لا تظلموا المثقفين ولا يظلمون وزراء الثقافة
وزير الثقافة في الدول العربية، وخصوصا محدودة الإمكانيات منها، منصب مظلوم. لا أحد يعرف بالضبط ما هو المطلوب من هذا المنصب. كل يفصله كما يرى أو مثلما يريد.
الوزارات مؤسسات خدمية. مهمة الوزارة في أي دولة هي تقديم الخدمات للشعب. مهمة وزارة الثقافة هي تقديم الخدمة الثقافية للشعب مثلما هي مهمة وزارة البلديات في تقديم الخدمات البلدية للناس. هناك وزارة للبلديات تشغل الموظفين والعمال والمتعهدين والمقاولين ليقوموا بمهام التخطيط الحضري وإدامة البنى التحتية والنظافة. تشغيل العاملين ليس هدف الوزارة بل الهدف هو خدمة الناس. العاملون في البلدية يستفيدون من الرواتب والمنح والمقاولات والتخصيصات المالية مقابل ما يقدمونه من خدمات للمجتمع.
لماذا لا نفكر بوزارة الثقافة بالطريقة نفسها؟ لماذا ينتظر المثقفون من وزارة الثقافة أن تنفق عليهم؟
نعم، وزارة الثقافة تحتاج للمثقفين. هم أدواتها في تقديم الخدمة الثقافية للمجتمع. الكاتب يكتب لتنوير الناس. المكتبة ضرورة للمعارف. المطرب يوفر الترفيه. السينما متنفس استثنائي للعين والعقل. الحياة المعاصرة هي حياة بين العمل والمطالعة ومشاهدة التلفزيون. عدا الأخبار، كل ما يعرض على شاشة التلفزيون هو ثقافة، حتى لو كان برنامجا عن الطبخ.
وزارة الثقافة تؤدي دوراً مهما أيضا في الحماية الفكرية للمجتمع. بالتنسيق بين المواطن والمثقف، يمكن أن تصبح برامجها عربة الوعي والتحصين ضد موجات التسيّب والتطرف وتراجع منظومة القيم المجتمعية.
المجتمعات المحصّنة ثقافيا يمكن أن تواجه نزعات التشدد الأيديولوجي أو الديني بقوة. وكلما ضعف تأثير الثقافة، كلما صار بوسع أي مروج للخزعبلات أن يدّعي التسيّد الفكري على مجتمع ساذج. يكفي أن ننظر من حولنا الآن لكي ندرك حجم الدور المفقود لوزارات الثقافة وللمثقفين معا. النهضة الثقافية والفنية لمرحلة الخمسينات والستينات والسبعينات صارت جزءا من ماضٍ يطويه النسيان. الثقافة اقتلعت العالم العربي من حياة العصور الوسطى وزجّته في العصر الحديث. وغياب دور الثقافة الآن أعاد العالم العربي إلى العصور الوسطى، مع جرعة من العنف والوحشية توفرها أسلحة وأدوات تكنولوجية لم تكن متوفرة في عهد السيف والقرطاس.
عتاب المثقفين لوزارات الثقافة لا ينتهي وفي كثير من الأحيان يكون محقا. ولكن ضبابية الدور هي ما تجعل المهمة ملتبسة. ليس من مهام وزارة الثقافة أن تكون موطن تشغيل لأحد. ينبغي أن تدعم الحركة الثقافية، ولكن بهدف استفادة المجتمع وليس لفائدة المثقف المادية. تخصيص مبالغ مالية للمثقفين هو كرم من الدولة والمجتمع، ولكنه بالتأكيد ليس لزاما عليها.
تستطيع الدولة أن تفعل الكثير لدعم المثقفين. في بريطانيا مثلا، وهي بلد ثري بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لم تتمكن الحكومة من تبرير دعم النشاطات الثقافية مثل المهرجانات الموسيقية أو الشعرية. تعثرت قرارات حكومية أمام رفض البرلمان أن تقدم الدولة تمويلا من أموال الضرائب لإعادة إحياء مسرح تاريخي أو ترميم مبنى قديم. لكن الفطنة لم تخن الحكومة، فعمدت إلى استنباط فكرة الدعم غير المباشر من خلال تبني مبادرة اليانصيب الوطني الذي خصصت أرباحه لوزارة الثقافة لتقوم بتوجيهها نحو المنتج الثقافي غير الربحي والذي يدعم الكتاب والمسرحيين وعمال ترميم الآثار ويقيم المهرجانات ويحيي مسرح شكسبير.
تقوم المؤسسات الخيرية بدورها أيضا. الكثير من النتاج الفني والثقافي يجد تمويله من متبرعين كرماء. الثري يشتري اللوحة بآلاف الجنيهات بما يفوق سعرها الحقيقي. مليونيرات غربيون يتسابقون على رعاية المجلات الثقافية والفكرية، والحفلات والمهرجانات دون أن يطلبوا شيئا بالمقابل. لا شك أن الكنائس تحسد المسارح على استقطابها المتبرعين. الدولة في هذه المعادلة مسؤولة عن التنظيم ومنع التسرب أو الفساد، ولكنها تبقي مالها في جيبها.
هذا الدور التنسيقي بين حاجات الثقافة للمجتمع وإمكانيات الدولة وقدرات المثقفين هو في صميم عمل الوزير المسؤول. هل يستطيع الوزير المعين القيام بهذا الدور لأنه رسام أو فنان تشكيلي أو عازف آلة فلوت في أوركسترا المدينة، أم سياسي محترف يستطيع القيام بفعل التوازن بذكاء وموضوعية؟ هذا سؤال لم تتمكن الكثير من الحكومات العربية الرد عليه لأنها هي نفسها لا تعرف ماذا تريد من الثقافة.
موضوعية المثقفين بمطالباتهم من الدولة وحجم رعايتها لهم قد تكون هي خارطة الطريق لعمل الحكومات والوزارات المعنية بالشأن الثقافي. نرجسية المثقف محجوزة لفكره وإسهاماته، لكن موضوعيته هي المحك للخروج بالمشروع الثقافي الوطني من ارتباك عدم فهم الدور. لا يظلم المثقف دوره من خلال ظلمه للوزير.