الكتابة المسرحية ضد الخوف والموت
عرفت بعدها السينما والمكتبات عن طريق أخي الذي كان يصطحبني معه لجامعته في مدينة الزقازيق، ثم تخيّرت الشعر وانصبّ اهتمامي عليه، وأول مبلغ كسبته كان 15 جنيها من قصيدة شعر فازت في مسابقة على مستوى محافظتي الشرقية، وكنت وأنا في الصف الثالث الثانوي أُلقي قصائدي في الإذاعة المدرسية، وذات صباح قرأت قصيدة طويلة تسببت في تأخير الحصة الدراسية الأولى مما جعل مدير المدرسة يتدخل ويُنهي القصيدة بالقوّة، ولم يوافق على إلقائي لأي قصيدة أخرى إلا بعد أن يتأكد أنها قصيرة.
ثم التحقتُ بكلية التربية قسم الرياضيات، وكوّنتُ جماعة شعرية بالكلية، وفي منتصف العام الأول أصدرنا ديواناً شعرياً جماعياً بطريقة الماستر عنوانه “ستعودين” وفرحنا به فرحةً غامرة، وقُبيل نهاية العام فازت قصيدة أخرى على مستوى الجامعة، وكانت الجائزة تشتمل على مبلغ 60 جنيها، وسفر لمدة أسبوع لحضور مهرجان “أسبوع شباب الجامعات المصرية” بجامعة القاهرة، وهناك بدأت معرفتي بالمسرح، شاهدت عروض المسرح الجامعي، وتذكّرت أول مشهد تمثيلي رأيته في حياتي في ساحة قريتنا، والذي أداه أحد لاعبي كُرة القدم كفقرة احتفالية بفريق كرة القدم بالقرية لفوزه بلقب أفضل فريق على مستوى القُرى من حولنا، وتذكّرت أيضاً الاحتفالات بالموالد الشعـبة السنوية، والتي كانت تحتوي على “الموكب”، وكان مسيرة طويلة يحتشد داخلها أهل القرية، وبها عربات كارو تجُرّها الخيول وعربات أخرى حديثة، ومئات المُشاة الذين يحملون الأعلام والسيوف ويتمايلون على أنغام المُنشد الذي يغني من فوق إحدى العربات، أما العربات الأخرى فكان بها العديد من المظاهر البدائية للتشخيص؛ منها مثلاً فقرة الطبيب الذي يكشف على مريض، فقرة الاحتفال بالعُرس، حيث يركب رجلين فوق أحد الجمال داخل الهودج أحدهما يرتدي فستان عروس ويتزيّن بالمساحيق، والآخر يرتدي جلباباً، ومن وقت لآخر يرفعان ستارة الهودج ليراهما جمهور الشارع، ثم فقرات “الساحر، البلياتشو،….”، وكنّا نتفرج على العربات ونستمتع بأشكال الأداءات الفرجويّة المختلفة، ولم يتنام إلى ذهني آنذاك أنني سأصبح كاتباً للدراما.
تذكرت ذلك وأنا أشاهد عروض المسرح الجامعي، بهرني عالمها، وسحرتني ألوانها وأداءاتها وتذكرتُ أنني كنت أريد أن أعمل في وظيفة تختصر كل الوظائف الأخرى، لذا كانت الكتابة الإبداعية هي اختياري وخاصةً للمسرح الذي يمنحني كل يوم شخصية جديدة، كنت لم أتجاوز السابعة عشر، ومنذ تلك اللحظة صار للمسرح نصيباً وافراً من اهتمامي، وتابعت قراءاتي الأدبية بنهمٍ كبير، فأنا أريد دراسة الأدب والفن لكن العقبة هي عدم موافقة عائلتي، إنها ترى مستقبلي بعيداً عن الفن سيكون أفضل، رضخت للأمر الواقع عامين كاملين، لكنني لم أستطع الاستمرار فأخبرت الجميع بمدى معاناتي في دراسة الرياضيات ورغبتي في دراسة الفنون، وتقدمت بإصرار غريب أحسد نفسي عليه لاختبارات القبول بأكاديمية الفنون، ونجحت وكان ترتيبي أول المقبولين.
في السنة الثالثة لدراستي الدراما كتبت أول مسرحياتي “الغواية” وقدّمتها على استحياء لمسابقة محمد تيمور للإبداع المسرحي العربي، وكانت النتيجة مشجعة، حصلت على الجائزة، كان عمري 27 عاماً، لكن فرحتي أكبر بكثير من هذا العمر، وهو ما شجعني لكتابة مسرحيتي الثانية “أخبار أهرام جمهورية” وهي من مسرح الصحف الحية والعنوان يشير لأسماء الصحف اليومية الرسمية في مصر، وقدمت على مسرح الغد 60 ليلة للجمهور، وكنت كل ليلة أضيف إليها مشاهد جديدة، وأشرح للممثلين الإضافات اليومية، وأدعو النقاد إلى مشاهدتها، وأرتب الدعاية المناسبة، لذا سافرت مع فريق العمل وقدمنا هذا العرض في الإمارات، الجزائر، تونس، العراق،… وحققنا نجاحاً باهراً، وعرفت آنذاك أن طريقي يتحدد، إنه المسرح، فهل أصبحت بذلك كاتباً مسرحياً وهو ما لم أتوقعه في صغري؟
حصلتُ على بكالوريوس الدراما والنقد عام 1998، وكنت الأول على دفعتي، وعيّنتني الدولة كمكافأة على تفوّقي بالمسرح القومي بناء على رغبتي، ثم كتبتُ مسرحيتي الثالثة “وشم العصافير” وحصلتُ بها على جائزة المجلس الأعلى للثقافة، شعرتُ ببعض الثقة واستمرّت كتاباتي في المسرح تأليفاً ونقداً ونشراً للكتب وعرضاً على المسارح، لكن وسط كل ذلك مات أخي وهو لم يتجاوز الـ45 عاماً، فانكسرت داخلي الرغبة في الاستمرار بالكتابة، ودُرت في دائرة مُفرغة 3 سنوات لم أكتب فيها شيئاً، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي فقدت فيه نصف أصدقائي من المسرحيين دفعة واحدة عندما احترق بهم أحد المسارح الإقليمية، مات في هذه الليلة حوالي 55 مسرحياً، فوجدتني بعدها مدفوعاً لمقاومة الموت والخوف والاكتئاب بالكتابة المسرحية.
على الجانب الآخر كان الناس في قريتي الصغيرة لا يعرفون ماذا تعني كلمة “كاتب مسرحي”..! فهم لم يشاهدوا مسرحياتي، وكان سؤالهم الدائم لي: هل ترى نجوم السينما والتلفزيون أم لا…؟ وكانوا لا يصدقون عندما أقول لهم إنني أعمل مع بعضهم، ولم يقدروا قيمة كوني كاتباً مسرحياً إلا عندما رأوني ذات ليلة أتحدث عبر شاشة التلفزيون عن نفسي وعن مسرحياتي، وبدأت أسئلتهم تتجه نحو نوعية الدراسة الأكاديمية للفنون، وهل تناسب أبناءهم أم لا؟
وخلال تلك المسيرة والتي امتدت حتى الآن لربع قرن صار لديّ 25 مسرحية، نشرت معظمها في 14 كتابا، وعشرات العروض المسرحية على خشبات مسارح القاهرة وكل أقاليم مصر، فمثلا في العام 2015 قدّمت المسارح المصرية لي أكثر من 10 نصوص مسرحية فوق خشبات المسارح، وإذا ما تحدثنا عن الجوائز يمكننا أن نذكر: ساويرس، اتحاد الكتاب، سعاد الصباح، جائزة بغداد، اليونسكو، د. حسن يعقوب العلي ـ الكويت، وكلها من أكبر الجوائز فى مصر والوطن العربي، هذا بالإضافة إلى جائزة كاتب العام من الولايات المتحدة عام 2012 ومئات المقالات النقدية في صحف ومجلات مصرية وعربية، وصار بكل هذا ابن القرية معروفاً لدى المسرحيين في القاهرة، وطاف الكثير من الدول العربية بمسرحياته، وبمساهماته النقدية في المؤتمرات والمهرجانات المختلفة، وحصل على معظم الجوائز المسرحية الهامة في مصر والدول العربية، ومنذ 5 سنوات جاءت نقلة أخرى، فقد عبرت مسرحياتي حدود الدول العربية، عبرت المحيط الأطلنطي لتعرض إحداها مترجمة إلى الإنكليزية “comedy of sorrows” في العديد من الولايات المتحدة من مثل: بوسطن، نيويورك، شيكاغو، ناشفيل، ميدل تينسي، كانساس، بورتلاند، وليخرجها مجموعة متميزة من مخرجي المسرح في أميركا مثل: ريبيكا ماجور، جيمس ماكديرموت، فرانك برادلي، تريسي كاميرون فرانسيس، جيني كوراتولا.
هل أصبحتُ بذلك كاتباً مسرحياً؟ مازلت أحلم أن أكون، ومازال الحلم يزداد بداخلي بأن يصل المسرح للقرية التي ولدت بها، لذا سعيت لتأسيس مشروع مسرح الـ100 قرية، وقدمته لعدّة جهات داعمة إلى أن استطعت أنا والفريق الذي تحمس معي للمشروع في الحصول على جزء بسيط من تمويل المشروع من وزارة الثقافة المصرية ومؤسسة ساويرس للتنمية يكفي لإنتاج 10 عروض مسرحية في 10 قرى مصرية هادفاً من وراء ذلك للعديد من الأهداف التوعوية والتنويرية، ولفتح الطريق أمام جيل جديد من الفنانين والأدباء وكتّاب الدراما يخرجون من هذه القرى من دون أن يعرقل مسيرتهم أحد.