المعارك الثقافية في الجزائر
هل أراد رشيد بوجدرة، وهو يؤلّف كتابَه “مُهرِّبو التّاريخ” (منشورات فرانز فانون، الجزائر، 2017)، أن يصفّي حسابه مع ثلّة من الكتّاب الجزائريين، أم أنّه بصدد ممارسة نقد للمشهد الثقافي في الجزائر؟ أم أنّ المسألة هي أبعد من هذا وذاك؟ الانطباع الأوّل الذي سجّلته، وقد يسجّله أيّ قارئ، وأنا أنتهي من قراءة الكتاب، أنّ بوجدرة كان بصدد تدمير أساطير غيره، إذ نلمح روح الأبوية المجروحة فيه -إذا ما أخذنا بمفاهيم بوجدرة نفسه- لأجل حماية أسطورته الشخصية؛ فالأب دائم الإحساس بالتهديد أو بالخطر.
ندرك منذ البداية أنّ التاريخ هو اللفظة المفتاح، لكنها أيضا تلك المساحة الرمزية للمعركة التي فتح بوجدرة النار على كامل جبهاتها. لا أقول إنّ بوجدرة كان واضحا قدر الكفاية ليحدد لنا معنى التاريخ الحقيقي الذي يدافع عنه، فهو يترك القارئ في حالة من الالتباس.
يظهر لنا بوجدرة طيلة الكتاب، انطلاقا من هذا المعطى، مثقفا غاضبا غيورا على التاريخ الحقيقي (؟). وإن كنت شخصيا لم أجد إجابة عن سؤال طرحته وأنا منغمس في صفحات الكتاب: عن أي تاريخ حقيقي تتحدث يا بوجدرة؟ أم كنت تقصد -وهذا ما لا أستبعده شخصيا- التاريخ الرسمي، كما كتبه النظام السياسي في الجزائر؟
التحليل النفسي للعصاب الثقافي
ما شدّني في الكتاب، والذي اعتبرته مفتاحا أساسيا لفهم استراتيجية بوجدرة هو وصفه لبعض الكتّاب الجزائريين بالمرضى العصابيين، وبأنّه بصدد تشخيص أمراضهم النفسية وفضحها.
الكتاب، يقول بوجدرة في الصفحة 12، هو تصوير عيادي بالأشعة لهؤلاء المرضى العصابيين؛ يتحول بوجدرة -إذن- إلى طبيب نفسي بصدد تشخيص أعراض مرضية مزمنة وخطيرة يعاني منها بعض الكتّاب الجزائريين، ومن بين هؤلاء الكتّاب فريال فرعون، وبوعلام صنصال، وياسمينة خضرا، وكمال داود، وسليم باشي، ووسيلة تامزالي… إلخ، دون أن ينسى بعض الصحف مثل “الخبر” و”الوطن” الناطقة بالفرنسية، وقنوات تلفزيونية على رأسها قناة “الشروق تي في”.
نفهم أنّ بوجدرة وظف أدوات التحليل النفسي لتشخيص الأعراض المرضية لهذه النخب التي تشكّل خطرا على التاريخ الوطني، ولا أحد ينكر علاقته الحميمية بالتحليل النفسي، وبأمراض النفس، وبعقد الجسد، وبأعطاب العصابيين، فأدبه يعجّ بهؤلاء العصابيين، بل أظن جازما أنّ لا أحد من الروائيين يمكن أن يجاريه في هذا التخصص.
العصابية كما يشرحها بوجدرة ضمنيا في كتابه الغاضب هي اختلاق الأوهام التاريخية لأجل تزييف التاريخ الوطني، والافتراء على الذاكرة الوطنية، والعصابيون هم الذين يساهمون في صناعة صورة سلبية عن الجزائر تغذي المخيلات الأوروبية -الفرنسية تحديدا- عنّا. المثقف إذن يمكن تصنيفه بسهولة في خانة العصابي المريض، في حين لم نجد أنّ بوجدرة أدان السلطة في المساهمة أيضا في تحريف التاريخ وفي تشويه الحاضر!
وفي هذا، التجأ بوجدرة في الغالب إلى بناء موقفه الانتقادي على آراء الكتّاب، وليس على نصوصهم -مثلما هو الحال بالنسبة إلى موقفه من كمال داود- أو الاكتفاء بنص واحد فقط في حالة بوعلام صنصال وروايته “القرية الألمانية”، طبعا اكتفى بإصدار أحكامه دون اللجوء إلى مناقشة عميقة لأعمالهم الروائية بالأدلة النصية، الأمر الذي كان غائبا على نحو ملفت، ما أعطى بعدا شخصيا إلى حد كبير لمواقفه تلك.
صحيح أنّ الكتاب سجالي أكثر مما هو تحليلي، لكن كان يمكن له على الأقل أن يفتح بعض الصفحات من كتبهم لأجل عرض أدلته. طبعا، لا ندعي هنا أنّ بعض مواقف بوجدرة كانت مجانبة للحقيقة، فموقفه من فريال فرعون كان واضحا جدا، فهي كاتبة ألفت رواية تمجد ذكرى والدها الحركي، وهذا النوع من الكتابات لا يمكن أن يكون بريئا.
المثقف الغاضب
قال بوجدرة في بداية الكتاب إنّ دافعه الأساسي لتأليفه هذا الكتاب هو شعوره المرير بالعار، وهو يرى أنّ تاريخ الجزائر عرضة للتشويه من قبل مجموعة من الكتّاب الجزائريين المُقيمين بفرنسا، لكن كمال داود غير مقيم بفرنسا فهو مازال يعيش في مدينته وهران رغم العروض الكثيرة التي يتلقاها للهجرة، وكرامته لا تسمح بأن يصمت أمام هذا الاعتداء في حق الذاكرة الوطنية.
ولا نختلف مع بوجدرة في أنّ الذاكرة الوطنية هي خط أحمر، لكن لا يمكن النظر إليها بوصفها مقدسا. فلا بد أن تظهر وجهات نظر مختلفة، حتى يحدث هذا السجال الذي من شأنه أن يفرز الحقيقة من الكذب التاريخي. ثمّ إنّه ليس كل التاريخ الوطني تاريخا طهرانيّا، فلنكن عقلانيين ولو لمرة واحدة.
نعم، نحن ضد عودة ذلك الصوت الذي يحمل الكثير من الحنين إلى الاستعمار، لكن هو صوت قد يكشف عن عناصر مّا من تاريخنا، ثم هو جزء من هذا التاريخ شئنا أم أبينا. والحنين إلى الاستعمار قد يكون سببا في الكشف عن أشكال أخرى من الحنين، لا سيما تلك التي أصبحت بتسميات جديدة، مثل المصالح الاقتصادية، وشراء الشقق هناك، وتهريب مال الشعب… إلى غير ذلك من المظاهر التي لم يتطرق إليها بوجدرة الغاضب.
كانت البداية، كما يقول، مع كتاب الروائية الجزائرية فريال فرعون الذي بعنوان “ملك الزيبان”، والكاتبة هي حفيدة المدعو عبدالعزيز بن قنة الذي كان أحد أقطاب “الحركى” في منطقة بسكرة، وشهد عليه التاريخ بولائه المطلق لفرنسا وبعنصريته المقيتة تجاه أبناء جلدته.
ما أثار حفيظة بوجدرة هو زيارة فريال فرعون للجزائر لأجل تقديم كتابها، بدعوة رسمية، الأمر الذي اعتبره تواطؤا من قبل وزارة الثقافة، ومن قبل بعض الأطراف في الحكم، ناهيك عن بعض القنوات الإعلامية. كان على بوجدرة أن يحفر أكثر، ويجيب عن السؤال الضمني الذي طرحه: لماذا حظيت فريال فرعون باستقبال شبه رسمي؟ أم أنّ الإجابة لا تعنيه تماما؟ إنه السؤال الأساسي سيد بوجدرة؟ فالغضب وحده لا يكفي.
يبدو أنّ بوجدرة يصيغ لنا مفهوم المثقف الغاضب، الذي يحارب وحده جحافل اللصوص الذين ينهبون التاريخ الجمعي، لأجل محو جرائم الماضي. بالنسبة إليه المثقف كائن تاريخي، وهو معني بالمعارك الثقافية التي يكون التاريخ مسرحا لها، فالمثقف ليس مفصولا تماما عن التاريخ. لكن من المفارقة أنّه لم ينتبه إلى دور النظام السياسي بالجزائر في الاستحواذ على التاريخ، وتوظيفه بما يخدم توجهاته أو استقراره. أليس حريا بهذا المثقف الغاضب أن يقيم حربه على النظام والسلطة بدل ملاحقة عدد من الكتّاب كانوا يعبّرون عن مواقفهم الذاتية من التاريخ؟
يتدارك بوجدرة، لأجل أن يوضّح الفرق بين النقد وبين جلد الذات؛ فقد يقول قائل إنّ من حقّ الكتّاب انتقاد تاريخهم الوطني، والخيارات السياسية التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم، لكن يختلف النقد عن جلد الذات في الأهداف. بالنسبة إلى بوجدرة، فإنّ الكتّاب الروائيين الذين تحدث عنهم في هذا الكتاب لم يمارسوا نقدا، بل كانوا أبعد من أن يمارسوه، فقد طغت عليهم حالة جلد الذات لأجل إرضاء الآخر الفرنسي، وتجربة بوعلام صنصال تؤكّد كيف يتحول جلد الذات إلى عامل إرضاء للنخب الفرنسية اليمينية، التي وجدت في كتاباته أيقونة للشجاعة، وأيضا للتسامح مع التاريخ، فهو بحسب بوجدرة كاتب بنى أدبه على فكرة الحنين إلى الاستعمار. أما في حالة ياسمينة خضرا، فقد وجد أنّ روايته “ما يدينه النهار لليل” تبلور فكرة خطيرة وهي أنّ المُستعمَر هو يتيم مستعمِره [!]
هل هو نقد أم مُحاكمة؟
صعب أن نعتبر ما كتبه بوجدرة نقدا بالمعنى الحقيقي للنقد، طبعا إذا اتفقنا على أنّ النقد هو الذي يكون على النصوص بالدرجة الأولى، قبل أيّ شيء آخر. ما الذي نقده بوجدرة إذن؟ النصوص غائبة، أي لم يقدم لنا بوجدرة تحليلات في روايات الكتّاب الذين انتقدهم، باستثناء الحديث السريع عن رواية من رواياتهم، وفي الأغلب يلتجئ إلى الحكم على مواقف أبداها بعضهم، مثل موقفه من كمال داود، بسبب لامبالاته إزاء القضية الفلسطينية، في حصة بالقناة الثانية الفرنسية.
أما رواية “ميرسو، تحقيق مضاد” فلم يقل عنها أي شيء. بل وصل الأمر إلى حد اتهام كمال داود بالإرهاب، وبأنه كان في شبابه عضوا في الجماعة الإسلامية المسلحة، في الصفحة 86 من الكتاب [!] طبعا لستُ هنا بصدد الدفاع عن كمال داود، بل عن حقي في معرفة كيف قرأ بوجدرة رواية كمال، فهو الضليع في قراءة الروايات والكتابة عنها.