وعلى هذا الكشف وحده تقوم كل حقيقة أساسية- يرتبط ارتباطاً مباشراً بالمسلك الذي يسميه هيدجر ترك الموجود يوجد” (نفسه، ص 138).
وبنفس الصيغة يمكننا أن نقول إن مكاوي في مقاربته للنص الهيدجري إنما يعمل دائماً على “ترك النص يوجد”. والإيجاد هنا بمعنى الظهور والكشف، فالنص -كسائر الموجودات- يكون في حالة تحجّب وعلى القارئ أن يفسح المجال له كي يتكشّف ويتبدّى في ذروة تألقه الوجودي.
وتنبع أهمية هذا المسلك -فيما يرى مكاوي وفقاً لهيدجر- في أنه يحمينا من السقوط والتورط في اتخاذ الموجود الجزئي مقياساً لكل وجود، وهو ما يحدث عادة في حياتنا اليومية وتصرفاتنا العملية.
وإذا كان ثمة دور من الممكن أن ننسبه لمكاوي في قراءته لهيدجر فهو دور لا يتجاوز الشرح والتوضيح وإزالة المتناقضات التي تتبدّى في فلسفة هيدجر، من ذلك ما وقع فيه هيدجر من دور منطقي في مسألة الحرية.
فعندما يشرع هيدجر في تفسير ماهية الحقيقة فإنه يقرر أنها هي الحرية. وفي ذات الوقت يفسّر الحرية عن طريق ماهية الحقيقة التي يزعم أنها أشد منها أصالة، وفي محاولة مكاوي إزالة هذا الدور المنطقي فإنه يقول “سيبقى هذا الدور قائماً ما بقيت نظرتنا إلى تفكير الفيلسوف نظرة تحليلية تهتم بالعزل والفصل، والقسمة والتمييز. ولو نظرنا إليه نظرة كلية توحّد بين خطواته ومراحله لاختفى الدور الذي توحي به عبارته” (نفسه، ص 153).
ويتبدى دور مكاوي في التوضيح والتفسير فيما يتعلق بغموض مصطلح التحجب الذي يتحدث عنه هيدجر كثيراً بعبارات مهمة عسيرة الفهم كأن يقول “إن التحجب يمنع ‘الإليثيا’ من التكشف، بل لا يسمح لها بأن تكون ‘ستيريزس′ (سلباً)، وإنما يحفظ لها (أي للإليثيا) أخص ما يخصها” أو أن يقول “إنه (أي التحجب) أقدم من ترك الموجود نفسه الذي يحجب أثناء قيامه بالكشف، كما يتخذ موقفاً من التحجب”.
وهنا يتصدى مكاوي لتقريب هذه المعاني الملتبسة للأذهان بعبارات سلسلة وألفاظ معبرة، فيقول “لا بد من تعليق قصير على هذه العبارات التي لن تفهم إلا في سياقها. فإذا كانت الحقيقة هي الكشف، وكان كل كشف يفترض الحجب، فإن اللاحقيقة ستصبح مرادفة لعدم الكشف بهذا لا تكون العلاقة بين الحقيقة واللاحقيقة علاقة تضاد منطقي. بل علاقة المؤسس بالأساس الذي يقوم عليه” (نفسه، ص 162).
ونظراً لصعوبة عبارات هيدجر وصعوبة الشروح والتفسيرات التي تحاول الاقتراب منها، فإن مكاوي يقوم بمحاولة تفسير على التفسير، بمعنى أنه لا يقتصر على شرح وتوضيح عبارات هيدجر، لكنه يدرك أيضاً صعوبة فهم هذه الشروح نفسها التي يقدمها بعباراته هو فيقول “هل فسرنا العبارة العسيرة بعبارات أشد عسراً؟ لنقل باختصار إن التكشف لا يتم إلا على نحو جزئي. فهو يتحقق في ظل الاحتجاب وعلى أساسه وكلما تقدم في فعله الكاشف عمل على مزيد من الحجب” (نفسه، ص 163).
ومع الفصل الأخير من النص الهيدجري “ماهية الحقيقة” يورد مكاوي السؤال الأساسي الذي طرحه هيدجر ولخّص به المسائل الأساسية التي تم استعراضها في الصفحات السابقة على نحو ما شرحها مكاوي فيقول “ألا يجب أن يكون السؤال عن ماهية الحقيقة في نفس الوقت وقبل كل شيء هو السؤال عن حقيقة الماهية؟” (نفسه، ص 177).
وبرغم التلاعب اللفظي الواضح في الصبغة التي طرح بها هيدجر السؤال فإن مكاوي ينفي ذلك تماماً، ويعمل –كعادته- على إعادة قراءة وتفسير العبارة على النحو الذي يحفظ لهيدجر استقامة التفكير وعمق المغزى من السؤال، فيقول “ربما أوحت صيغة السؤال بالتكرار والتلاعب الحاذق بالألفاظ. ولكن الواقع أنها أبعد ما تكون عن هذا. فهي تحيي في نفس القارئ جذوة السؤال الأساسي الذي حرك التفكير في هذه الرسالة بأكملها، كما تحرص على البعد عن وضع نتيجة ‘جاهزة’ بين يديه” (نفس الموضع).
فالمفكر الحقيقي -فيما يرى مكاوي- لا يقدم لقارئه ثمرة بحثه على طبق من فضة أو ذهب، ولكن عليه أن يشركه في الجهد المبذول في غرس البذور ورعاية الأشجار وانتظار الثمار. إن الهم الأكبر الذي ينشغل به الفيلسوف الحق -مثل هيدجر- إنما هو العمل على إحياء الإشكال في نفس القارئ وعقله، وحثه على البقاء في محنة السؤال، لأنه في النهاية هو الممتحن والمسؤول. وينتهي مكاوي إلى وصف هيدجر قائلاً “هكذا يختم هيدجر رسالته ختاماً لا يخلو من التواضع الكريم حين يؤكد أنها ‘تساعد على التأمل’ في قضية الحقيقة. وحسبه أنه ابتعد بنفسه عن الإجابات السهلة التي يتلهف عليها أصحاب الحس السليم، وأنه لم يحرص على شيء حرصه على إثارة السؤال” (نفسه، ص 178).
ونحن بدورنا نقول إن مكاوي إنما كان يمضي على نفس الطريق الهيدجري ولا يحيد عنه، فقد كان محتفياً بالسؤال ومهموماً به، ولم يسع لتقديم الإجابات قدر سعيه إلى تعميق السؤال وإعادة طرحه مراراً وتكراراً إيماناً منه باستحالة تقديم الإجابات النهائية، وأن طريق التأمل والفكر هو الأساس وليس الهدف أو الغاية على نحو ما كان يعتقد هيدجر، آمن مكاوي بذلك بعد أن تأمل فيه وعبَّر عنه، ولكن -خلافاً لهيدجر- بلغة بسيطة وسلسلة يفهمها المتخصص وغير المتخصص.