مقدمة لدراسة ابن خلدون
يعدّ ابن خلدون في نوابغ الرجال الذين كانوا نماذج تمثل الأزمنة التي عاشوا فيها وذلك لاعتبارات ثلاثة: القوم الذين ينتسب إليهم، البلاد التي أنبتته، الحضارة التي اتصل بها. ولد هذا العلامة في البسيكولوجيا الاجتماعية بربريا، في بلاد قبائل، ونشأ في حضارة حافظت في صميمها زمنا طويلا على خصائص قومه الواضحة وآثاره البليغة، فبحث جميع الشؤون العائدة إلى حياة الشعوب: كتب في موضوعات الملاكة والأجرة والعمل والملكات والشرائع والقضاء والحياة الحضرية إلى غير ذلك بحرية فكر ورجاحة عقل وسماحة ضمير لا يستطيع معها أكثر علماء الاقتصاد المعاصرين أن يصموه بالنفرة من مبادئهم المقررة أو أن يزروا بآرائه. وليس لأحد أن ينكر أنه استكشف مناطق مجبولة في عالم علم الاجتماع.
يمكن أن يقابل ابن خلدون بمكيافلي من وجوه عدة، فكلاهما اشتغلا في السياسة وخدما ملوكا كثيرين في منصب الكتابة (السكرتيرية) فعرفا الدنيا والناس بالمظهر الذي لا ينفذ إليه ذكاء عامة البشر. وإذا كان الفلورنسي الكبير قد أرشدنا إلى المناهج المثلى في حكم الأفراد فلقد فعل بصفته سياسيا صاحب دولة ومخاتلا خداعا في آن واحد بينما العلامة التونسي استشرى بفكره في سويداء الحادثات الاجتماعية بصفته اقتصاديا وفيلسوفا ثاقب النظر بعيد المرمى. فكان من هذا عونا له على وضع مؤلفه الجليل بسموّ خاطر وروح تمحيص ودقة فكر لم يعرفها زمنه.
أتانا مكيافلي في رسالة أرسلها إلى صديقه (فتوري) بموضوع الطرفة التي أخرجها للناس، أعني كتاب الأمير، قال: بحث كتابي في ماهية الإمارة وأنواعها في الماضي وفي كيفية التوصل إلى استلام زمامها وفي وسائل صيانتها وحفظها وفي الأسباب المؤدية إلى ضياعها. فعلمنا حينئذ من هذا الغرض المعين الثابت الذي رمى إليه المؤلف الإيطالي في ذلك الكتاب وفي غيره من الكتب أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بعادات عصره وأحواله الفكرية.
لكن الضالة التي نشدها ابن خلدون فغير ذلك وبيئته غير بيئة الإيطالي. ولهذا كانت بحوثه في المظاهر المركبة التي تظهر بها حياة الأقوام والأجيال ناحية نحو التعميم بلا خلاف. ومن الثابت أن ابن خلدون، مؤرخا، أدنى مرتبة من الفلورنسي، فهو لم يهتد إلى وجوه الانتفاع بالمبادئ التي قررها في المقدمة وجعلها وسيلة لاستنباط العلل في الحوادث التاريخية التي سردها أو هو لم يستطع الانتفاع بها. بيد أنه على كل، سبق مكيافلي ومونتسكيو وفيكو إلى وضع علم جديد هو النقد التاريخي. أما القول إن المؤلف المسلم وجد السبيل موطأة الأكناف خالية من العقبات التي تحول بين الكتاب والمؤرخين في سيرهم إلى الحقيقة، وبين بلوغ شطر عظيم من عوالم الفكر المترامية، فقول صواب بلا مراء، فإنه بينما كان مكيافلي حيال مدرسيات (Schslastique) القرون الوسطى التي ما برحت وهي المسيطرة على فلسفة العصر تنمي بمغالطاتها قوة الأكليروس، لم يكن ابن خلدون ليجد أمامه ما يعوقه أو يقعد به. فليس ثمة صروح قديمة يتحتم عليه هدمها قبل البدء في إقامة صرحه الممرد، ذلك أن العمران العربي خلال القرون التي توالت يتراءى لنا عمرانا جامدا في تماسك النصوص السياسية والأوضاع الاجتماعية وأخذ بعضها برقاب بعض، وذلك أن ابن خلدون لم يضطر بصفته باحثا وفيلسوفا إلى بذل الجهود في هدم الملكات (السلطات) التي كانت في ذلك الزمن قائمة في الغرب، وأن الأرض التي خطا عليها لم تكن أرضا عذراء، على حين كانت التقاليد السياسية في الأقطار اللاتينية مبجلة لا تمس اتقاء لشر المحافظة أو الجمود الاجتماعي، وهذا السلطان الإكليركي الهائل بطبقاته المنتظمة من أعلاها إلى أدناها في سلك واحد يسم بميسم لا يُمحى أثره. وإذا قدرنا من بعد أن نخلع نير المؤثرات اللاهوتية فليس لنا أن ننكر أن صبغة لا تبوخ من صنع ما وراء الطبيعة ومذهب النص المسيطر على العقول، ما زالت ثابتة على صفحة أوضاعنا السياسية المركبة ذات الفروع المتداخلة وفي مجموعة شرائعنا المعقدة المتعاظلة.
ابن خلدون ومذهب الجبر الاجتماعي
في المؤلف الخلدوني الجليل مبدأ يتصل بمذهب نترجمه في العربية بمذهب الجبر الاجتماعي. قال ابن خلدون: إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش. ونراه إذ يتكلم عن البداوة يسهب في ذكر آثار هذا النوع من المعيشة: البدو أصل للمدن والحضر وسابق عليه لأن مطلب الإنسان الضروري لا ينتهي إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلا. ثم يذكر المفاسد التي تنشأ عن العمران (الحياة الحضرية) من ضعف قوة المقاومة والاستخذاء على الضيم والانغماس في الترف وهلمّ جرّا. فعلى الناس أن يفكروا في بقائهم ودفع الغارات عنهم، وعلى الأمم أن لا تكل أمر الذود عن حياضها إلى الحكام، وليس عون الجيوش بنافع لأهل المدن الذين يعيشون بحال من عدم الاكتراث تحمل على القول إنهم أنزلوا منزلة النساء والولدان.
فهذا المغربي مولدا المسلم تربية وثقافة يؤثر حياة البوادي البعيدة عن الحكومات ونشاط القبائل التي لا تفتأ ساهرة عاملة، على عكسها. وهو يزدري بأهل الحواضر الذين لا يفتأون يلجأون إلى السلطان لأنهم لا يملكون شيئا من أمر أنفسهم. وإليك الآن تأويل حطة المقام الذي يجعلهم فيه: سبب ذلك أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه فالذي ألفه في الأحوال حتى صار ملكة وخلقا تنزل منزلة الطبيعة والجبلة.
أليس ابن خلدون باستنباطه على تقدم الزمن أن لمرافق الحياة ولشروط المعاش ومقوماته، فعلا كبيرا في نشأة الطباع واكتساب الملكات الجديدة دالا على بعد نظره ونفاذ بصيرته؟ وما هذه الحقيقة التي نراها اليوم مبتذلة إلا مبدأ أساسي في علم الاجتماع يعود الفخر في تقريره إلى المؤلف المسلم قبل الفلاسفة الوضعيين وعلماء النفس العصريين بقرون متطاولة.
وظيفة الدولة ومفاسدها
لا تقع السلطات المحدثة أو الملكات على أثر للرحمة في فؤاد مؤرخنا. وليس ابن خلدون ممن يصح رميهم بالشين الذي بعث في صدر غوستاف لوبون بغضا شديدا للدولية وللقائلين بها. قال لوبون: إن الدولية التي أخذت منها الاشتراكية الجماعية عقيدة قومية شائعة في الأمم اللاتينية بل هي أكثر المذاهب شيوعا.
ويقول المؤرخ المسلم إن الخضوع للملكات يفل غرب الحضريين ويجردهم من كل ميل إلى الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم: المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدتها فان انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها. فما رئموا لمذلة حتى عجزوا عن المدافعة ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة.
أليس ابن خلدون باستنباطه على تقدم الزمن أن لمرافق الحياة ولشروط المعاش ومقوماته، فعلا كبيرا في نشأة الطباع واكتساب الملكات الجديدة دالا على بعد نظره ونفاذ بصيرته؟ وما هذه الحقيقة التي نراها اليوم مبتذلة إلا مبدأ أساسي في علم الاجتماع يعود الفخر في تقريره إلى المؤلف المسلم قبل الفلاسفة الوضعيين وعلماء النفس العصريين بقرون متطاولة
وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة ونجد أيضا الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم والصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك بأسهم كثيرا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه.
وابن خلدون يجعل حدا فاصلا بين الصحابة الذين لم يكن أخذهم بأحكام الدين: بتعليم صناعي وتأديب تعليمي وبين الذين ألفوا الانقياد للحاكم. فإذا بطل الدين أن يكون عاطفة أو شعورا، أي قوة كامنة فينا، وأصبح تعليما وجدلا، كان علة فساد للأفراد وسبب اضطهاد من جانب الحكومة: ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة ثم صار الشرع علما وصناعة يؤخذان بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي.
السلطات السياسية وطبقات الاجتماع
يقول الاشتراكيون إن تقسيم البشر إلى طبقات اقتصادية عنصر جوهري ويستخرجون من هذا المبدأ عدة آراء تتلخص على هذه الكيفية: ليس درس التاريخ إلا درس المشاكل القائمة بين الطبقات. فالطبقة الأكثر ثراء تعمل بطبيعة الحال على الانتفاع بنفوذها والقضاء بما لها من سلطان على الطبقات الأدنى منها غنى. والسلطان السياسي الذي يعهد به إلى أحد الأفراد هو منحة الطبقة التي ينتمي إليها. وكذلك الطبقات التي تستلم زمام الحكم والطبقات التي لها بين رجال السلطان فئة مخلصة أمينة على مصالحها فإنه لا همّ لها إلا حفظ غناها ودفع العاديات عن مرافقها.
ولا يغرب عن بالنا أن الآراء الخلدونية التي ضمناها هذه الرسالة والتي يصح اعتبارها أصلا نشأت عنه نظرياتنا العصرية تطلق خاصة على الحياة الحضرية (العمران). فلقد رأينا أن ابن خلدون يخص بضع نبذ من مؤلفه الجليل ببيان الفروق بين ذلك العمران الحضري وبين ما يسميه العمران البدوي: ثم إن كل طبقة من طباق أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطباق وكل واحد من الطبقة السفلى يستمدّ بذي الجاه من أهل الطبقة التي فوقه ويزداد كاسبه تصرفا في ما تحت يده على قدر ما يستفيد منه، والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش، ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه، فإن كان الجاه متسعا كان الكسب الناشئ عنه كذلك وإن كان ضيقا قليلا فمثله.
وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله ونسبة سعيه ذاهبا وآيبا في تنميته كأكثر التجار وأهل الفلاحة في الغالب، وأهل الصنائع كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة.
نظرية ابن خلدون في الملاكة وتقسيم الأموال
من درس مؤلف ابن خلدون أخذ منه العجب لأنه يجد لدى هذا المفكر المسلم ذي المنبت التونسي عدة مواضع يلتقي فيها بالمناحي الاجتماعية التي تثير الأفكار هذه الأيام. ويشتد عجبه ويحس في نفسه تطلعا إلى درسه وفهمه وانجذابا خاصا نحوه، إذا كان المشتغل بهذه الأبحاث قد عاش في بلاد ذلك الحكيم، وسط العالم الإسلامي.
يسهب ابن خلدون في مقدمته التي تذكرنا بمؤلف الأنسيكلوبيديين من عدة وجوه، في بيان مختلف مباحث علم السياسة، واقفا منها في موقف يجهله عصره. وهذا ما حدا بالعلامة ميخائيل أماري مؤرخ الإسلاميات بصقلية إلى القول إن ابن خلدون سبق أفذاذ الدنيا إلى درس فلسفة التاريخ والكلام عليها ولي أن أقول إنه لم يشق أحد منهم له غبارا. والحقيقة أن المؤرخ المغربي الكبير سبق كونسيدران وماركس وباكونن بخمسة قرون إلى استنباط عدة مبادئ للعدل الاجتماعي وللاقتصاد السياسي.
يخيّل لي أن في ذكر نظرية الملاكة في هذا العصر كما أورثناها الرومان ما يفيد لفهم الموضوع الذي نحن بصدده. تحتوي الشرائع الأوروبية على طائفة من القوانين يراد بها صيانة الملاكة ورعايتها خاصة. وهي قوانين يرضى عنها جميع علماء الشرع ويعتبرون الحق الذي تحفظه لصاحبه حقا جوهريا مقدسا. ومهما يكن أصل الأموال والمقتنيات التي يتصرف الإنسان فيها بحق ملكه (أو بملاكته) ومهما يكن شأنها ووجوه الانتفاع بها أو الكمية التي يكون التصرف فيها فإنها أموال ولا فرق بينها قط.
والمشرعون الذين ضربوا صفحا عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية وعملوا بنظام الملاكة البقيريتية إنما وضعوا حدا وازعا لتصرف المالك المطلق بماله أو بالشيء المتملك. قسم الرومان الملاكة فجعلوا فيها ثلاثة عناصر: (Usus) أو حق استعمال الشيء، (Fructus) أو حق التمتع بالشيء وتناول ثمره، (Abusus) أو حق التصرف بالشيء بجعله في تصرف إنسان آخر واستهلاكه إذا كان من المستهلكات وتنزيل قيمته أو تخريبه إذا كان قابلا لذلك. الملاكة نتيجة عمل الإنسان وسعيه وقد ينالها بوسيلة أخرى. ولكن سواء كانت الأشياء تساعد في استيفاء حاجات يومه أم في تلبية دواعي ترفه وبذخه، وسواء كانت كافية لأن يتبلغ بها ويكسب قوته فقط أم كان له منها فضل وبسطة، فإن كل هذه العناصر داخلة في بنية كلمة واحدة هي: الملاكة.
يسهب ابن خلدون في مقدمته التي تذكرنا بمؤلف الأنسيكلوبيديين من عدة وجوه، في بيان مختلف مباحث علم السياسة، واقفا منها في موقف يجهله عصره. وهذا ما حدا بالعلامة ميخائيل أماري مؤرخ الإسلاميات بصقلية إلى القول إن ابن خلدون سبق أفذاذ الدنيا إلى درس فلسفة التاريخ والكلام عليها ولي أن أقول إنه لم يشق أحد منهم له غبارا
بيد أن ابن خلدون يرى غير هذا الرأي إذ يعزو إلى كل من الأنواع الآنفة شأنا خاصا ويذكر بجلاء ما بين تلك النظريات من فروق. لقد حفظت الملاكة الخاصة التي أنشئت في الحاضرة القديمة (رومة) لصالح الآلهة العائلية، ميزتها الدينية القدسية حتى هذه الأيام. أما المؤلف المسلم فقد نظر فيها من وجهة الحقيقة المادية غير المجردة، ولا مراء في أن هذه الوجهة أقرب للعدل الاجتماعي وأفيد في توزيع الثروة توزيعا حقا معقولا.
ولم يضطر ابن خلدون إذ سلك هذه السبيل إلى إحداث ثورة أو انقلاب، وتقدم القول إنه لم يكره على محاولة حطم النصوص وقيودها، أو دك صروح الإلهيات بل إنه استطاع، دون خروج على مذهب السنة والجماعة، أن يدرس موضوع الأموال والمقتنيات، بادئا بأصلها ووجوه الانتفاع بها والشأن الذي لها، لأن ما يحسن التذكير به هو أن العمران الإسلامي نشأ ونما في تربة غير التربة الرومانية، وتأثر بمؤثرات غير التي أثرت في الشرع الروماني، فلم يبدأ حيث انتهى تقليد الرومان وإن كان فيه ما يدل على تأثره بذلك الشرع من بعض الوجوه.
فطن الكاتب بالبداهة إلى خطورة الموضوع الذي يبحثه. فهو لم يتكلم عليه صدفة واتفاقا بل خصه بفصل ضافي الذيل تقدم منه إلى تقرير النظريات الخاصة بالخدمة (العمل المأجور) والعمل الحر وناموس العرض والطلب وهلمّ جرّا.
في الجزء الثاني من الفصل الخامس من المقدمة وعنوانه وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه، ذكر ابن خلدون مختلف أنواع الأموال ويمكن حصرها في أربعة أنواع أساسية:
أ - الأموال باعتبار استعمالها النافع
ثم إن ذلك المقتنى أو الحاصل إن عادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه وحاجاته، سمي ذلك رزقا. قال صلى الله عليه وسلم: إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت. وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمى بالنسبة إلى الملك رزقا.
ينظر ابن خلدون هنا في الأموال التي هي قوام المعاش (بصرف النظر عن مَنشئِها) أعني المقتنيات التي تستوفى بها الحوائج. وهذا ينبهنا إلى قولهم إن الشيء لا يكون مقتنى ومتملكا بالحقيقة إلا بشريطة أن ينتفع به ويستخدم. وإنّا حيال هذا الرأي لا نجد سبيلا إلى عزو قيمة ما لنظرية الملاكة الشرعية بل نقصر النظر على وجه استعمال الشيء واستثماره. ألست ترى في هذا الرأي طرفا من المبدأ الحديث القائل: لكل بقدر حاجته؟ فابن خلدون إذ قال إن الأشياء التي تقتنى وتستملك هي بالحقيقة ما يستخدم لجلب منفعة قد ضرب صفحا عن الصلة الشرعية ووضع نصب عينيه الحقيقة الاقتصادية ليس إلا.
ب - الأموال باعتبار كميتها
تكون تلك المكاسب له (للإنسان) معاشا إن كانت بمقدار الحاجة والضرورة، ورياشا ومتمولا إن زادت على ذلك. وفي هامش ترجمة العلامة دوسلان لمقدمة ابن خلدون نبذة شرح بها كلمة رياش العربية: كلمة (المتموَّل) العربية يقصد بها ما يغني أو ما تحصل به ثروة.
أما الشرائع الأوروبية فتقسم الأموال والمقتنيات باعتبار طبيعتها إلى منقولة وغير منقولة، وإلى مادية ومعنوية وهلمّ جرّا. ولكن هذه أمور نظرية تخرج عن دائرة حاجات الإنسان إذ لا اعتبار لهذه الحاجات في وضع تلك النظريات.
ج - الأموال باعتبار أصلها ومَنشئِها
نظر ابن خلدون إلى الأموال والمقتنيات من وجهة ثالثة: إذا كانت المكاسب نتيجة سعي العبد وقدرته سميت رزقا.
ومدلول كلمة رزق غريب يسترعي الذهن، إذ لا نجد لها مقابلا في اللغات الغربية ولم يوفق إلى ذلك، على حدّ علمنا، أحد.
ويرى ابن خلدون أن لوسائل الحصول على المعاش ولطرق الكسب شأنا كبيرا. ويقف عند رأي المعتزلة الذين يجوزون إطلاق كلمة الرزق على التراث مشترطين أن يكون مما نصح تملكه وما لا يتملك عندهم لا يسمى رزقا، وأخرجوا الغصوبات والحرام كله عن أن يسمى شيء منها رزقا.
د - الأموال إما أن تعتبر نافعة وإما أن تعتبر قيمة ليس إلا
لا يسمى التراث بالنسبة إلى الهالك رزقا بل كسبا إذ لم يحصل به منتفع، وبالنسبة للوارثين متى انتفعوا به يسمى رزقا: هذا حقيقة مسمى الرزق عند أهل السنة. وبتعبير آخر إن المقتني (أو المتملك) يتبدل اسمه إذا كان مما ينتفع به أو كان غير نافع. وهنا يجب التذكير بأن هذا التقسيم خاص باللغة العربية وبالشرع الإسلامي. وفي مؤلف دو كوروي إن الأئمة يخصون موضوع الكسب بفصول ضافية الذيول.
إن نمو الصناعات الكبرى وانحصار الثروة في أيدي العدد اليسير واقتصار طبقة الفقراء على الصناعات والحرف، حادثات محدثة ولدت مذاهب اشتراكية جديدة. لهذا ليس لنا أن نسأل مؤلفا عاش في القرون الوسطى أن ينظر في المسائل الاجتماعية بعين علماء الاقتصاد في القرنين التاسع عشر والعشرين. وإذا كانت ثمة مواضع تدان أو تماس بين مؤلفنا المخصوص بهذه الرسالة وبين مؤلفي العصر فعبثا نبحث عن توافق أو تطابق في النظريات لأن المشكلة الاجتماعية في العمران الإسلامي حبست زمن ابن خلدون بنصوص مسلم بها لسنا نجد لها اليوم أثرا. بيد أن ابن خلدون، رغم صعوبة المشاكل الاقتصادية المركبة التي لم تكن في ذلك الزمن موضوع كتاب خاص أو مادته، نال قصب السبق في هذا الميدان وفي ميادين أخرى أيضا، إذ فطن إلى شأن العمل فأوضحه، وهو من أكبر العوامل في الاقتصاد الاجتماعي.
قال ابن خلدون: إن الخدمة ليست من المعاش الطبيعي وهذا عنوان فصل خاص من المقدمة ذكر فيه أن ترك المرء العمل دليل الحطة وأمارة ضعة النفس. فإذا اتخذ الإنسان من يتولاه (العمل) له دلّ على أنه عاجز عنه وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان وهذا ما ينبغي في مذهب الرجولية التنزه عنه.
افتتح ابن خلدون الفصل الذي سماه وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه، بهذا التعريف المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله، وهو مفعل من العيش. ثم أتى على ذكر الوجوه الخمسة في تحصيل الرزق وكسبه: فإما أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه، على قانون متعارف ويسمى مغرما وجباية وإما أن يكون من الحيوان الوحشي باقتناصه وأخذه برميه من البر والبحر ويسمى اصطيادا وإما بالفلاحة وهي بسيطة طبيعية فطرية لا تحتاج إلى علم وإما بالأعمال الإنسانية (اليدوية) وابن خلدون يقسمها إلى قسمين: فإما في مواد معينة وتسمى صنايع من كتابة ونجارة وخياطة وحياكة وفروسية ويطلق على متعاطيها في هذا العصر اسم العامل المتميز وإما في مواد غير معينة وهي جميع الامتهانات والتصرفات وإما بالتجارة وهي وإن كانت طبيعية في الكسب فالأكثر من طرقها ومذاهبها تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة. ويقول ابن خلدون أخيرا: فأما الإمارة فليست بمذهب طبيعي للمعاش.
الخدمة
قال ابن خلدون: إن الخدمة ليست من المعاش الطبيعي وهذا عنوان فصل خاص من المقدمة ذكر فيه أن ترك المرء العمل دليل الحطة وأمارة ضعة النفس. فإذا اتخذ الإنسان من يتولاه (العمل) له دلّ على أنه عاجز عنه وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان وهذا ما ينبغي في مذهب الرجولية التنزه عنه. إلا أن العوائد تقلب طبائع الإنسان إلى مألوفها فهو ابن عوائده لا ابن نسبه.
وبعد أن بين حال المخدوم ومقامه أتى على ذكر أصناف الذين يتلون خدمته قال: الخديم إما مضطلع بأمره وموثوق في ما يحصل بيده وإما بالعكس غير مضطلع بأمره ولا موثوق في ما يحصل بيده أو موثوق غير مضطلع وإما مضطلع غير موثوق. ويفضل ابن خلدون خدمة هذا (أي المضطلع وإن كان غير موثوق) لأنه يمكن التحرز من خيانته بتشديد مراقبته.
ويظهر أن علامتنا لا يتكلم في هذا الموضع إلا على الخديم لأن العمال لم يكونوا في زمنه كثيرين كما هم في زمننا. ولقد كان الصانع يومذاك مالكا أداة عمله وجانيا ثمرته وفي أعلى مراتب العمل من حيث توفره. لكن ابن خلدون بقوله: إن الخديم ينتفع بخيانته مخدومه ألست ترى أنه نفذ بثاقب فكره إلى الخلاف القائم هذه الأيام بين العمال وأصحاب الأموال؟ وببيانه أن الخدمة (العمل المأجور) ليست من المعاش الطبيعي (غير ملائمة للطبيعة البشرية) ألست ترى أنه سبق بنحو خمسة قرون هؤلاء الاشتراكيين الذين يجهرون بقولهم: إن العدل يقضي بإلغاء الأجرة لحل المشكلة الاجتماعية؟
لعمل أرباب الصناعة الحر في نظر ابن خلدون شأن عظيم. قال: لا يكون الرجل رجلا إلا إذا كان قادرا على كسب ما ينفقه بوسائله الخاصة ودفع ما يضره. وهو لم يكن ذا بنية كاملة إلا ليعمل وليسعى.
وليس يدهشنا من هذا المفكر المحافظ على مذهب السنة والجماعة جعله بين الدين الإسلامي وبين نجاح العلم الإسلامي وعمرانه علاقة سبب مقدم ونتيجة حاصلة. لكنه لم يتردد قط في إيضاح ما للصنائع أيضا من أثر بليغ في عمران البلاد التي نزلها الإسلام وفي الاعتراف بأن لها حتى في المدن التي تناقص عمرانها رسوخا وتأصلا لا يستهان بهما. قال: لأهل الأندلس حظ متميز من الصنائع بين جميع الأمصار وإن كان عمرانها قد تناقص لأن الصنائع قد استحكمت فيها مع الزمن. وما ذاك إلا من رسوخ الحضارة فيهم برسوخ الدولة وما قبلها من دولة وما بعدها من دول الطوائف فبلغت الحضارة مبلغا لم تبلغه في قطر إلا ما نقل عن العراق والشام ومصر لطول آماد الدول فيها فاستحكمت فيها (الأندلس) هذه الصنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتنميق وبقيت صبغتها ثابتة في ذلك العمران لا تفارقه إلى أن ينتقض بالكلية.
العمل منتج للثروة
يعزو ابن خلدون إلى عمل الإنسان شأنا كبيرا، عن تدبر وروية. ولقد بدأ فصل الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها بقوله: إن الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجانا لأنه كسبه ومنه معاشه إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء مما سواه.
وهو يهدينا إلى سواء السبيل لملاحظات قيمة تتعلق بالعمل وصلاته بالصنائع ونسبته إليها، بالعمل باعتباره غاية لذاته، بالعمل باعتباره مقياسا لتعيين قيمة المتمول أو المقتنى: لا بدّ من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر وإن كان من الحيوان والنبات والمعدن فلا بدّ فيه من العمل الإنساني كما تراه وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع.
اعلم أن ما يفيد الإنسان ويقتنيه من المتمولات، إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى من قيمة عمله وهو القصد بالقنية إذ ليس هنالك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وإن كان من غير الصنائع فلا بد في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل لها حصة من القيمة عظمت أو صغرت.
ألا تذكرنا هذه الجملة الأخيرة بمذهب عصري ينص بأن رأس المال عمل متجمع متراكم ليس إلا؟
كذلك فطن ابن خلدون بالبداهة بل نفذت بصيرته إلى قانون العرض والطلب فأدرك تأثيره في سعر المصنوعات وفي تكثير عدد الصناع أو تقليله إذا كانت الصناعة (أي نتاجها) مطلوبة وتوجه إليها النفاق كانت حينئذ الصناعة بمثابة السلعة التي تنفق سوقها وتجلب للبيع فيجتهد الناس في المدينة لتعلم تلك الصناعة ليكون منها معاشهم. وبالعكس إذا لم يكن نتاجها مطلوبا لم تنفق سوق الصناعة ولا يوجد قصد إلى تعلمها وفقدت للإهمال. ولهذا يقال عن علي (رضه) قيمة كل امرئ ما يحسن بمعنى أن صناعته هي قيمته أي قيمة عمله الذي هو معاشه.
يبدو لنا من أسلوب ابن خلدون في بيان هذه الحادثة الاقتصادية انه يعتد بالإنسان وصناعته أشد من اعتداده بنتاجه وكسبه. فهو أكثر ما يعني بالإنتاج ضاربا عن توزيع النتاج صفحا.
أوضح ابن خلدون غامض أمرين: إذا كان نتاج صنعة ما مطلوبا مرغوبا فيه سمت قيمة هذه الصناعة ونفقت سوقها. إذا ازداد سعر النتاج ازداد عدد أرباب هذه الصناعة وطارقي بابها. ولهذا قلنا بلغة العصر إنه يبحث في الاقتصاد الصرف أي يفسر ويشرح ولا يحكم على ما يقره ويثبته من الوجهة العملية. وهو قد وصف هنا طورين اثنين لحادثة اقتصادية واحدة: العلاقة أو الصلة المتينة بين طلبات المشترين وبين مقدار نتاج إحدى الصناعات علاقة علة ومعلول وصلة مقدمة ونتيجة تهافت الناس على صناعة نتاجها نافق مرغوب فيه ومتهافت عليه، بينما يبحث اقتصاديو العصر الحاضر في طوري هذه الحادثة ولا يبتغون إلا تبرير الإنتاج ودفع الظنة عنه والتدليل على أن قانون العرض والطلب ومبدأ المنافسة سواء في موافقة العدل وعدم الزيغ عن سبله.
ليس يدهشنا من هذا المفكر المحافظ على مذهب السنة والجماعة جعله بين الدين الإسلامي وبين نجاح العلم الإسلامي وعمرانه علاقة سبب مقدم ونتيجة حاصلة. لكنه لم يتردد قط في إيضاح ما للصنائع أيضا من أثر بليغ في عمران البلاد التي نزلها الإسلام وفي الاعتراف بأن لها حتى في المدن التي تناقص عمرانها رسوخا وتأصلا لا يستهان بهما
يوضح المسيو جيد العلامة الاقتصادي هذا الرأي بقوله: إن هذا القانون (قانون العرض والطلب) يعين قيمة المحاصيل وهذه القيمة مقاسة بعدل غير قسري بالمبادلة الواقعة في السوق أي بعقود حرة. ويقول هؤلاء الاقتصاديون أيضا إن المنافسة تضع حدا وازعا عن الغبن وعدم التكافؤ اللذين قد تحدثهما هذه الحالة وأمثالها إذ أنه لو اتفق فسعرت محاصيلي وقدرت خدماتي بمبلغ يجاوز الحد لرأيت إذن جماعة المنافسين الراغبين في جرّ هذا الغنم المفاجئ إليهم يتهافتون بأنفسهم على سلعتي قصد الاتجار بها أو على حرفتي لاحترافها. ثم يعملون كلما كثر عرض هذه السلعة على إعادة ثمنها إلى مستوى كلفة الإنتاج. وكذلك الخدمة بأنواعها. ويرى المسيو جيد أن القانون الذي يعين قيمة محصول أو خدمة ما قانون طبيعي. فهو إذن غريب عن كل همّ أخلاقي بعيد عن نظريات العدل، شأن النواميس الطبيعية كناموس الثقل الذي يجذبنا إلى مركز الأرض أو كالناموس الذي يجعل الشمس تشرق على الأبرار والفجار سواء.
فالفرق الواضح الجوهري بين ابن خلدون وبين الاقتصاديين المدرسيين هو أن هؤلاء وضعوا نظاما لا يحيدون عنه قيد شعرة في الدفاع عن كيانهم ودحر طوائف الخوارج على الكنيسة وعلى نصوصها، أي كنيسة علم الاقتصاد ونصوصه، وهي ونصوص الدين قائمة على أركان واحدة. ولما كانت نفوس هؤلاء العلماء مشغوفة بالروح المسيحية التي دبت في حضارتنا الغربية وثبت منها في العظم واللحم فقد توسلوا بالنظريات الدينية في الخير والشر ليتم لهم حفظ هذا الكيان الاجتماعي القائم على المادة والذي يطمعون بجعله جنة الآداب الرفيعة.
إذا كانت آراء ابن خلدون في كيان الجماعات الإنسانية -في كيانها المركب- تجعله في أسمى مراتب الفلاسفة المؤرخين فإن ما يعزوه من شأن كبير إلى العمل والملاكة والأجرة يجعله سلفا وإماما لاقتصاديي هذا العصر. وإذا رأينا هؤلاء مسوقين سوقا لا يغلب إلى تمحيص نظم المجتمع الحاضر ولزوم جانب العداء لأوضاعه وقوانينه، فابن خلدون لم يضطر قط إلى وضع نظام اجتماعي يناقض عمران العصر الذي نظر في أحواله باحثا مدققا.
كذلك لم يخطر ببالنا أننا كشفنا عن تفكير ابن خلدون في جميع مظاهره وبما ليس بعده غاية ولكن لا بد من القول إن أكبر ميزة لمؤلفه القيّم هي تعذر ربطه بطريقة أو مذهب وحصره في أحد جوامع الكلم وأنه لا يصح وضعه في دائرة محدودة ضيقة كالتي تستلزمها نظرية اجتماعية أو يقتضيها حزب سياسي.
ترجمة: عمر فاخور