البحث عن الحقيقة في زمن الـ\'فيك نيوز\'
ولو أمعنا النظر مليا لأدركنا أن علاقة السواد الأعظم من البشر بالحقيقة اليوم، هي أقرب ما تكون إلى رؤية ترامب لمجريات الأحداث، فالأشياء على اختلافها غير حقيقية ما لم تكن في صالحه، مستجيبة لرؤيته للعالم، من رأيه في الاحتباس الحراري إلى تواطئه مع روسيا أثناء حملته الانتخابية، إذ غالبا ما يجمع الرئيس الأميركي بين موقفين متناقضين: موقف المؤمن بالمؤامرة الذي يزعم معرفة الظاهر والباطن في نقد خصومه لسياسته، نقدا يرى فيه مجرد “أخبار كاذبة” يلفقها الخبراء ووسائل الإعلام؛ وموقف الدغمائي الأصولي الذي لا يتورع عن تأكيد أحداث أو تقديم حجج يزعم أنها تعبر أحسن تعبير عما تؤمن به الأغلبية الصامتة.
بيد أن بعض المفكرين يذهبون إلى القول إن ترامب ليس ظاهرة معزولة، وإن ما يأتيه يندرج ضمن سلسلة تطورات متواصلة داخل الديمقراطيات الغربية، إذ عادة ما يوضع الخبراءُ والنخبُ موضعَ شك، بدعوى أن خطابهم عن حقيقة الواقع لم يعد يصمد أمام غضب الجماهير، ويتجلى الرفض بخاصة في أوساط الشباب الذين يؤمنون بسيناريوهات بديلة وبنظريات المؤامرة، ولا سيما من خلال نشوء ثقافة المجموعات المتآلفة في ما بينها عبر المواقع الاجتماعية.
وهي مجموعات تؤمن بقناعات واحدة وتشكل ما أسماه الفيلسوف الأميركي كاس سانشتاين “غرف أصداء” عصية على النقض والدحض. في كتابه Republic.com 2.0 الصادر عام 2007 عن المنشورات الجامعية في برنستون، لاحظ سانشتاين أن وسائل الميديا الكلاسيكية يحددها ملمحان أساسيان هما التجارب المشتركة ولقاءات الصدفة، وأن الناس عندما يشاهدون التلفزيون أو يقرؤون جريدتهم يتعرفون إلى أحداث مشتركة ويواجهون وجهات نظر لا يتبنونها بالضرورة بل قد تثير حفيظتهم، ولكن الإنترنت والمواقع الاجتماعية لا تضعهم إلا أمام أخبار ووجهات نظر مصطفاة مسبقا، وبذلك تشكَّل نوعٌ من استقطاب الفضاء العام في شكل مجموعات متلاحمة حول حقيقتها، بفضل ما يسميه “شلالات إعلامية” تتبادلها في ما بينها، فلا تزيدها إلا تصلبا وراديكالية.
وكان من أثر تضافر تلك العناصر كلِّها ظهورُ وعي عامّ جديد أطلق عليه الكاتب الأميركي من أصل صربي ستيف تيسيش (1942-1996) مصطلح “ما بعد الحقيقة”، الذي عرّفه معجم أوكسفورد باللحظة التي “تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل أثرا في تكوين الرأي العام من إثارة الانفعال واستحضار المعتقدات الخاصة”.
وفي رأي أنصاره أننا لن نبلغ ضالتنا إذا اكتفينا بإدانة أكاذيب ترامب أو هذيان القائلين بالمؤامرة، لأن الطرفين في النهاية لا يبحثان عن الحقيقة بقدر ما يعبران، ولو بطريقة ملتوية، عن غضب جانب من الرأي العام، ويضعان خطاب السلطات الرسمية موضع شك، لأن الغاية هي محاولة فهم هذا الاستعمال المحرّف للشكِّ والمعلومةِ الذي يهدد التداول الديمقراطي، وكيف السبيل إلى تداركه دون أن يضع المرء نفسه في موضع الدغمائي الذي يزعم امتلاك قول الحق عن الحقيقة.
لقد أدان تيسيش في كتابه “هزيمة أميركا” الصفقة التي أبرمها الحكام الأميركان مع الرأي العام بعد حرب الخليج الأولى، إذ كتب يقول “لقد سعى كل الطغاة حتى اليوم إلى إلغاء الحقيقة. أما نحن، فنؤكد أن ذلك لم يعد ضروريا، لأننا اكتسبنا آلية ذهنية يمكن أن تنزع عن الحقيقة كلَّ أهمية.
لقد قررنا بحرية، بوصفنا شعبا حرّا، أننا نريد العيش في عالم ما بعد الحقيقة. في هذا العالم، صرنا من الآن فصاعدا محرومين من المعايير التي يمكن أن نقيّم بها الأشياء، ما جعلنا نختار أن نرى الفضيلة في التفاهة، ونطبق هذه الفلسفة على كل جوانب الحياة”.
أما سانشتاين فقد حلل الظاهرة لتشخيص عللها ووصف علاجها، وفي رأيه أن لا علاج لها إلا عن طريق إيجاد فضاءات داخل الإنترنت وخارجه، يلتقي فيها مواطنون من ذوي الخبرات والآفاق المختلفة والرؤى المتباينة، ولكن بشرط أن يكونوا هم أنفسهم مقتنعين بنجاعة هذا العمل، مؤمنين بجدوى البحث عن حقيقة تعلو على معتقداتهم وآرائهم، وهو رهان ليس سياسيا فحسب، بل فلسفي بالدرجة الأولى.
ذلك أن الفلسفة تقف اليوم في قفص الاتهام. فمنذ أن حدد القدامى مهمة الفلاسفة في قيادة الأذهان خارج كهف المظاهر والآراء، صار البحث عن الحقيقة شغلهم الشاغل، ولكن الحداثة صرفتهم عن تلك الغاية النبيلة، إذ ثار المحدثون منذ مونتاني ونيتشه على فكرة الحقيقة نفسها.
هذا أحد تلاميذهم، الفرنسي جان بودريار، يقول في مذكراته المنشورة عام 1990 “الحقيقة هي كل ما يجب التخلص منه بأقصى سرعة، وتمريره إلى شخص آخر. فهي كالمرض المعدي، لا سبيل للشفاء منه إلا كذلك. ومن احتفظ بالحقيقة بين يديه خاب”.
كذلك درّيدا الذي كتب عام 1980 في “البطاقة البريدية” “الحقيقة، باسمها اللعين ضيّعنا أنفسنا”. وهي قولة صارت شعارا لفلاسفة “النظرية الفرنسية” في القرن الماضي، أولئك الذين دأبوا على تفكيك الحقيقة، بدءا بالعقل والعلوم الغربية.
فبعد أن استفادوا من منظورية نيتشه (لا وجود لحقائق، بل هي مجرد تأويلات)، وسوسيولوجيا ماركس (الحقيقة القائمة هي خطاب الطبقة المهيمنة) وجهوا الشك إلى العقل نفسه، فجعلوا، مع فوكو، الجنون عارضا مصطنعا ينتجه مثيله المضطهِد والمُقصي أي العقل. واعتبروا، مع درّيدا، أن الحقيقة، إذا ما تم تصورها كمعادل لحال ما، تنأى بنا عن مجمل الآثار النسبية والتاريخية الهشة التي نمسكها بواسطتها.
فهل معنى ذلك أنهم تخلوا نهائيا عن الحقيقة؟ باستثناء بودريار الذي صرّح أن “سر النظرية هو أن الحقيقة لا وجود لها”، جنح الآخرون إلى التأكيد على إيتيقا الحقيقة، فردّها درّيدا إلى “وعد خارق يقدَّم للغير” وتحدث فوكو عن “شجاعة الحقيقة” التي يقرر بموجبها الفرد الارتباط بمقولة من خلال وضع معنى وجوده محل رهان. وبذلك وضعوا أيديهم على الحقيقة، فجعلوها مجرد بنية اجتماعية وتاريخية، نسبية واعتباطية، ولكنهم في معظمهم لم يحددوا لها معايير للتمييز مثلا بين البطل والدجال والمجنون، فمهدوا لظهور ما بعد الحقيقة.
ثم إن الحقيقة أنواع، ميّز الفيلسوف ميشيل سير من بينها ثلاثة: أولا، حقيقة العقل الصارمة، القابلة للبرهان، كالحقائق المنطقية والرياضية. ثانيا، حقيقة الواقع التي تقرها الحجج الثابتة والشهادات المتفق عليها، كما في العلوم التجريبية والتاريخية. وأخيرا، حقيقة الرأي أو وجهة النظر، وهي ما يعتقد المرء أنه حقيقي دون أن يملك القدرة على البرهنة عليه، كقولهم “كان العالم من قبل أفضل”. فأمّا النوعان الأولان فيستدعيان الجهد لإثباتهما، بخلاف النوع الأخير الذي لا يتطلب جهدا، لأن المسافة بين الذات والموضوع فيه غائبة.
وأما عن سبب انتشار الخطاب الشعبوي المعادي للحقيقة، فمردّه، يقول سير، إلى أن أصحاب القرار اليوم تمرسوا خلال تكوينهم بالعلوم الإنسانية ولم تعد لهم علاقة بالحقيقة العلمية، رغم أن التحولات الكبرى أنتجها البحث التقني والعلمي، ومن ثَمّ ليس غريبا أن يفقدوا سيطرتهم على الواقع. والحل في نظره لا يكون إلا بالتربية، حيث ينبغي إعادة إيقاف الحقيقة على قدميها: معنى النسبي، والبحث عن النقطة الثابتة، تلك التي تحدث عنها بليز باسكال.
ولكن أيا ما يكن موقف الإنسان العادي من الحقيقة، فهو يعرف، تماما مثل بطل رواية أورويل “1984”، أن خير سلاح ضد البروباغندا هو التمسك ببعض البدَهيات، كقوله “الحرية هو أن تكون حرا في أن تقول اثنان واثنان يساويان أربعة”، فإذا ما حاز ذلك ضمن البقية. فالحقيقة هي شيء ثمين لكونها مستقلة عمن يفكر فيها، تندرج ضمن مسعى، بعيدا عن الدغمائية والتسلط، وتتوازى مع مبدأ قابليتها للمراجعة، وهو ما يميز العالم عن المتزمت.
يقول ميشيل سير “في الجدل العام اليوم، لا يتساءل الناس عن نجاعة الأسبيرين، وإنما عن عدد من يعتقدون أن الأسبيرين ناجع″. أي أن البحث عن الحقيقة لم يحد عن غايته فحسب، بل صار مشتتا يمارسه من يشاء كما يشاء، حتى غدت المعلومة الثابتة “فيك نيوز″، والبدهية في حاجة إلى دليل، ما ينذر باضطراب المدلولات والمصطلحات وارتباك الفهم، وهو ما كان لخصه أبوالطيب في قوله:
وَلَيسَ يَصِحّ في الأفهامِ شيءٌ إذا احتَاجَ النّهارُ إلى دَليلِ.