هل هُزمت النخبة العربية المفكرة؟
حاول ماركسيو ذلك الزمان أن ينتسبوا إلى واقعهم عبر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وعبر «مركسة» ما لا «يمركس».
ولم تترك البيروسترويكا ماركسية العرب دون أن تقلل من شأنها إلى الحد الذي صارت فيه غريبة عن الحقل الثقافي العربي، ولم يعد محمود أمين العالم وسمير أمين شاغلين الناس.
وشخصانية الحبابي بتأثير من الفيلسوف الفرنسي مونيه، والتي أرادها الحبابي إسلامية لم تترك ندبة ما في الوعي العربي والغربي.
ومات حسن صعب، صاحب تحديث العقل العربي، وترك وراءه عقلا عربيا شعبويا يعود إلى ابن تيمية وتلامذته المعاصرين.
أجل بعد ثورة شباب مصر كان هناك حذر شديد في استخدام مصطلح العلمانية واستخدام مصطلح «المدنية» عوضا عنه.
وينبري بعض الأصوليين الذين تعلموا في الغرب أصلا لمهاجمة كل من يتحدث بخطاب عقلاني ويتحول مثقف كهذا إلى مشروع قاتل.
العراق الذي كان أكثر المستهلكين للكتاب لا هم له اليوم سوى عاشوراء ومداواة الآلاف من الذين يتعرضون لتفجيرات الجسد.
لبنان الذي كان واحة إنتاج الكتاب والصحافة يتحكم به حزب أصولي باسم الممانعة، ما الذي جرى؟
مصر العراق سوريا المغرب لبنان تونس بلاد النهضات العربية المبكرة في القرن التاسع عشر تعيش نكوصا تاريخيا فاجعا وتفكر خارج ذهنية التجاوز نحو الأعلى؟
أين هي العلة؟ هل العلة في واقع عصي على التغيير أم في أفكار لا علاقة لها بواقع المنطقة أو تاريخها أم تعود إلى الأمرين معا؟
وكيف نفهم الثورات الراهنة في ضوء هذه الأسئلة؟
تكمن المشكلة كما أعتقد في المكنسة التاريخية التي لم تستطع أن تتحرر من الوسخ التاريخي نفسه، تعلقا بالسلطة الرعناء، ولم تستطع أن تنجز مهمة تنظيف الطريق أمام التاريخ لانتصار الأفكار وتحويلها إلى نمط حياة ونظرة إلى الوجود والإنسان.
أقصد بالمكنسة التاريخية الفئات الاجتماعية التي انتدبت نفسها لمهمة التغيير الاجتماعي.
فلقد كان تأسيس «الدولة الوطنية» في المستعمرات العربية حادثا جديدا، وكانت حاجات الدولة الوليدة كي تصل إلى شكل الدولة المعاصرة كبيرة؛حاجات اقتصادية وثقافية ومؤسساتية.
والسلطة التي آلت إلى أرستقراطية مدينية وفلاحية أخذت الطابع الديمقراطي الغربي ودون تاريخ تحولات عميقة في المجتمع، سياسيا واقتصاديا، بل أخذت تعمل على إنجاز هذه التحولات دون تاريخ، وكان هذا أهم عقبة تاريخية أمام التحول الحداثوي وأمام مكنسة التاريخ. فبدلا من أن تكون ثمرة تاريخ وتطور المجتمع الرأسمالي ومهمة برجوازية متكونة أرادت السلطة أن تنجز ما أنجزه تاريخ أوروبا.
ولهذا كانت السلطة الوليدة، بوصفها مكنسة التاريخ، ذات ملامح من التاريخ الذي تسعى لكنسه.
الفئات الوسطى التي نمت بسرعة هائلة والتي تحولت إلى بديل للأرستقراطية المدينية والقروية وبعض الفئات البرجوازية الوليدة لم تنجز تحررها الفكري الحداثوي فحملت هي الأخرى نظرات المجتمع التقليدي إلى الحياة.
وما إن آلت السلطة إليها حتى حاولت إنجاز حداثة بعصبية تقليدية وتلك كانت أكثر المفارقات مأساوية في التاريخ المعاصر للعرب.
«هذا التحليل لا ينطبق على بلدان شبه الجزيرة العربية وينطبق على اليمن جزئيا».
ففي الوقت الذي نشأت فيه السلطة الأرستقراطية، شبه البرجوازية المدينية والريفية ونجحت في تكوين الفئات الوسطى- قلب المجتمع- المتكونة من المعلمين والأساتذة والمحامين والأطباء والمهندسن والموظفين والعسكر وما شابه ذلك من مهن، وساعدت على تكوّن نخبة فكرية ذات نظرة إلى مستقبل حداثوي بكل الأفكار التي يعج بها الغرب وموت الفئات الوسطى ذاتها بعد استلام جزء منها للسلطة وفي الوقت الذي أسست الأرستقراطية المصرية السورية والعراقية للحياة السياسية وتكون الأحزاب فإن الفئات الوسطى، التي يفترض أنها تريد إنجاز ما عجزت عن إنجازه الأرستقراطية (المسماة جدلا برجوازية)، قد دمرت الحياة السياسة ودمرت قدرة الأفكار على تشكيل الوعي الروحي الحداثوي والمعاصر.
وذلك أنها، أي الفئات الوسطى ذات الأصل الطبقي الفلاحي، لم تحصل على تربية مدينية بالأصل، ولم تتشرب إنجازات برجوازية ثورية بالمعنى التاريخي، ولهذا وجدت نفسها نقيضا للأرستقراطية المدينية والريفية لا من موقع طبقي، بل من وعي شره باستلام السلطة، وعي معزز بأيديولوجيا سرعان ما تحولت إلى خرق بالية تلهو بها الريح ويمر الإنسان من أمامها دون أن يلتفت إليها.
عبدالناصر الشخص الوحيد الذي كان قادرا على إنجاز تكنيس قوي للتاريخ بحكم مشروعه وقوته وجماهيريته، لكنه أراد التحديث والحداثة بلا مجتمع سياسي، بلا ديمقراطية، فحرم المجتمع المصري من إرثه التاريخي الحديث، ولهذا ما إن قضى نحبه حتى عادت مصر إلى ما قبل الناصرية ولكن في صورة كاريكاتورية وفي حالة الدولة الفاسدة.
ومع تحول الفئات الوسطى إلى عقبة أمام التحول الحداثوي الديمقراطي لم تعد لأفكار النخبة وظيفة عملية واسعة وفاعلة. وتقوقعت في حقل ضيق من جماعات محدودة تتحاور في الندوات والغرف المغلقة، دون أن ترى ما يجري تحت سطح الواقع، حيث عاد الناس ليحتموا بإرثهم التقليدي من تغول سلطة مغتربة عن الواقع المحلي والتاريخ العالمي.
وعندي أن الثورات الراهنة ستؤسس لصراع الأفكار مرة أخرى وقد يستعيد المفكر العربي دوره الذي لعبه في عصر النهضة وما بين الحربين.
غير أن دورا كهذا مستحيل دون غربلة الأفكار من جهة وزعزعة اليقينيات من جهة ثانية، وشجاعة في طرح الأقصى من جهة ثالثة.
وعندي أن ولادة الأنا أهم نتيجة من نتائج السيرورات التاريخية الحديثة. وبالتالي فإن الدعوة إلى انتصار الأنا والكفاح من أجل تحولها إلى ذات، أي إلى الفعل هي الآن مشروع الفلسفة إذا ما أريد لها أن تحقق ماهيتها في الواقع المعيش.