هياكل فارغة
حول مفهوم “النُّخبة”
ينصرف المعنى الاصطلاحي لأيِّ من التشكُّلات النَّخبوية، القائمة واقعاً أو تصوُّراً في واقعنا العربي وفي وعي النَّاس ومخيالهم، إلى الدلالة على مجموعة من الأفراد المُمَيَّزين والمستقلّين نسبياً، والذين يَعْتَقِدُ واحدهم في نفسه أنه الأسمى والأعلى شأناً إنْ هو قُورنَ بالآخرين من أفرادِ النّاس ولا سيما من غير المنتمين إلى مجموعات نُخَبوية أُخرى، أو المنتمين إلى مجموعاتٍ نخبوية أخرى هي أقلّ شأناً في تصوُّره، وفي مخيال النَّاس الذي يتصوَّره. وينبعُ هذا الاعتقاد من افتراض أنَّ أفراد المجموعات النُّخبوية، العديدة ومتنوِّعة الانتماءات والاختصاصات والاهتمامات على نحو يخترقُ جميع الطبقات والفئات، ويُغطّي جميع الحقول المعرفية والعلمية والمهنية والأنشطة الإنسانية جميعاً، يتوافرون على معارف ومهارات وقدرات وخبرات وسماتٍ ومميزات تفوق ما يتوافر عليه غيرهم من أفراد الفئات والشرائح الاجتماعية أو المهنية أو غيرها، فينهضون بمهماتٍ ووظائفَ وأدوارٍ جوهرية ذات صلة بأنشطة المجتمع وحياة النَّاس، فيتبوَأون مراكز اجتماعية سامية تستند إلى ما يؤدونه لمجتمعاتهم من خدمات ضرورية مُلِحَّة وما يسبغونه عليها، بفعل ذلك، من “أفضالٍ” عالية الشأن والقيمة، وإلى ما ظلُّوا يراكمونه، استناداً إلى ذلك، من ثروات مالية وكفاءاتٍ إدارية وخبراتٍ تنظيمية وتمثُّلات تصوُّرية وقدراتٍ إبداعيةٍ وقوىً رمزية، وسلطاتٍ فعلية، وحضورٍ طاغٍ وأشكال سيطرةٍ ونفوذ.
وبهذا المعنى، يكونُ للمجموعة النُّخبوية، أياً كان مجال اختصاصها وحقل نشاطها، أنْ تُمارس سُلطتها على التشكيلة الإطارية الأوسع التي هي “نُخبتها”، أي صفوتها المنتقاة وأسمى من فيها ورأس هرمها في سُلَّم التراتب، ويكون لها كذلك أنْ تعمل، بحزمٍ وصرامةٍ يتوسلان الإقناع أو التلقين أو الإرغام حسب مقتضى الحال، على فرض شبكة مصالحها المتزايدة العمق والاتساع، ورؤاها وأولوياتها وسلًّم قيمها، ومُكوِّنات خطابها وتوجهاتها وقراراتها المفضية إلى تحقيق هذه المصالح وتعزيز حمايتها، على تلك التشكيلة الإطارية. كما يكونُ لهذه المجموعة النُّخبوية، التي صارت محكومة بمصالحها، وبارتباطاتها الوثيقة بنُخبةٍ سياسيةٍ تشكَّلت في ظلِّها وتتبادل معها الدَّعم والتعزيز، أنْ تتولَّى التَّفكير والتقرير والإعراب والتَّعبير نيابةً عن الآخرين، وربما تذهب، وهذا هو ما يحدث على الأغلب، إلى مُصادرة حقِّ الآخرين من أفراد التشكيلة الإطارية الأوسع في المشاركة في التفكير والمناقشة واتخاذ القرار، وذلك كمدخلٍ لتهميش هؤلاء الآخرين وإلغاء دورهم الذي ترى أنَّ الحرصَ على تفعيله لن يكون إلا مُعيقاً، ومُعطِّلاً، ومُضيِّعاً للجهد والوقت وغير ذي جدوى، لكونه يُناقض مصالحها، أو لأنه يقتضي تقاسم السلطة والثروات معها! ولئن كانَ هذا هو تصرُّف المجموعة النُّخبوية مع جماعتها الأقرب إليها، ومع آخرينها المقربين، التي هي رأسُ هرمها وهرمهم، فكيف يكونُ حالُ تصرُّفها مع “عامة النَّاس أو “سواد النَّاس، أو مع “الجماهير”، و”الدَّهماء” و”الحشود”؟
مَنْطِقُ التَّراتبية وخَوَاءُ النُّخَبْ
يبدو أنّْ لا مناص لأيّ محاولة موضوعية ومحايدة للإجابة عن هذا السؤال من أنْ تأخذ في اعتبارها جميع الاحتمالات الممكنة للاتجاه الذي ستأخذه أيُّ إجابة ممكنة، سواء أكان هذا الاتجاهُ متساوقاً مع ما قدَّمناهُ من مقاربةٍ توصيفيةٍ، ولا نقول تعريفاً جامعاً مانعاً، لمصطلح “النُّخبة”، أم مُناقضاً لمحتوى هذه المُقاربة ذاهباً لإلغائه وإثبات نقيضه، أم آتياً بما هو مُغايرٌ وجديد، وذلك استناداً إلى ماهية المحتوى الذي يملأ ذلك الشكل الفارغ الذي تسكنه النُّخبة، والذي تُحدِّدُ مُكوِّناته هُويَّته، وبالتَّالي هُوِيَّةَ النُّخبة التي تسكنه. وأيّا ما كان أمرُ الاتجاه الذي ستنحو إليه الإجابة، فإنَّ لنهوضها على حقائق ومعطيات ونتائج وخلاصاتٍ أسفرت عنها بحوثٌ ودراساتٌ تَوَسَّلت مناهج البحث والتحليل المعتمدة في حقول الدراسات الإنسانية ذات الصِّلة، لكفيلٌبأنْ يجعلها إجابةً مؤصَّلة لا يُمكنُ لعاقلٍ إلا أنْ يأخذَ بها، ويبني عليها ما تستوجبهُ الرَّغبةُ في النهوض بالمجتمعات وإثراء الحياةُ وإسعاد النَّاس من مواقفَ وتصرفاتٍ واتجاهات سلوك.
قد يرى بعضُ الدَّارسين أنَّ النُّخبة، بطبيعة كونها “نُخبةً” ولما يحكمُ تشكُّلها من مُحدِّدات وعلاقات وتوجُّهات ومقاصد وغايات، إنما تعملُ على تعميق الهُوَّة بينها وبين عامة النَّاس، إذْ ينحو فكرها، كما سلوكها، إلى التعالي والغرور، وذلك على نحو لا يدفعها إلى فصل نفسها عن العوام فحسب، بل إلى السَّعي نحو تعميق الهوَّه بينهم وبين المثقفين عموماً، وذلك بما يستجيب للدَّور المنوط بها من قبل النُّخبة السياسية (رأس هرم السلطة الحاكمة) التي تتاوق كلية معها، وتنمو في ظلها، وتأتمر بأمرها.
ويبدو أنَّ منطقَ التراتبية الذي يحكمُ تشكًّلَ أيّ جماعة أهلية أو مجتمع أو مجموعة نخبوية، ويفرض جوهره على بُناها، يُتيحُ لهذه التراتبية، ولهذه الهياكل،أنْ تتبدَّى، في التَّصوُّر النَّظري، على هيئة أشكالٍ فارغةٍ من أيّ محتوى وغير مُسَمَّاة، حيثُ يُمكنُ ملءُ هذا الشكل أو ذاك بأيّ محتوىً وتسميته وفق ما تمليه ماهية هذا المحتوى وهُوِيَّته، وذلك لأنَّ المحتوى، والتسمية التي تُواكبه، إنما ينبثقان، في كل وضعٍ وحال، من معطيات شبكة المصالح والعلاقات القائمة في الواقع الفعلي والتي تستدعي إقامة التراتبية عبر أشكالٍ متعدِّدة ومتنوعة المجالات.
تبديل الأقنعة والمرجعيات
إنَّ الاستبداد السياسي، المُعزَّزِ باستمرار وجود الاستعمار الأجنبي لبلادنا بأشكالٍ شتَّى ليس أقلها التبعية السياسية والمالية والاقتصادية، والجثوم الفعلي للقاعدة العسكرية الاستعمارية الضَّخمة المُسمَّاة “إسرائيل” على قلب الوطن العربي الذي كان ولا يزالُ اسمه وسيبقى “فلسطين”، قد كرَّس حقيقة استحالة إقدام الأنظمة العسكرية والسياسية النُّخبوية الاستبدادية التي حكمت العرب ولا تزال تحكمهم في أقطارهم المنفصلة، على تبنِّي مشروعٍ نهضويٍّ تنمويِّ جامع شامل ومتكامل، أو حتى مشاريع نهضوية تنموية جزئية ومنفصلة تعكس واقع حال الانفصال والتشظي وتُحافظ على بقائه وتُرَسِّخه. ولقد أفضت هذه الحقيقة المُكَرَّسة في واقع العرب، ضمن ما أفضت إليه، إلى الإبقاء على التشكلات النُّخبوية العصبوية والقبلية والطائفية والدِّينية والثقافية القديمة التي أنتجتها قرونٌ مديدةٌ من احتجاز التَّطوًّر الطبيعي طوال أزمنة الاستعمار الأجنبي المُباشر، وإلى ترسيخ وجود هذه التَّشكلات وتأكيد فاعليتها عبر توسيع دورها والاستمرار في توظيفها من قبل أنظمة الاستبداد التي شكَّلتها نُخب سياسية تابعة ومُستبدَّة تعدَّدت أقنعتها الأيديولوجية ومرجعيّاتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية وتباينت وتبدَّلت، ولكنها تضافرت في سعيها لتأبيد حكمها عبر تعميق الاستبداد والطغيان وتوسيع نطاقهما، وإلغاء النَّاس، أو اعتبارهم، في أحسن الأحول، محضَ أتباعٍ، أو عبيدٍ، أو رعايا قاصرين، أو في أحسن الأحوال بشراً أحراراً ولكنْ مُؤَجَّلين!
حرصت أنظمة الاستبداد على جعل الاقتراب من حرم السياسة المغلق لأبواب واحد من التابوات التي يتشكل منها نظام التابو العربي
الاحتواء والاحتجاز وفرض الهيمنة
وإلى جانب الإبقاء على القديم الملائم وتكريسه وتقويته، عملت النُّخب السياسية والعسكرية المُستبدَّة، بأقصى ما تستطيعه من جهدٍ وسُرْعةٍ ودأبٍ عنيد، على مسارين استهدفت من خلالهما تحقيق أمرين، أولهما: احتواءُ أيٍّ شكل من الأشكال النُّخبوية التي بزغت حاجةٌ مجتمعية أو إنسانية إلى وجوده، وذلك عبر ملئه بمحتوى يُلائم حاجتها هي ولا يُلائمُ، بأيِّ حالٍّ، الحاجةَ الأصليةَ التي ولَّدَتْ الحاجةَ الماسَّةَ إلى وجوده! وثانيهما: احتجاز إمكانية نشوء أيِّ شكلٍّ نُخبويٍّ يُتوقَّعُ له أنْ يتأبَّى على الاحتواء، مع الحيلولة دون تجدُّد انبثاق الحاجة إلى هذا الشكل أو ما ماثله من أشكالٍ في أيّ وقتٍ لاحق، وذلك بتشديد قبضات الاستبدادِ والطغيان متعدِّدة الأنماط على المجتمع والنَّاس، وفرض سطوة الأجهزة الأمنية المتكاثرة ومتعدِّدة الاختصاصات على أيّ شكلٍ من بين تلك الأشكال النخبوية التي تأبَّت على الاحتواء، أو لم يُسْتَكْمل قمعها أو لم يُحْكَم إغلاق منافذ ولادتها، ربما يكون قد بزغَ، مُجدَّداً وفي غفلة من تلك الأجهزة، بصيصُ نورٍ لتشكُّله، وذلك لاجتثاث إمكانية أنْ يُصبحَ، في مُقبل الأيام، نواةً لمُعارضةٍ سياسيةٍ أو اجتماعية حقيقيةٍ، أو إطاراً ثقافياً حاضناً لاستنبات بذورِ مشروع نهضةٍ عربية شاملةٍ تتطلَّبها الحياةُ الحقَّةُ ويتوق إليها المجتمعُ، وينتظرها النَّاس!
ويبدو أنَّ إصرارَ أنظمة الاستبداد والطغيان الأسود على احتجاز إمكانية أنْ تتشكَّل، على نحو طبيعيٍّ وفي أيٍّ من المجتمعات العربية، منظومة متكاملة ومتفاعلة للنُّخب متعدِّدة المجالات والاختصاصات، وذلك عبر استمرار عملها المحموم على تعزيز هذا الاحتجاز بالحرص الصَّارم على جعل الاشتغال في السياسة، أو الاقتراب من حرمها مُغلق الأبواب، واحداً من التّابوات التي يتشكَّل منها نظام التّابو العربي، قد أتاح لهذه الأنظمة فرصةً مفتوحةً للسَّعي المستمرِّ لفرض “نظام قيمها الخاص” -وهو النِّظام المتبدِّل، قليلاً أو كثيراً، حسب إملاءات ما يقتضيه تعميق أو توسيع أو حتَّى تأبيد حكم النُّخبة الحاكمة من ضرورات تستدعي تبديل الأقنعة- على المجتمع بأكمله، وذلك على النَّحو الذي أغلق إمكانية انبثاق “نظامٍّ مُوَحَّدٍ ومُوَحِّدٍ للقيم” كان لانبثاقه أنْ يؤسِّس لانتقال التجمعات الأهلية أو “المجتمعات” القائمة الآن في بلاد العرب إلى حالةٍ اجتماعيةٍ أعلى وأرقي وأكثر انفتاحاً على الحياة والعصر، وذات مقوِّماتٍ وإمكاناتٍ تفتحُ آفاقاً واسعةً أمام تشكُّل مجتمعاتٍ مدنيةٍ حقيقية تختزنُ إمكانية تحوُّل الإنسان العربي من رعيّة إلى مواطن، وتحوُّل القبائل والطوائف والعصبيات والمذاهب مشظَّاة الانتماء وأولويات الهوية، إلى “أمَّة” مُلْتَحِمَةٍ، عالية الشأن والقيمة، وجديرة ببناء “دولة” هي دولة المواطنين المتساوين في نطاق “دُستور” يُجسِّد “نظام قيم جمعي مُوحَّدٍ”، يُعزِّز وحدة الأمة ويُرسِّخها، ويُفجِّر طاقاتها الكامنة ويستحثُّها على الشروع في تنفيذ مشروعها النهضوي الشَّامل والمتكامل والمفتوح على صيرورةٍ مُتطوِّرة لا تكفُّ أبداً عن الاشتغال؛ دستور يظلُّ هو الإطار النَّظري والمحفِّز الرئيس لعبور كلِّ ما سبقَ افتراض عبوره من مراحل وتحولات، ويبقى، في ضوءِ انفتاحه على ما يمليه التطور المفتوح من مراجعةٍ وتحديثٍ، منبعاً استراتيجياً لوضع خطط عمل متعدِّدة المجالات في تكامل وتواشجٍ يستهدف الذهاب إلى آفاق أبعدَ على كل مستوى وصعيد؛ أي إلى مستقبلٍ قابلٍ للتحقيق لأنه لا يُسْتَدْعى من ماضٍ مضى، ولا يُسْتَجْلَبُ من حاضرٍ قائمٍ في مكانٍ آخرَ غريبٍ وبعيد، بل يطلعُ من قدرة النَّاس،محفَّزين برؤى أفراد النُّخب من أبناء النَّاس وجهودهم، على دفع ممكنات الواقع القائم إلى أقصى مدى ليأتي الواقع الممكن محمولاً على الجهد الإنساني الخلاق، الشامل والمتكامل والمتواصل، من المستقبل.
نُخَبٌ غائبة وحُلمٌ مكبوح
فهل نذهبُ في ضوء ما تقدَّم من كلام ينطوي بعضه على مكونات حلم مكبوح، إلى القول بأنَّ الواقع العربي، الذي نعاينه ونعاني قسوته وضراوة مراراته، لم يتوافر يوماً على نُخبٍ راسخة وقويَّة سوى النُّخب القبلية والعصبوية والدِّينية والطائفية التي أراد الاستعمار، إذْ لاءمه استمرارُ وجودها، تقويتها وإدارتها عن بُعدٍ، أو عبر أنظمة سياسية استبدادية تحكمها نُخبٌ عسكرية أو سياسية جرى تشكيلها أو تدجينها لتتولَّى القبض على زمام الأمور كي لا يفلت استعمارُ البلاد التي تمَّ تحويلها إلى “سلسلة أسواق ضخمة”، أو “شركات متعدِّدة الجنسيات” أو شركات “عابرة للقوميات”، أو “قواعد عسكرية” أو غير ذلك من أشكال وكيانات ما عدا شكل “الدَّولة” وكيانها وكينونتها، من يد الاستعمار الذي لا يكفُّ، بدوره، عن تبديل الأقنعة لتسويق منظومات قيم زائفة تجسِّدها هذه الأقنعة، ويتخذها هذا الاستعمارُ غطاءً لفواحش وجرائم ضدَّ الحياة والإنسانية يرتكبها باسم الحياة والحرية والديموقراطية والإخاء والمساواة والعدل والإنصاف وحقوق الإنسان!
كان لغياب مشروع نهضوي عربي أن يفضي إلى الإبقاء على التشكلات النخبوية العصبوية والقبلية والطائفية والدينية والثقافية القديمة وأن يرسخ وجودها، ويؤكد فاعليتها
وهل نذهب إلى القول إنَّ ما يُوجَّه من نقدٍ لاذع وجارح إلى النُّخب العربية التي يُعتقدُ أنها “تقاعست” أو “استغربت” أو “استمضت” أو “خافت” أو “جبنت” أو “تماهت مع الاستبداد” أو “تحالفت مع عدوها” أو “أمعنت في إذلال نفسها”، أو “أضاعت الفرص”، أو “غرَّدت خارج سربها”، أو “تواطأت مع نقيضها” أو “بدت خالية الوفاض حين استدعاها دورها”، أو “خانت دورها التنويري” أو “ضاعت بين الجمود والصَّمت والانسحاب” أو “آثرت الاختباء في الظِّل الآمن العفن على الانكشاف والسقوط الأكبر والنِّهائي” أو استمرأت قول ما هو “مخالفٌ للحقيقة” بقصد “خداع الجماهير” و”تحريف الوقائع“، أو اعتمدت “الكذب وسيلةً شرعيةً للمعارك السياسية والثقافية والدِّينية”، أو عجزت عن “تنوير النَّاس“ لكونها هي من “يحتاجُ إلى تنوير أو إلى تربية عقلية نقدية تؤهله إلى قراءة واقعه قراءةً صحيحة”، أو ألحَّت على النَّاس أنْ يكفّوا عن “الإسراف في استعمال العقل أو طرح التساؤلات أو التناول التحليلي والنَّقدي للأفكار والآراء” لأنَّ “كثرة السُّؤال تُودِّي إلى المهالك، وتدخلُ في باب البِدع التي قد تُؤَدِّي بالمتسائل إلى النَّار”، أو استأثرت “باتخاذ القرارات نيابة عن الجماهير” التي حين توجَّهت إليها لا تناشدها المشاركة في انتفاضات النَّاس المندلعة ضدَّ الاستبداد في القرى والبلدات والمدن، وفي الأزقة والشوارع والأحياء والميادين، وفي جميع أرجاء بلادٍ من البلاد، فحسب، بل تدعوها إلى الإقدام على تولِّي قيادتها، “لاذت بزاويتها الخافتة”، أو “صرخت: أيحكمنا الرّعاع!”، ثمَّ فرَّت هاربةً بجلدها وبما راكمته من ثروات سرقتها من خزائن النَّاس، ولاذت “بالأقوياء المستحدثين أيّا كانوا”، أو انزوت تراقب منتظرة اتضاح مآلات الأوضاع لترى ما ترى! فهل نذهبُ إلى القول إنَّ كلَّ هذا النَّقد الجارح والمُحِق، وكلَّ هذا التوصيف الدقيق تماماً على المستوى التَّصوًّري، إنما كانَ موجَّهَاً إلى هياكل فارغةٍ جوفاءَ شوهاء، إلى مجموعات نخبويةٍ زائفة لم تكن تُوجِدُ، ماهيةً وهُويةً ودوراً، إلا في تصوُّر زائف فرضته هذه المجموعات الزائفة نفسها على وعي النَّاس الذي بذلت كلَّ ما في وسعها من أجل تدجينه، أو تزييفه، أو تزويره، أو محوه تماماً!
نعم، سنمنحُ أنفسنا حقَّ قول هذا القول، ولو لمرَّة واحدة! وذلك لأنَّ التاريخ يُعلمنا، إنْ نحنُ قرأنا بعض صفحاته، أنْ ليس ثمَّةَ من إمكانية فعلية لتشكُّل نُخبٍ حقيقية، فلسفية أو فكرية أو علمية أو ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، بمعزلٍ عن وجود قيادة سياسية وطنية ديموقراطية، صادقة ومخلصة، ذات معرفة مستنيرة ورؤى خلَّاقة، وتتبنَّى مشاريع نهضوية شاملةٍ تثري الحياة وتُعمِّق جوهرها عبر الاستجابة الواعية لأشواق النَّاس وحاجاتهم، ولتطلُّعهم اللاهب إلى مستقبل أفضل ينتقلون معه، بالجهد المثابر والبذل والعرق، من واقعٍ قائمٍ إلى واقع ممكن في سياق صيرورة مفتوحة على مستقبل لا يكفُّ أبداً عن المجيء من المستقبل.
اسْتِغْرابٌ أعْمَى
ومن جانبٍ آخر، ومع افتراض وجود إمكانية، مهما ضَئُلتْ، لتشكُّل مجموعات نُخبوية “حقيقية” يمكنها الانتقال من حيِّز الوجود بالقوَّة إلى حيِّز الوجود بالفعل في ظلِّ أنظمة الاستبداد والطغيان والقهر، فإنَّ المجموعات النخبوية الجديدة التي تمكَّنت من الوقوف لبرهة على تخوم حيِّز الوجود الفعليِّ، رفعت من الأسوار والحواجز ما سدَّ كلَّ منفذٍ قد يحملها عبوره إلى رحاب هذا الوجود، وذلك لأنها استمرأت استعارة منظومات القيم ومناهج التحليل الاجتماعي والعلمي والنقدي، وطرائق العمل وأدواته وأساليبه وغير ذلك، من مكان آخر هو “الغرب الغريب” الذي لا يصله بواقع العالم العربي إلا المشترك الإنساني والثقافي العام الذي ألقت عليه حقب التاريخ الاستعماري الغربي الضَّاري لبلادنا العربية ظلالاً معتمةً وشكوكاً عميقة، حيث بدا أمرُ “الاستغراب الأعمى”، أي غير المُفكَّر فيه وفق حاجات بلادنا ومتطلبات نهضتنا، فَجَّاً ومريباً، إذْ لا يُمكن عزله، أبداً، عن المخططات الاستراتيجية الاستعمارية الغربية، وربما الإقليمية، الرَّاهنة، وفي صلبها المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني الجاري تنفيذه بدءاً من فلسطين، وهي المخططات التي تستهدف، فيما نحسب، إعادة إنتاج الاستعمار بأشكال جديدة عبر تعبئة محتواه القديم، الذي أُعيد صوغه وفق ميزان القوى العالمي والإقليمي الجديد وفي ضوء الحاجات المتجدِّدة لهذا الغرب المُتجدِّد، في جرار من صنع النظام الدولي الجديد، والتقانة الحديثة، اللذين يعملان على تهيئة العالم لقبول ما كان يرفضه من تماهٍ مع هذا الغرب، أو إذعان لمشيئته الاستعمارية وترتيباته التي يُريد فرضها على العالم بأسره! فكيف يُمكن قبول “الاستغراب الأعمى” الذي عجز عن إضاءة ما يكفي من القواسم المُشتركة، الخيِّرة والنَّبيلة، التي تفتح الثقافات الإنسانية جميعاً على الثقافة العربية، لتنفتحُ جميع هذه الثقافات، في تفاعل ثريٍّ، على إمكانية بناء عالمٍ إنسانيٍّ مُشترك يليق بالإنسانية المشتركة التي تجمع كلَّ البشر على مبادئ وقيم وتطلعات وحاجات إنسانية مُشتركة، وعلى تبادل تجارب وخبرات ومصالح، وعلى تفاعل إنسانيٍّ ثرٍّ وخلَّاق.
كان لنظام التابو العربي أن يمنح أنظمة الاستبداد فرصةمفتوحة للسعي لفرض "نظام قيمها الخاص" على الناس
أمَّا بضعة المجموعات النُّخبوية السياسية متعدِّدة الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية، التي تمكَّنت من دخول حيِّز الوجود الفعلي عبر النَّفاذ من شقوق صغيرة في جداره الذي أسهمت هي نفسها في بنائه، فقد وجدت نفسها محكومةً بشروط واقعٍ استبداديٍّ ضارٍ لا يتيح لها مواصلة البقاء في ذلك الحيز إلا إنْ هي عدَّلت اتجاهاتها الفكرية والأيديولوجية وما تمليه هذه الاتجاهات من برامج وتصرُّفات، فانعدلتْ، فكراً وسلوكاً، وصارت متساوقةً مع نظام الحكم بالدَّرجة التي تُمليها رؤيته ومصلحته، أو متماهيةً به واضعةً نفسها في تصرُّفه لتصير تابعةً له، تتحرَّكُ على هامشه بوصفها جزءاً ثانوياً منه، أو أداةً من أدواته التي يُخرجها من تحت إبطه عند الاقتضاء.
وعلى ذلك، فإنَّ غياب مشروعٍ نهضويٍّ وتنمويٍّ متكاملٍ، مؤسَّس على وعي عميق بالواقع القائم المراد نقله إلى واقع ممكن، ومُتَبنىً من قبل المجتمع بأكمله في أيّ بلدٍ من بلاد العرب أو من قبل المجتمعات العربية جميعاً في جميع بلاد العرب، قد أدَّى بأيِّ نخبة سعت إلى الشروع في العمل الجاد إلى الاصطدام بالواقع الذي لم تُحلَّله، امتداداً وعمقاً، فلم تُدركه كما كان ينبغي لها أنْ تفعل.
سؤال النَّهضة وتطابق الإجابات المتناقضة!
لقد كان لعجز هذه النُّخب عن قراءة الواقع على نحو عميق وصحيح يُمكِّنها من إدراك مكوناته وتحليله وفهمه، أنْ يحملها إلى تقديم إجابات عن سؤال النَّهضة تُجافي هذا الواقع وتؤسِّس لاقتراح مشاريع تتضمَّن أفكاراً وتصوُّرات وغايات وأهداف تنأى عنه فيتأبَّى عليها إذْ يلْفُظُهَا النَّاس. وعلى الرَّغم من تنوُّعِ اتجاه الإجابات ما بين إجابة دينية “سلفية” ماضوية متحجَّرة، وإجابة دينية سلفية” ماضوية غير متحجِّرة وربما مستنيرةً على الأرجح، وإجابة ليبرالية “مستغربة”، وإجابة يسارية “متمركسة”، وإجابة “قومية” مُغْلَقة، وإجابة “طائفية” أو “شعبوية” أشد انغلاقاً، أو غير ذلكَ من إجاباتٍ افتقرت الأصالة لمجافاتها الواقع، فإنَّها التقتْ جميعاً، رغم تباينها وتناقضها وتعدُّد مرجعيّاتها واتجاهاتها الفكرية والأيديولوجية، على مبدأ التعامل مع كُلٍّ من “الواقع القائم” و”الواقع الممكن”، بوصفهما هيكلين فارغين يُمكن ملؤهما بأيِّ محتوى سواء أكان ذلك على صعيد تحليل الأول وإدراكه أو استشراف الثاني وتصوُّر مكوناته وممكناته!
ومن اللافت للانتباه، هنا، أنَّ ما اقترحَ من أفكار أو ما عُرِض من تصوُّرات من قبل السلفية الدينية المتحجِّرة، أو السلفية الدينية المستنيرة، أو الليبرالية المستغربة الرَّخوة، وبالرَّغم مما بدت عليه تلك الأفكار والتصورات من تناقض فادح يتأسَّس على الثنائية الزَّائفة “ماضي الأنا وحاضر الآخر”، إنما تلتقي جميعاً وتتطابق من الوجهة المنهجية، ومن حيث صعوبات التطبيق القسريِّ وعقابيله ومآلاته، في إطار واحد يضمُّ “مُجافاة الواقع و”إغفال الصيرورة التاريخية متعدِدة المجالات والسياقات” و”استدعاء النموذج الجاهز وذلك إمعاناً في التقاعس عن إعمال الفكر أو تشغيل مناهج التحليل الاجتماعي والعلمي المحكمة لإنجاز ثلاثة أمور أساسية بالغة الأهمية والضرورة. وربما كان ينبغي لهذه الأمور الثلاثة، التي سنُوردها على الفور، أنْ تكون قد أُنجزت من زمن بعيد لو لم تخن تلك النَّخب نفسها والنَّاس وتتحوَّل إلى هياكل فارغةٍ عديمة الوجود، أو هياكلَ خاوية موجودةٍ بالقوَّة لا بالفعل وذلك إذا ما نُظرَ إلى وجودها في ضوء ماهيتها الحقيقة، وهُوِّيتها المُرتجاة، ودورها المنطقي المُتصوَّر.
يتمثَّلُ أولُ هذه الأمور الثلاثة في إقامة تصوُّرٍ مُؤَصَّلٍ، تاريخياً وفكرياً، عن ماهية العلاقة (أو العلاقات) التفاعلية الإيجابية مع “الآخر الغربي” أو أيّ “آخر” وتحديد كيفية، أو كيفيات، إقامة هذه العلاقة (أو العلاقات)، بسويَّة وإنصافٍ وتقاسم منافع وغايات، وتبيان آليات تحقيق الإفادة المشتركة من تفعيلها والاستمرار في تطويرها، عمقاً وامتداداً، وذلك استجابةً لمتطلبات تواصلها ولاستكشاف آفاقها الأعمق والأوسع والأبعد.
أما ثاني هذه الأمور فيتمثَّل في قراءة ماضي “الأنا” عبر إعادة قراءة “التراث العربي” وتفكيك خيوط شبكاته المعرفية وتحليله ونقده لاكتشاف ممكناته التي يُمكن أنٍ تسهم في حملنا إلى المستقبل بغية تمييز الخطوط الفكرية والثقافية الإيجابية، الوضَّاءة والمُنيرة، التي ينبغي التواصل معها وتعزيز حضورها في الحاضر ومدِّها إلى المستقبل، وتحديد الخطوط الفكرية والثقافية التي طالها الاهتراء أو تراكم عليها العفنُ أو تجاوزها الزَّمن، والتي لن يكون للتشبث بها إلا أنْ يسحبنا إلى الماضي ليحبسنا، خاملينَ مؤجَّلي الوجود، في أقبيته، أو ليُرَسِّخ حضوره في حاضرنا، فيطمس هذا الحاضر ويغلق المنافذَ المفضية إلى أيّ مستقبل، حيث لا يكون أمامنا، إنْ نحن أردنا ذهاباً إلى مستقبل أفضل، إلا أنْ نعملَ على فرز هذه الخيوط، وتحييدها، وتحقيق القطيعة النَّاجزة مع كلِّ ما تحملهُ من فكر أو تتضمَّنه من “رؤى للعالم” تجاوزتها الحياة، وعفا عليها الزَّمن!
كان لإجهاض إمكانية انبثاق "نظام موحد وموحد للقيم" أن يحول دون بلاد العرب والانتقال إلى حالة أعلى وأرقى وأكثر انفتاحا على الحياة والعصر
وفي ضوء الأمرين الأوّلين، يتحدَّدُ الأمر الثالثُ المتمثِّل في ضرورة إدراك ممكنات الواقع العربي والطاقات البشرية والإمكانيات والموارد الأخرى التي يتوافر عليها، والتي ينبغي استثمارها وتوظيفها على أفضل وجهٍ ممكن لبناء مستقبل أفضل ينفتحُ على مستقبل أفضل في سياق صيرورةٍ تاريخية دائمة ومفتوحة!
تفتيت البلاد وتشظية الهُويَّة
في ظلِّ غياب أو ضآلة حضور أو هامشية تأثير ما قد أُنجز من الأمور الثلاثة التي أشرنا إليها للتَو، يحقُّ لنا أنْ نسأل: ما الفرقُ إذنْ بين من يستدعي نموذجاً يزعمُ أنه كان مُتَحَقِّقاً في “عصرٍ ذهبيٍّ” من زمنِ ماضٍ قد مضى، وذاك الذي يستدعي نموذجاً يزعمُ أنه متحقِّقٌ بالفعل في مجتمع آخرَ بعيدٍ ومختلفٍ من أكثر من مكوِّنٍ وحالٍ ومنظور ووجهة، ليكون مستقبلاً لمجتمعاتٍ وأوطانٍ وكياناتٍ تنتمي إلى أمَّةٍ مجروحةٍ تمرُّ بواقعٍ انتقالي صعبٍ ومرير، ولكنها تتوافر على كل ما تحتاجه الأمم الحُرَّة، ذات الحضارات العميقة والممتدَّة والثقافات عالية الشأن في تاريخ الإنسان، من مقوِّماتٍ تؤهِّلها للانخراط في مخاض صيرورة تحملها إلى انبثاقٍ جديد، ما الفرق؟!
وما الفرق بين هذين الموقفين المتباعدين ظاهرياً والمتلاصقين منهجاً ومآلات، وتلك المواقف التي راحت تتوسَّل نقاط ضوء في حضارات قديمة تحقَّقت في بلاد العرب وصارت مناراتٍ في متحف الحضارات الإنسانية، ليمنحها الأولوية في تخيُّل الهُويَّة، ويجعلها مشاعل تُضيء أعماق هُويَّةٍ نكوصيةٍ تمَّ تكوينها في مخيالٍ ذواتٍ إنسانية مجروحة يحكمها الاستعمار السَّافر أو المُقنَّع، والتَّخلُّف الموغل في التَّخلُّف، والاستبداد الأسود، والركون المهين إلى حوائط العجز المهيض؟! ربما لا يُوجدُ فرقٌ يُعتدُّ به من حيث الجوهر، فكلُّ تلك التصوُّرات والدَّعوات إنما تذهب إلى دفع واقع العالم العربي، قسراً وعنتاً، نحو مزيد من التشظِّي والتفتت والانهيار، وذلك ضدَّ مصلحة النَّاس، جميع النَّاس؟!
ما الفرق بين من نادى، أو قد يُنادي، بالفرعنة أو الفينقة، أو الكنعنة، أو الأوشرة، أو السومرة، أو الببلنة، أو الأومرة، أو الأورمة، أو الفرسنة، أو الصَّوفنة، أو الشَّيعنة، أو التَّركنة، أو السَّنينة، أو غير ذلك من تشظيات عنصرية وشعبوية ومذهبية وطائفية وعرقية ودينية وأيديولوجية، ماضوية ومتحجِّرة دائماً، وذاك الذي يُنادي، جهاراً نهاراً، بالأسرلة التي تتوخَّى إقامة عالمٍ تتسيَّدُ عليه، وتحتكره لنفسها، “نخبة النُّخب” من النَّاس، أو النَّاس الذين هم النَّاس، لأنهم وحدهم الأخيارُ المُصطفون من إله قيل إنه قد قال “إنهم شعبي” لأنهم هم وحدهم البشرُ الحقيقيون؟! ما الفرق؟!
ومن هم أصحابُ المصلحة الفعلية في تفتيت بلاد العرب وفي تشظية الهُويَّة المُلتحمة التي تجمعُ أهلها من كلِّ الأعراق والأجناس والألوان والطوائف والمذاهب والديانات؟ من هم أولئك الذين يريدون لتشديد سطوة الاستبداد والإرهاب والقمع وإشعال الفتن وشنِّ الحروب أنْ تحقَّق تلكَ الغايات والمقاصد السَّوداء؟!
ومن هُم من بين الذين يعيشون بيننا، أو من بين “ناسنا”، أولئك الذين ارتهنوا أنفسهم وحاضرهم ومستقبلهم لقويٍّ مستبدٍّ، أو لسلطانٍ جائر، أو لأقوياءَ قساةً ومستعمرين غاشمين، فكانوا محضَ حمّالي حطبٍ محليين يرفدون المحرقة المنصوبة على امتداد بلاد العرب بالحطب، ولن يؤلوا في خاتمة المطاف إلى شيء سوى أنْ يكونوا محضَ أحطابٍ جافَّةٍ تُلْقَى، ذاتَ لحظةٍ يستوجبها انتهاء الوظيفة الدَّور وفقدان الحاجة إلى دفع الأجر، في المحرقة نفسها؟!
اللُّغة: الأمُّ الرَّؤومُ ووَجْهُ الأمَّة
هكذا رُفِضتْ، وَقُووِمَتْ، وعُزلت في الماضي القريب، ويجري رفضها ومقاومتها وعزلها في الحاضر الرَّاهن، ومن قبل الأعمّ الأغلب من المثقفين العرب الجادين والمجتمعات العربية الرَّاسخة وأصلاء النَّاس، كلُّ تلك التشكُّلات النخبوية الجوفاء والتَّصورات الأيديولوجية الزائفة التي لم تسفر عن شيء سوى هياكلَ فارغة لم تُمْلَأْ إلا بمحتوياتٍ سوداء! ولعلَّ لهذا الرَّفض الصَّارم من قبل العرب وغير العرب من أهل بلاد العرب لهذه الهياكل الفارغة والمحتويات السًّوداء أنْ يكونَ، من جهة أولى، كاشفاً عن الجوهر الإنساني النبيل للثقافة العربية التي أسهم في بنائها وتطويرها وإعلاء شأنها العرب وغير العرب من أهل بلاد العرب، والْمُكْتَنَزَةُ قيمها العالية في أعماق لغة عربية جامعة هي اللُّغة التي يعيشها وينطقها ويكتب بها جميع النَّاس والمفكرون والمبدعون من النَّاس في بلاد العرب من جميع الأعراق، لأنها مجالهم الحيوي الرَّحب، أمُّهم الرَّؤوم، ووجْه أُمَّتِهِمْ.
الشَّرعية المفقودة وتعنيف النَّاس
ولعلَّ هذا الرَّفض، من جهةٍ ثانية، أن يكونَ هو السبب الفعلي الأبرز لإقدام النُّخب السياسية الحاكمةِ المُستبدَّة، حينما أدركت خواء التشكُّلات النُّخبوية التابعة لها وفراغ محتويات هياكلها الفكرية والتَّصورية جرَّاءَ انعدام صلتها بالواقع وعدم قدرتها على تلمّس أشواق النَّاس، على تبديل توجهاتها الأيديولوجية وبرامجها ومشاريعها من دون التَّخلِّي، أبداً، عن متابعة فرض هيمنتها على المجتمعات والنَّاس بالقوَّة الغاشمة والاستبداد الطَّاغي، وعلى اعتماد ذلك منهجاً وأسلوباً لم تكفَّ أبداً عن الأخذ به وإعماله بين فينة وأخرى، وحسب مقتضى الحال، وذلك على نحوٍّ أكَّد، مراراً وتكراراً، كذبَ دعاوى هذه الأنظمة السياسية العربية المحكومة بنُخب سياسية فارغة لا تفتقر إلى رؤية للعالم أو مشروع نهضوي أو رؤية أيديولوجية متماسكة ورصينة فحسب، بل تفتقرُ، أصلاً، إلى الشَّرعية، ولا تتوافرُ على أدنى درجةٍ من درجات الانتماء إلى مجتمع أو وطن أو أمَّة أو هُويَّة!
إزاء كلِّ ذلك، وبغية تبرئة نفسها بإلقاء تهمة العجز أو التقاعس عن النَّهوض بالمجتمعات والأوطان على نقيضها الذي هو، وفق تصوُّرها الموافق واقع الحال، أقرب شمَّاعةٍ تطالها يدُ خداعها ومراوغتها واستبدادها، سارعت النُّخبُ السياسية القابضة على الحكم، كما سارعَ أصحاب تلك التَّشكُّلات النَّخبوية الفارغة المتماهية بالسطات الحاكمة والدائرة في فراغ فلكها الخاوي إلا من الاستبداد والقمع، إلى إلقاء اللَّوم والتَّعنيف والازدراء على هذا النَّقيض؛ على النَّاس؛ على تلك الشُّعوب التي أسبغَت عليها من النُّعوت ما رأت أنه لائقٌ بها أو أقلَّ ما يُمكن أنْ تُوصف به، فهي الجاهلة المحكومة بالتَّخلف والجمود والغباء والعناد والحمق، وهي التي تُصرُّ، وتُمعن في الإصرار، على أنْ تبقى كذلك بالبصاق على يدِ السًّلطة الحاكمة الممدودة إليها بخيرٍ هو جوهر الخير، ولكنها، لغبائها الرَّاسخ وحمقها، لا تُدركه ولا تعيه، فترفضهُ من فورها وتُمعن في رفضه!
ليس هناك من إمكانية فعلية لتشكل نخب حقيقية بمعزل عن وجود قيادة سياسية صادقة ومخلصة، تتوافر على معرفة مستنيرة وتتبنى مشاريع نهضوية تنفتح على الحياة وحاجات الناس
ثنائياتٌ مُهْلِكةٌ وهياكلُ شَوهاء!
لقد اعتقدت تلك “النُّخَبُ”، تلك الهياكل الفارغة الشَّوهاء مفتقدة الانتماء لبنية اجتماعيةً متماسكة تتحرُّك في إطارها ومن أجلها، أنَّ مهمتها الرئيسة إنما تكمنُ في التفكير نيابةً عن النَّاس، أو العمل، في أحسن الأحوال، على توعيتهم بما يستجيب لحاجات السلطات الحاكمة، وبما يضمن ولاءهم لها، وإذعانهم لأوامرها، وانخراطهم في السير في الاتجاه الذي يُلائم مصالحها، والتزامهم أداء الدَّور الذي تُحدِّده لهم، أو على الأقلِّ “كفِّ شَرِّهم عنها” بعدم الانخراط في أيّ نشاطٍ أو حراكٍ اجتماعي أو ثقافيّ أو سياسيٍّ قد يُزعجُ حرصها على تأبيد حكمها وتحكُّمها رغم تقاعسها إلا عن ممارسة الاستبداد، أو قد يُقلق نومها عن إنهاض الحياة، أو قد يدعوها إلى سياسة أمور النَّاس وفق مصالح النَّاس، فانتهى الأمر بهذه “النُّخَبِ” إلى ما انتهى بها إليه: نُخَبٌ زائفةٌ كاذبةٌ؛ خاويةُ الفِكًرِ والرُّؤى؛ متعاليةٌ وجَوفاء؛ لا يسكن وجدانها ضميرٍ ولا يبرقُ في نفوسها المعتمة بصيصُ وجدان؛ وتَدَّعي الدِّفاع عن قيمٍ لا تُؤمن بها أصلاً. نُخَبٌ هي، في أفضل توصيفٍ لنعتها بإنصاف، أذرعٌ مُساندةٌ لأنظمة الحكم على جميع المحافل والصُّعد؛ تابعةٌ وذليلةٌ، تستجدي رضا الحاكم المُسْتَبِدِّ وتضرعُ إليه أنْ يُنيلها بعض رضاه، وأنْ يسبغَ عليها ما قد يُسْبِغُهُ عليها من مناصبَ وألقاب، وأنْ يُنعم عليها بما قد يُنعمهُ عليها من فُتات موائده، ومن رُشَاشَ مكرماته ونِعَمِه، ومن نَدِيف عطاياه، وأنْ يُحيطها، في كلِّ حالٍّ وحين ودوماً وأبداً، برعايته وفضله!
هكذا إذنْ تشكَّلّتْ في بلادنا، في المخيال الاجتماعي والسياسي والثقافي العام، الثنائية التَّصورية المُهلكة: “النُّخَبُ” و”النَّاس“، وهي الثنائية التي لم يكن لتَّشكُّلِها أنْ يتحقَّق لولا ثنائية أخرى هي ثُنائية “العصا والجزرة” التي أُحْكِمَ تطبيقها على جميع المستويات والصُّعد، وفي شتَّى مجالات الحياة والأنشطة المجتمعة الإنسانية، بفضل الرعاية السَّامية والدَّؤوبة من قبل أنظمة الاستبداد وأجهزتها المحكومة لإرادة نُخَبِهَا السّياسية الحاكمة، تلك التي لم تكفَّ أبداً عن تكريس القطيعة الاجتماعية الكاملة والنَّاجزة بين جميع “النُّخَب”، وجميع “النَّاس“.
قطعُ القطيعة واستعادة اللُّحمة
كيف يُمكنُ، في ضوء ما تقدَّمَ واستجابةً لما تتطلَّبهُ الحياةُ ويرجوه النَّاس وضمنهم المثقفون من النَّاس، إغلاق هذه الهوَّة الشَّاسعة؟ كيفَ يُمكن قطع هذه القطيعة واستعادة الصِّلة التفاعلية، بل والعضوية الملتحمة، بين “نُخب النَّاس“، ولا نقولُ “نُخب أنظمة الاستبداد والفساد”، و”النَّاس“؟ وهل ثمَّة من حاجة أو أهمية، أو ضرورة مُلِحَّةٍ، لفعل ذلك الآن، وقبل فوات الأوان؟ وهل ثمّة من حاجةٍ لوجود هذه النُّخب أصلاً؟ هل ثمّة من دور ينتظرها كي تؤديه؟ هل تتأسَّس الدَّعوة إلى وجودها على ما ينبغي أن يكون لها من دور عظيم في مواجهة تحديات وأخطار ماثلة تتهدَّد العرب جميعاً؟ وهل يُمكن أنْ تُحْمَلَ هذه الدَّعوة على كونها مجرَّد ردَّة فعلٍ متسرِّعةٍ على تحديات ماثلةٍ تزول إنْ زالت؟ وهل ثمة ما يصلُ هذه الدَّعوة بما كان مأمولاً به، ولم يتحقَّق على النَّحو الذي ترجوه الحياه ويرجوه النَّاس، عقب “صدمة الحداثة” قبل ما يربو على قرنين وعقدين من الزَّمان؟ وما الذي يتوجّبُ فعله من قِبَلِ الأفراد الذين يحتمل أنْ يُشكِّلوا نُخباً، ومن قِبَلِ النَّاس التوّاقين لوجود هذه النُّخب، لإنجاز ذلك؟ وما المنظور الذي ينبغي أنْ تتشكَّل وفقه هذه النُّخب، وعلى أيِّ أساسٍ فلسفيٍّ أو فكريٍّ أو ثقافيٍّ أو اجتماعيٍّ أو سياسيٍّ أو اقتصاديٍّ… الخ، وفي أيِّ سياقٍ عمليٍّ، ولأيِّ غاياتٍ، وبغية إنجاز أيِّ مشروعٍ، ينبغي لهذه النُّخب أنْ تتشكَّل وتتحرَّكُ وتعمل؟
يا لكثرة الأسئلة ويا لصُعُوبة العثور على إجابات موضوعية دقيقة هي الأقرب إلى الصواب لأنها الأعمقُ صلةً بالواقع القائم وبالرّؤى الواقعية التي يُمكن أنْ تنقله إلى واقع ممكن! فعلى الرَّغم من فيض الإجابات القديمة والمعاصرة متشعِّبة الاتجاهات والحقول المعرفية ومتباينة المناهج والمنظورات، إلا أنَّ ما اتسم به أغلبها الأعمّ من تناقضاتٍ ظاهرية تكشَّفت مع أوَّل تفحُّص منهجيٍّ مُعَمَّقٍ عن تطابقاتٍ جليَّةٍ، يجعلنا أعْجَز من أنْ نُعوِّل عليها في شيءٍ إلا تفحُّصها من جديد عبر إخضاعها لقراءة نقدية يحكمها التساؤلُ والشَّكُّ اللذانُ هما دائماً وأبداً ظلُّ ما هو مبحوثٌ عنه من يقين!
وإذْ نُحاولُ النُّهوض بمثل هذه المُقاربة، فإنَّ العنوانَ “حولَ النُّخب والنَّاس الذي نسترشدُ به دليلاً ونبراساً يُضيء ما نعتزمه من قراءات وتحليلات، والذي يُمْلي علينا ما سنذهبُ إلى تفحُّصِهِ من مقترحاتٍ وفروضٍ وعلاقاتٍ تتفرَّع عنه ويفضي تحليلها إلى انبثاق مقترحات وفروض وعلاقات أخرى تُغطّي جوانبَ البحث ومداراته، وتسمحُ بإقامة تصوُّرٍ نظريٍّ مؤصَّل ومتماسك بشأن ما يثيره من قضايا ومشكلات وإشكاليات، يُملي علينا أنْ نَشْرع، كمدخلٍ ضروري لإنجاز المقاربة التي نُريد، في تعرُّف ما ينطوي عليه مُصطلح “النَّاس والمصطلحات المتحوِّلة الأخرى الدَّالة على “النَّاس“ من معانٍ ودلالاتٍ وعلاقاتٍ ومفاهيم، ولا سيما أننا قد أنجزنا في الصفحات السَّابقة ما افترضنا أنَّه مُقاريةٌ كافيةٌ على نحو ما لتعرُّف المنطويات المفهومية لمصطلح “النُّخب”، ولإدراك مآلات حضوره عبر “الهياكل الفارغة” لتشكُّلات النُّخب العربية تحت سطوة أنظمة الاستبداد التي حكمت، ولا تزال تحكم، الواقع العربي الذي نُعاينه ونعاني وطآته الباهظة.
براتسلافا، مارس (آذار) 2015