الجولة اللندنية الأخيرة
لهذه الصور التي لم يسبق نشر أكثرها حكاية. كان ذلك في 19 أيار/مايو قبل 20 عاما، وكان يوما دافئاً على أبواب صيف، بعد رعونة شتاء قاس وربيع أقبل خجولا. كنت على موعد مع نزار بعد قطيعة من جانبه استمرت سنوات على إثر مقال متهور لي حمل عنوان «شاعر يقلده المقلدون وهو لنفسه مقلد». التقينا في بيته، ولم يكن أحد من عائلته، كانت هناك سيدة لطيفة تخدمه، قدمت لنا قهوة وقدم هو قطعاً من البسكويت. كل شيء في شقته في الطابق الثاني أو الثالث من ذلك البناء في سلون ستريت، كان دمشقياً، فقد طبع الشاعر بيته اللندني بأشيائه الدمشقية، حتى لكأنه كان يقيم في قصيدة اسمها دمشق. ولا غرابة في ذلك، فلطالما كانت تلك المدينة الأزلية مقيمة في حياته كما تقيم الروح في الجسد، فكانت أشعاره تتنفس من تلك الرئة. أكثر ما لفتني في جانب من غرفة الاستقبال ذلك «السفرطاس» النحاسي الذي اعتاد الدمشقيون وضع الطعام في طبقاته. سألته. وقال إنه يحتفظ به منذ طفولته، ويذكره بلمسة أمه.
قبل هذه الزيارة بأيام كنت قد التقيت بنزار مصادفة عند شارة المرور في جوار بيته، وكان يوماً ممطراً بوغتت بوصفي مذنباً، وطالعني هو بابتسامة مرحبة، سألني عن أحوالي، بدا هادئاً وما من أثر لذاك النزق الذي أحياناً ما كان يبرق في شخصه الهادىء. لم تكن هناك كلمة لوم أو عتاب.
في تلك المصادفة الجميلة دعاني لزيارته. فنجان قهوة. سعدت بالفكرة. متى؟ الأحد. عظيم. في ذلك الأحد كان لقاء تحدث فيه نزار عن أوقاته في المنفى اللندني، عن حنينه إلى بيت أبيه، عن قراءاته، عن الخيبات والمرارات العربية، وعن القصيدة التي تطارده إلى سرير نومه، فلا نعود نعرف من منهما ينام ومن منهما يحرس الآخر. سألته إن كان يرغب في أن أجري حوارا مطولا معه، فوافق على الفور، «أحب أسئلتك المشاكسة» قال. وكنت قبل نحو عقد من الزمن أجريت حوارا معه نشر في مجلة «الحوادث». «لن أكون مشاكساً، هذه المرة». ابتسم بطفولية. واتفقنا أن نقوم بجولة نهارية في لندن نلتقط خلالها بعض الصور. حددنا الموعد وكان يوم اثنين.
الشمس خفيفة والهواء اللطيف يهب على الضحى، كان همبار نركزيان، مصور صحيفة «النهار» البيروتية في انتظارنا على الناصية.
من العاشرة صباحا وحتى الثالثة بعد الظهر، خمس ساعات، ما بين حديقة الهايدبارك التي عبرناها من جهة بيته المطل عليها، ومن هناك تمشينا بين صفين من الأشجار، وصولا إلى بوابتها المشرفة على شارع بارك لين، ومن هناك وصولا إلى شارع البيكاديلي وساحته، من ثم إلى ساحة الطرف الأغر، حيث تنهض بعض أبرز رموز الامبراطورية، وتطل على بوابة فارهة تنتهي إلى قصر باكنغهام. السياح هم أكثر من يرتاد هذه الأماكن. ومن هناك، من ساحة الطرف الاغر بأسودها المهيبة يهبطون إلى التيمز. خلال هذه الرحلة كان نزار يسترجع بعض الذكريات، ويبدي رأيه في مسائل الشعر والحياة.
انتبهت إلى العكاز الذي راح يتكىء عليه، شعر بشيء من الحرج عندما طلبت منه أن يناولني إياه، لم أشأ أن يظهر نزار في صورة وفي يده هذه العصا، فلطالما كانت إطلالته الأنيقة مرتبطة بالصحة والقوة والوسامة. لكنه، لم يعد صحيح الجسم، وقد بدأت مراجعاته للطبيب تتكرر، وخف سمعه. إنها الشيخوخة، وما أظن نزاراً يميل إلى الاعتراف بهذا الزائر ثقيل الوطأة.
عبرنا جسر ويستمنسر، إلى الساوث بانك، وفي قاعة حملت اسم اليزابيث تطل على النهر، هناك تناولنا شراباً. بدا نزار حيوياً، شيء من المرح في نبرته، وقد انطلق في الحديث، لكن تعبيرات المرح لم تكن لتخفي خيط الحزن في صوته. ثلاث ضربات قاسية تلقاها نزار في حياته تكفي لتجعل الذاكرة نهباً للألم؛ انتحار شقيقته وصال، رحيل ابنه توفيق في ريعان الشباب، مصرع زوجته بلقيس في تفجير إيراني للسفارة العراقية ببيروت. بدت لي الجولة معه أثمن من ان اشغلها باسئلة أو تعليقات، أللهم إلا من قبيل تحريضه على الكلام.
انتهت الجولة، ولم ينته الكلام. سوف يستكمل نزار، بخطه الجميل، ما بدأه بصوته، ومن ثم سيكون الحوار قد تم. بعد أقل من سنة على تلك الجولة اللندنية البديعة سأتلقى من الجزائر، وقد كانت يومها مسرحاً للقتل، خبراً بالراديو: اليوم رحل عن عالمنا شاعر العرب في القرن العشرين نزار قباني.