في انتظار سوبرمان اللاجئ والمواطن الكوني
سوبرمان الحكاية كان الكناية الممكنة للحظات اليأس التي صنعها العالم المعاصر وحشرنا فيها. هو اللاجئ القادم من كوكب كريبتون المتعرض للفناء ليسكن الأرض كمواطن.
شمس كوكب الأرض الصفراء تمنحه قوة جبارة. يشاء أن يستخدمها في خدمة العدالة، بوصفها فكرة كونية عامة لا يمكن أن تستبدل ولا أن تموت، كما أنها غير خاضعة لتبدل الثقافات واختلاف طرق التفكير.
ذلك القادم من بعيد يريد أن يكون بطل تنفيذ العدالة تحت سقف القانون. سوبرمان ليس بطلا خاضعا للسياسة، ولكنه بطل الضمير والوعي الإنساني العام بالحق.
يختار أن يكون مواطنا، ولذلك فإن مهمة الدفاع عن فكرة المواطنة في كوكب اللجوء، تشكل العنوان الرئيسي لبطولته بحيث تتجلى هذه البطولة بوصفها التمثل الأعلى لقوة المواطنة وفكرتها.
يمكن أن أقول إن سوبرمان بات بطلا عفا عليه الزمان في أيامنا هذه، وهو يتناقض مع ما حرصت الآلة الإعلامية السينمائية على بثه لاحقا، فهو بطل مثالي لا ينكل ولا ينتقم، بل ينفذ القانون وحسب.
البطل الأميركي رامبو على سبيل المثال، وكما ورد في أحد أفلام السلسلة الشهيرة، يتفوق على القدير، لأنه كما يقول أستاذه الجنرال المعتقل لدى أعدائه لا يرحم في حين أن القدير يرحم.
يمكن أن نقول إن سوبرمان كان بطلا حنونا ورقيقا، اضطر إلى أن يدفع العزلة ثمنا للبطولة، وحرص على أن يغطي الإقامة الجبرية في عالم البطولة بمهنة الصحافي.
لعلّه من الطريف أن بعض القصص المصورة المنشورة بالعربية تلفت إلى أن تسلية البطل الجبار كانت في استخدام أشعة نظره الجبارة في التلصّص على الآخرين.
كان البطل الجبار يفعل ذلك، ولكنه لا يستخدم هذه المعرفة ضد أحد، وكان لا يتدخل في حيوات الناس إلا بحال كان هناك خطر ما. إنه يمثل الصورة المعكوسة لرجل المخابرات الذي نعرفه.
سوبرمان هو البطل الخاص لكل منا، ولكنه يستطيع مع ذلك أن يكون عاما ومشتركا. إنه الغريب الذي يعيدنا إلى رشدنا، إنه كناية قصوى عمّا يمثله الاغتراب المقصود عن القيم.
القيم هي البطل الجبار ولكننا فقدناها. من هنا فإننا في أمس الحاجة إلى ذلك الآخر القادم من بعيد ليعيد إنتاج علاقتنا بها على هيئة بطل جبار، كان قد سبق لنا أن خلقناه وتبنيناه ورعيناه، ولكننا لم نحتمله فعمدنا إلى قتله.
إنه عودة المفقود والمنفي الذي يعيد تشكيلنا.
إذا شئت الحديث عن علاقتي الخاصة بهذه الشخصية لا بد من الاعتراف بأنني مدين لها بالكثير الكثير.
لقد أنقذني سوبرمان من الإعجاب بأي بطل حقيقي وفعلي في زمن الحرب. لم أكن قادرا على التمثل بأي من الشخصيات العسكرية التي كانت تحاصر طفولتي في الحي القائم على خط التماس بين منطقتين متحاربتين خلال فترة الحرب الأهلية سيئة الذكر.
جميعهم كانوا عاديين وآيلين للانكسار والموت والفظاظة. كان الفدائيون الفلسطينيون مرشحين ليكونوا سوبرماني، ولكن المفاضلة بينهم وبين سوبرمان الحكاية صبت في النهاية لصالحه.
كانت رائحتهم فظّة، وكانوا يصطنعون القسوة في كل سلوكاتهم وكنت أحس من دون أن أكون قادرا على التفسير المنطقي بأنهم ليسوا على ذلك القدر من القوة الذي يدّعونه.
القاسم المشترك الذي اكتشفته لاحقا بينهم وبين سوبرمان كان البكاء، فالبطل الجبار لم يتورع في بعض القصص عن البكاء، وغالبا كانت الوحدة هي السبب.
سبب إضافي شكل عاملا مشتركا بينهم وبين سوبرمان فكما أن سوبرمان لا يمكن أن يموت إلا إذا تعرض لشعاع الكريبتونيت القادم من موطنه الأصلي، فكذلك آمنت أن الفلسطينيين كانوا يموتون لأسباب تتعلق بارتباطهم بموطنهم الأصلي.
ساعدني سوبرمان على اكتشاف أن الأوطان تقتل، وأن النجاة تكون من خلال خيانتها، أي توسيعها لتصبح فكرة يمكن أن تضم العالم بأسره.
الآن نشهد على عملية اغتيال عالمية لسوبرمان وللفكرة الجميلة التي يمثلها. العالم بات ميّالا إلى الضيق بدل الاتساع، وكل جماعة تتجه إلى إعادة تعريف نفسها انطلاقا من خصوصيتها.
بتنا أمام حشد هائل من الخصوصيات المتناحرة التي ساهمت في تغريب ذلك الغريب الأليف الذي يمثله سوبرمان، وطرده من موقعه في العالم وتدمير الكناية المفتوحة التي يمثلها.
فكرة اللاجئ تذوي في العالم. اللاجئون يريدون مثل سوبرمان النجاة والاندماج والمشاركة. قوتهم الجبارة المصادرة تكمن في السماح لهم بممارسة ما يستطيعونه فعلا، وما يمثلونه من روح تفاعلية كانت الرافعة الأساسية لفكرة التحضّر والتطور.
يجتمع العالم ليغتال سوبرمان المواطن العالمي لصالح مجموعات من السوبرمانات المزيفة التي تنمو على أنقاض فكرة العدالة والحق والقانون.
لعل القصة الأكثر لصوقا في ذهني من قصص سوبرمان التي قرأتها هي قصة تمثله وهو مكبل بالأصفاد، ومقبوض عليه إثر نجاح أحد أعدائه في تصويره بوصفه خارجا على القانون.
البطل الجبار خضع للقانون، ولم يحاول أن يستعمل قوته للخروج عليه. القوة الجبارة إذن ليست في نهاية المطاف سوى قوة المدينة والمدنية، وهي القوة التي يصادرها عن سابق تصور وتصميم عالم اليوم.