الحداثة والتواصل العقلاني في تجربة يورغن هابرماس
يعتبر يورغن هابرماس (1929 دسلدورف بألمانيا) آخر وأهم رواد مدرسة فرانكفورت النقدية. اهتم بدراسة المجتمعات الرأسمالية المتأخرة (ما بعد الصناعية) ذات الأيديولوجية التكنوقراطية كما صاغها في نظريته “الفعل التواصلي” التي تضع حلولا عقلانية لمواجهة تحديات الرأسمالية والعولمة وما بعد الحداثة والتي تهدف إلى بناء عالم إنساني عقلاني ومنظم عن طريق الديمقراطية التعددية التي تقوم على التفاهم والتواصل والحوار العقلاني المستمر للتحرر من العقل الأداتي الذي يسيطر على العقل الأوروبي.
استمد هابرماس مرجعيته الفكرية من مدرسة فرانكفورت النقدية وروادها الكبار التي تعود في أصولها الفكرية إلى عصر التنوير والفلسفة الألمانية المثالية الموضوعية وخاصة كانط وهيغل.
إن التحولات البنيوية الجذرية التي طالت المجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى دفعت مجموعة من المفكرين الاجتماعيين في ألمانيا إلى إرساء دعائم فلسفة اجتماعية نقدية جديدة ترفض الفكر الفلسفي التقليدي، مثلما ترفض النظام الاجتماعي القائم ومؤسساته، محاولين تطوير الجانب النقدي من الفلسفة وعلم الاجتماع والانطلاق منه إلى صياغة نظرية جديدة وعلم اجتماع نقدي له مفاهيمه الخاصة وميدانه المحدد، كبديل للفلسفة التقليدية وعلم الاجتماع الوضعي.
بعد وفاة ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو أصبح هابرماس الوريث الشرعي لمدرسة فرانكفورت، خصوصا بعد أن جدّد وطور الأطر الأساسية لهذه المدرسة في بعديها الفلسفي والسوسيولوجي. كما يعتبر هابرماس اليوم أحد أهم الفلاسفة النقديين المعاصرين الكبار إن لم يكن الفيلسوف الوحيد الذي بقى حيا بعد وفاة ميشال فوكو عام 1984، وذلك بسبب البناء الفكري الرصين والتيار النقدي المنفرد الذي قاده إلى مرحلة متقدمة من الشمول والانفتاح على العلوم الأخرى.
يرى هابرماس أن عقل التنوير لم يمت على العكس مما توهم البعض. وإذا جاز لنا أن ننتقد بحق الانحرافات التي تعرض لها عقل التنوير في عصر الاستعمار والحربين العالميتين التي جرت على يد الفاشية الأوروبية، ولكن لا يحق لنا أن نرمي بكل مكتسباته العقلانية والتنويرية التي صنعت الحضارة الغربية الحديثة في مزبلة التاريخ. وبهذا يحاول هابرماس إنقاذ الحداثة من أعدائها ومهاجميها ونقادها
ومع شهرة هابرماس العالمية كفيلسوف، فإنه كان ولا يزال عالم اجتماع تميز بإخضاع الظاهرة الاجتماعية -السياسية للبحث السوسيولوجي، الذي انبثق من رؤية فلسفية تحليلية تشكل القاعدة الأساسية والمتينة التي يقوم عليها دمج التحليل الفلسفي بالسوسيولوجي.
ولد يورغن هابرماس في دسلدورف/ألمانيا في 1929 لأسرة بروتستانتية. درس في جامعة غوتنكن وجامعة زوريخ ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بون عام 1954. وفي عام 1956 التحق بمعهد البحث الاجتماعي في جامعة فرانكفورت، الذي سمي فيما بعد بـ”مدرسة فرانكفورت” للعمل تحت أيدي ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو. ثم انتقل إلى جامعة ماربورغ ليعمل مع فولفغانغ آبندروث، وليحصل عام 1961 على درجة الأستاذية في الفلسفة.
إن سيرة هابرماس الذاتية ومثابرته العلمية وأفكاره الواضحة جعلت منه فيلسوفا نموذجيا جسّد مثال الفيلسوف الألماني الصارم، ورشحه لأن يحتل منصب أستاذ “فوق العادة” في جامعة هايدلبيرغ (1962). وبدعوة من أدورنو تولى كرسي هوركهايمر في الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة فرانكفورت (1964)، ثم رئيسا لمعهد ماكس بلانك للأبحاث العلمية التقنية في شترانبورغ (1971)، إلى أن استدعته جامعة فرانكفورت ثانية ليتقلد كرسي الأستاذية في الفلسفة فيها منذ العام 1983. وفي عام 1994 أصبح أستاذا متمرسا، ولكنه لم يترك طريقه الأكاديمي واستمر في إلقاء المحاضرات، ليس في جامعة فرانكفورت فحسب، بل وفي جامعات أخرى في العالم.
كما اتخذ هابرماس مواقف تاريخية ثابتة في تاريخ ألمانيا النازية، من توحيد ألمانيا ومن توحيد أوروبا وحول الدستور الأوروبي ومن الرأسمالية والعولمة المتوحشة وأخيرا من قضايا الأصولية والعنف والإرهاب، مؤكدا أن المشاكل لا يمكن أن تحل عن طريق العنف، وأن الطريق الوحيد لحل مثل هذه المشاكل يكمن في التواصل والتفاهم والحوار بين الأطراف المختلفة، شرط أن يكون الحوار عقلانياً وديمقراطيا في آن.
في عدد من أطروحاته حاول هابرماس إخضاع النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت للتعديل وإعادة صياغتها من جديد، مثلما حاول تعديل نظرية ماركس عن الرأسمالية ونظريته عن فائض القيمة، وكذلك تقويم نظرية ماكس فيبر عن العقلانية، في محاولة لإقامة نظرية نقدية توجه الاهتمام إلى نوعية العلاقات والاتصالات الرمزية وتوضيح أهمية القوى الخارجية الضاغطة والسلطة التي تمارسها التكنولوجيا على الإنسان، عن طريق الكشف عن وعي جديد يتخذ في نهاية الأمر صورة “تكنولوجيا عقلانية”.
إن مشروع هابرماس النقدي للحداثة وما بعد الحداثة دفعه إلى الاستنتاج بأن “الحداثة مشروع لم ينجز بعد”، أي أنّه لم يتحقق ما وعد به عصر التنوير. حيث ربط “الأزمنة الحديثة بتعب نبض الحداثة” التي أنهكت نفسها. وبالرغم من أن الحداثة مازالت تنتشر، لكنها لم تعد خلاّقة لأن مشروعها بدأ يواجه ردات فعل عميقة ناتجة عن تحديث اجتماعي يتداخل دوما مع تشكيل الحياة النامية والبنية الداخلية التواصلية لعوالم الحياة التي تعبر عنها الاحتجاجات الهادفة إلى تحريك الجماهير من مخاوف واسعة الانتشار مثل تخريب البيئة الطبيعية والمدنية وكذلك تهديم أشكال السلوك الإنساني السلمي.
يرى هابرماس أن عقل التنوير لم يمت على العكس مما توهم البعض. وإذا جاز لنا أن ننتقد بحق الانحرافات التي تعرض لها عقل التنوير في عصر الاستعمار والحربين العالميتين التي جرت على يد الفاشية الأوروبية، ولكن لا يحق لنا أن نرمي بكل مكتسباته العقلانية والتنويرية التي صنعت الحضارة الغربية الحديثة في مزبلة التاريخ. وبهذا يحاول هابرماس إنقاذ الحداثة من أعدائها ومهاجميها ونقادها، ومن الذين يريدون إرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء، لأنهم لم يؤمنوا بروح العصر الحديث وإنجازاته العظيمة ومن أولئك “المحافظين الجدد” الذين يهاجمون الحداثة من قبيل الاختلاف معها وحسب، ويريد أن يبعد الخطر عن منجزات الحضارة الغربية وفي مقدمتها العقلانية التي ولدّت حرية التفكير والتعبير والعمل والمجتمع المدني الذي يصون حقوق الإنسان.
ميّزت نظرية الحداثة عند هابرماس بين العلاقة بالطبيعة والعلاقة بين الناس وجعلت كلا منهما ينتمي إلى عالم مختلف، فالعلاقة بالطبيعة تنتمي إلى العالم الموضوعي والعلاقة بين الناس تنتمي إلى العالم الاجتماعي، أي عالم الناس والعلاقات المجتمعية والقيم والمعايير الإنسانية، وهذا يعني ضرورة ربط قيم الحداثة بما هو اجتماعي وأنثروبولوجي وليس بما هو طبيعي.
في كتابه “الخطاب الفلسفي للحداثة” الذي صدر عام 1985 ناقش فيه إشكالية الحداثة وما بعد الحداثة، بهدف تشييد الواقع الاجتماعي الذي يربطه بنظرية “الفعل التواصلي” وبإمكانية التوصل إلى نظام عالمي من الممكن أن يكون عقلانياً وسلميا، منطلقا من فرضية أساسية تهدف إلى توفير عوامل جديدة من داخل مجتمع الحداثة الذي لم يكتمل، تجعله في وضع يصعب على أفراده التصرف بعدوانية سافرة، عن طريق تأسيس عقلانية جديدة توجه الاهتمام إلى نوعية العلاقات الاجتماعية والاتصالات الرمزية وتراجع نفسها عبر التعلم من الثقافات الأخرى وعبر التفاهم والحوار المفتوح على الآخر لتتجاوز بذلك ما نكص عن تحقيقه عصر التنوير، في عصر بدأت فيه الشكوك تتسرب حول جدوى الحداثة وعقلانيتها.
صاغ هابرماس مفاهيم أساسية برؤية سوسيولوجية ليست ذات بعد واحد للعلاقات التواصلية التي تقوم في الحياة اليومية، والتي لا تفجر علاقات إيجابية فحسب، بل وتربط بين الجماعة والمجتمع، ولا تنظر إلى “الاختلاف” بحساسية شديدة وإنما تنظر إلى الآخر من موقع الاحترام المتبادل، الذي لا يعني بالضرورة التشابه معه، وإنما احتواء “الآخر” في اختلافه، وهو ما يضمن تكافؤ الفرص أمام الآخر المختلف وإمكانية تجاوز أي كراهية وحساسية، وكذلك إلغاء الثغرات التي من الممكن أن تحدث في حدود كل جماعة.
وقد اعتبر كتابه “الفعل التواصلي” كتاب العمر، فهو عمل سوسيولوجي وفلسفي رصين بمثابة إضافة هامة للعلوم الاجتماعية يعرض تشخيصاً “لمجتمع مريض” يحلل أسباب مرضه التي أرجعها إلى القوى المخربة التي تهدد الإنسان والحياة الاجتماعية، منطلقا من أن الإنسان المعاصر، وبالتالي المجتمع، ليس مستقلا اقتصاديا، وهو مهدد من اقتحام الأساليب البيروقراطية التي تهيمن على العلاقات الاجتماعية التي فقدت خصائصها الإنسانية وأصبحت علاقات شكلية أطلق عليها “استعمار عالم الحياة”.
يستخدم هابرماس مفهوم “التخاطب الاعتباري” باعتباره تعبيرا عن موقف اتصالي ناجح ومتحرر من كل سلطة يوصل لفعل نقدي تواصلي وممارسة اجتماعية لا يقررها العمل، وإنما الخطاب واللغة. وبهذا يدعو هابرماس إلى تغيير مفهوم النقد من الأساس. فالنقد عنده يهدف إلى تأسيس أفعال تواصلية ناجحة وليس إلى نقد الأوضاع الاجتماعية، وضرورة أن يستند النقد على منطق توثيقي وعلى “أخلاقية الخطاب”
ويعتبر مفهوم التواصل مفهوما مركزيا في فلسفة هابرماس. فهو يحاول أن يؤسس من خلاله فلسفة عقلانية تواصلية تؤكد “دور التواصل في عقلنة وتحديث المجتمع في إطار فضاء عمومي، يضمن الحوار والمناقشة العقلانية”. وبحسب هابرماس، فإن الفعل التواصلي يتضمن عموما فكرة التعايش التي تقوم على التفاهم والحوار والتسامح واحترام الرأي والرأي الآخر.
في تتبعه لنشأة اللغة وتطورها منذ أن كانت على شكل إشارات حتى وصولها إلى جمل كاملة التركيب استعان بجورج هربرت ميد في نظرية “التفاعل الرمزي” ووجد بأن غياب شروط التفاعل الرمزي يعني غياب القدرة على التواصل وكذلك غياب اللغة نفسها، فاللغة هي التي جعلت الإنسان إنسانا يتواصل مع الآخر، وهي أسس أنثروبولوجية مكنتها من تأسيس علاقة مع كل التيارات الفلسفية المعاصرة وبناء علاقة عقلانية تواصلية تعددية. هذه العلاقة هي علاقة نقدية استطاعت عبرها النظرية النقدية لهابرماس استيعاب التيارات الأخرى وتجاوزها.
وقد استخدم هابرماس مفهوم “التفاعل الرمزي” الذي رأى أن اللغة والوعي مرتبطان ببعضهما البعض في السياق الاجتماعي بشكل وثيق، وهو ما يعطيه هابرماس أهمية كبيرة، ذلك أنه يرى، بأن الوجه الثاني للفعل التواصلي العقلاني هو الحكم المعياري على الأفعال التي تعرف إلى حد بعيد، النموذج الشامل للفعل الإنساني الرشيد، وأن البشر يقومون بخلق واقعهم أكثر من الاعتبارات الأخرى، وبهذا فهم لا يخضعون للطبيعة ولا للحاجات الجسدية الفيزيقية، وإنما يسلكون هنا ضمن حدود حضارية- تاريخية بوعي واستقلالية، وهم يستطيعون أن يقولوا: نعم أو لا، وبهذا يستطيعون تغيير الواقع.
كما استخدم مفهوما جديدا أطلق عليه “الفضاء العمومي”، وهو فضاء الحرية والديمقراطية والتسامح ونبذ العنف والأيديولوجيات المتحجرة وكل ما له صلة بالحقائق المطلقة وأن يكون بعيدا عن هيمنة العقل الأداتي وسلطته حتى يتم التفاعل التواصلي بين أفراد المجتمع داخل الفضاء العمومي بحيث يكون الخطاب الاعتباري تعبيرا عن موقف اتصالي ناجح ومتحرر من أي سلطة ويوصل لفعل تواصلي عقلاني ونقدي وممارسة اجتماعية لا يقررها العمل، وإنما الخطاب.
والفضاء العمومي هو مفتاح الديمقراطية الذي يكون دائرة التوسط بين المجتمع المدني والدولة، إذ يربط بين دوائر المصالح المتعددة والمتناقضة وبين دوائر الدولة، ويجمع الأفراد في رأي عام يسمح بتبادل عقلاني للآراء ووجهات النظر ويوحدهم في رأي عام مفتوح يكون وسيلة للضغط على دولة الرفاه التي أفسدته بفضل العلم والتقنية ووسائل الدعاية واللهو والتسلية، في محاولة لإعادة بناء ديمقراطية الجماهير التي تختلف عن الديمقراطية الكلاسيكية. كما أن هذا الفضاء المفتوح هو فضاء رمزي ويتكون عبر الزمن عن طريق منظومات القيم والاتصال والاعتراض والتفاهم بحيث يعكس حقيقة الديمقراطية التي تعبر عن الآراء والمصالح والأيديولوجيات المختلفة. ويفترض أن يتمتع الأفراد باستقلالية تعكس جميع آراء النخب والأحزاب والتنظيمات الحكومية، كما يفترض استقلال الأفراد تجاه العائلة والحزب والجمعيات السياسية حتى يتمكنوا من تشكيل “سلطة الكلمة” بدل العنف والاقتتال والصراع الطبقي.
ويستخدم هابرماس مفهوم “التخاطب الاعتباري” باعتباره تعبيرا عن موقف اتصالي ناجح ومتحرر من كل سلطة يوصل لفعل نقدي تواصلي وممارسة اجتماعية لا يقررها العمل، وإنما الخطاب واللغة. وبهذا يدعو هابرماس إلى تغيير مفهوم النقد من الأساس. فالنقد عنده يهدف إلى تأسيس أفعال تواصلية ناجحة وليس إلى نقد الأوضاع الاجتماعية، وضرورة أن يستند النقد على منطق توثيقي وعلى “أخلاقية الخطاب” الذي يتفتح على عناصر هامة لنظرية “أخلاقية نقدية” تقارب النظرية النقدية ولكنها لا تلغيها. ويرى هابرماس، أن في مقدمة الأخطار التي تواجه المجتمع اليوم بغض النظر عن الأمن السياسي هو تحطيم بنيات التواصل في خصوصيتها الإنسانية التي ترتبط بالتوسع المستمر للبيروقراطية في ميادين الحياة الاجتماعية، إضافة إلى تدخلات القوانين والمصالح حتى في الحياة العائلية الخاصة.