الكتابة هي المستقبل
في إعادة تعريف المعرف، الكتابة متنفس للمثقف لا شك في ذلك، هي شكل رمزي مقصود ذو دلالة للإجابة عن سؤال. هي رؤية لما يمكن فعله أو قوله في مقاربة أي مسألة، من دونها يبقى الفكر أبكم. هي ما يؤسس علاقة الفكر المتحدث مع الآخر القارئ أو هي بشكل عام إنتاج للثقافي.
وللكتابة قيودها المتجددة والمختلفة من رقابة على المضمون من طرف هيئات رسمية أو مستقلة، وشروط فكرية للإنتاج المعرفي تتعلق بالأمانة العلمية، وأخرى قانونية ترتبط بالملكية الشخصية لما ينتجه الباحث. كيف نكتب، وماذا نقول، وإلى من نتوجه بالكتابة؟ وما هي فئة القراء التي ستطّلع على المكتوب، ومن سينشر الكتاب، وما هي الأوساط الاجتماعية والثقافية والدينية التي سنواجهها بنوعية المنتوج الذي نقدمه؟ كلها أسئلة تختزنها عقولنا وترددها مرارا قبل خط أي حرف.
إن الكتابة اختيار مسؤول يسمح بتسجيل حضورنا الواعي في مرحلة ما من التاريخ، وهي من منظور التحليل النفسي تعبير عن مجموعة واسعة من المكبوتات والرغبات التي يختزنها اللاشعور الجمعي أو الفردي. أن نكتب، يعني أننا دخلنا في معركة مفتوحة مع الآخر قد نكسب الرهان أو نتعثر بدخول معارضين للميدان. أن نكتب يعني أننا فتحنا باب المواجهة المستمرة في سبيل إثبات الذات وتقديم البديل المؤقت عن الخلل الذي نراه موجودا في مسألة ما. أن نسطر جملا وكلمات نختارها للإدلاء بموقف، تعني بكل بساطة أننا نعي ما نصبو إليه وحجم الحلول التي نقترحها. الحالة واحدة في كل أصناف الكتابة والإنتاج الفكري، في الشعر أو الرواية في النص المسرحي أو في سيناريو لفيلم أو في أي عمل نقدي يعالج مسألة فكرية… هي باختصار إنتاج لخطاب اجتماعي يميزنا عن الغير.
كان جيل دولوز Gilles DELEUZE دوما يردد قائلا: إن ما يهم في الكتابة ليس تكرار ما قاله غيرنا أو توسيعه ومن ثم شرحه، بل إن ما يهم هو الانطلاق من مضمون الإشكالات التي توقف عندها الآخرون ومحاولة مقاربتها بشكل يميزنا ويضمن لنا خروجا ناجحا. المهمة إذن ليست بالسّهلة ولا يمكن أن يكون في مقدور كل من يكتب أن يحقق هذا النوع من الإنجاز المطلوب فكريا. يبقى الوعي بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا عند إنتاج الخطاب مشكلا يضاف إلى ما سبق وطرحه جيل دولوز. نحن إذن لسنا أحرارا عندما ننوي الكتابة وليس كل ما يؤلف يستحق اسم ”كتابا” أو ”شعرا” أو ”عملا إبداعيا”. إن الكثير مما ينتج اليوم –وهو ظاهرة مشتركة بين كل المجتمعات- ويسّوق، هو تكرار لما سبق قوله وأحيانا تشويه له واختزال… أو هو إنتاج يلبي أكثر حاجيات السوق والمبادلة التجارية في وقت يطلب منه أن يكون إجابة عن الأسئلة والإشكالات الأساسية للإنسان.
الكتابة والسلطة
ما علاقة الكتابة كتعبير رمزي تتشكل من مجموعة من الكلمات والأحرف نختارها بوعي وبصيغة معينة من أجل التأسيس للمعنى، بالسلطة السياسية والبناء الهرمي لمؤسسات الدولة؟ بالنسبة لرولان بارت Roland BARTHES السلطة موجودة في النص شئنا أم أبينا، لا يمكن أبدا أن نتصور إنتاجا لخطاب مكتوب إلا وللسلطة حضور قوي فيه. فالمؤسسة الرسمية تختار ما يتناسب ومشاريعها الأيديولوجية من أنواع الخطاب لتحتضنه، وتقصي بطرق عديدة ما يتعارض مع الرؤية التي تختارها، وذلك في إطار مسارها التاريخي. إنها في نظر رولان بارت تعبر عن نفسها من خلال الجمل والعبارات التي نظن أنفسنا أحرارا في صنعها.
السلطة قائمة على الطبقية وعلى الرقابة بواسطة أجهزة البوليس والأمن المختلفة، إنها قائمة على توزيع الأفراد والجماعات وفق الجنس والمرتبة الاجتماعية أو المهنية… كذلك اللغة قائمة على التمييز بين العبارة الصحيحة والعبارة الخاطئة بين ما يجب أن يقال وما لا يجب، بين المقبول والمرفوض. فالأساس الذي تنبني عليه كل لغة هو العبارة والتي تعكس واقع السلطة أكثر من كونها مفردات مستقلة تلقائية (نحن/أنتم. هو/أنا. هي/هو. الممنوع/المسموح. الجميل/القبيح. الصحيح/الخطأ. المفيد/الضار. الصدق/الكذب…) فلا كتابة من دون سلطة. فللسلطة حضور قوي في عمق ذواتنا التي تنتج العبارة.
كذلك نجد -ضمن نفس السياق الفكري- ميشيل فوكو Michel FOUCAULT الذي لا يختلف موقفه كثيرا عن رولان بارت، فالذي يجعل الخطاب ممكنا، والكتابة خطاب يعتمد الحرف أو العدد، هو الطريقة التي تتشكل وفقها العبارة، التي بدورها تؤسس القضايا وتخضع لابيستيمة معينة وكل ما يتنافى ومنطق هذه الابيستيمة يتم استبعاده تلقائيا ويعزل من طرف سلطة ما.
لكن هل يعني هذا أن كل ما ينتج من خطاب هو تعبير عن مواقف سلطوية جاهزة ودفاع حرفي عن أيديولوجيا قائمة؟ الكتابة لا وجود لها خارج مفهوم السلطة هذا مؤكد، ومن العبث الحديث عن حرية في مجال الإنتاج. إن ذواتنا تتحكم فيها سلطات متعددة، فالكتابة واقع انثروبولوجي دون منازع، ولكنها أيضا إسهام في تقرير مستقبل وتقديم مواقف أو هي مخرج عقلي لمعالجة إشكالات، فالكثير من الكتابات كانت توصف بالطفرات في عصرها. إن تصنيف أشكال الكتابة إلى ”ثورية” في مقابل ”سلطوية” هو تصنيف مجحف نسبيا ولاغ للكثير من أنساق التفكير الأخرى، ولا يختلف كثيرا عن التصنيف المعمول به في البيئة العربية بين كتابة متفقة مع رأي الدين وأخرى معادية للإسلام والمسلمين، إنها ثنائية قائمة أساسا على الإقصاء ولو بأسماء متعددة.
هل يجب أن نكتب لنلبي ما ينتظره القارئ أم نكتب لنواجه المعتاد؟ نتوجه إلى القارئ بما يحب أن يقرأ ويستطيع أن يفهم أم نوجه إليه رسالة من نوع مختلف،عندما نطلب منه المساهمة في معالجة إشكالات والتفكير معنا بطريقة مختلفة في موضوعات نختارها؟ هل المطلوب منا نقل الوقائع كما يفهمها غيرنا ويحبونها أم نقدم آراء فردية ومقاربات شخصية مغايرة؟ هل الكتابة فعل تحرري وتجسيد لوجودنا المتعالي أم سقوط في شراك غريزة القطعان ولغة الغوغاء؟ هل نكتب ليقرأ لنا الآخرون في صمت وابتسامة ورضى، أم لينتفضوا ضدنا ويعزلوا آراءنا ضمن قوائم سوداء معدة سلفا لأمثالنا؟ لا هذا ولا ذاك. بل إننا نكتب آراء ونعرض اختيارات غالبا ما تجعلنا نلج باب المحرم والممنوع والمنبوذ، إننا نكتب لنحقق إنسانيتنا التي أبرز ما صار يميزها منذ مرحلة ليست بالطويلة تاريخيا، هو انتشار الكتابة والتعامل بين الأفراد والجماعات بواسطة الحروف والعبارات من أجل نقل التصورات والآراء وحتى التخاطب. كل جوانب حياتنا الاقتصادية والسوسيولوجية صارت رهينة الحرف والعدد، هذا حدث يميز مجتمعاتنا الحديثة، وأسهم كثيرا في تقارب المتباعد زمنيا ومكانيا، لا نجد له أثرا في الماضي الطويل، إنه قفزة نوعية وليدة هذه المرحلة من التاريخ في سبيل تخطي الصمت.
اللغة والكتابة هما حب ورغبة يبحثان عن مخرج عبر الحروف والأرقام، ولكنهما لا يكشفان كل ما تحتويه الذات من تعقيدات، الكتابة هي من الضعف بحيث تعجز عن رسم كل ما يختلج بداخلنا من رغبات وأحاسيس. هذا ما ذهب إليه جاك لاكان Jacques LACAN في تفسيره البنية المعقدة للاشعور. ورغم ذلك فهي ما ينتج الخطاب وهي الصلة الاجتماعية بامتياز. ليست أكثر من كونها حروفا أو رموزا يتم استعمالها للدلالة، فهي بدون المعاني التي نلبسها إياها لا تعني شيئا. إذن، واهما من يعتقد أن التفكير والخطاب هما مصطلحات مركبة وملصقة يقوم بها ظنا منه أنه يقدم نصا ذا قيمة معرفية أو جمالية.الكتابة هي معاني وتصورات، هي آلام وأنين عميق، هي شعور خفي قبل أن تكون جملا وكلمات، هي صوت العقل الباطن قبل أن تصبح ألفاظا أو أعدادا.
هــّــم الكتابـــــة
ليس كل تنميق في اختيار المصطلحات الحديثة أو الجميلة أو حتى الكتابة عن أسماء مميزة، دليلا على وجود عقل يفكر أو قضية مهمة، بل كثيرة هي الأعمال الجوفاء. أن تكتب يعني أنك تسطر وجودك وتقرر ما ينبغي أن تكون عليه في مقابل ما أنت عليه الآن. هي وسيلة المثقف الفريدة في تحقيق التعالي على المبتذل والمعتاد. الكتابة خروج عن المألوف وإنصات إلى عقل باطن يكلمنا باستمرار ويشكو إلينا سذاجة وتفاهة ما يلحظه من حولنا. من الخطير الاعتقاد أن للكتابة موضوعات محددة يمكن مقاربتها دون موضوعات أخرى. أن نقيد القلم بطابو المحرم والممنوع وغير الضروري، هو حكم بالفناء المبكر على الإبداع… إنها الإنسان بكل أبعاده الجمالية والاجتماعية والفكرية، إنها ‘‘نحن” ”المستقبل” في مقابل ”هم’‘ ”الماضي”.
أن نكتب يعني أننا نفكر في حاضرنا ومستقبلنا بصدق ونرسم خارطة جديدة بعواصم مختلفة ونقيم أشكالا مغايرة للطبيعة ومواقع تمركز متعددة للوجود الإنساني. أن نكتب هو في الأغلب من أجل أن نقول ”لا ” لما قرره غيرنا في غيابنا. علينا أن نزيح من أذهاننا ردود الفعل السلبية التي قد يحدثها ما سنقوله، ونسعى جاهدين إلى تحقيق أكبر قدر من الصدق فيما سنقول. الكتابة هي تسجيل وقوف المتسائل أمام باب التاريخ مثقلا بالكثير من الرؤى التي توارثها عبر أجيال متلاحقة، ليختبرها بنفسه ويعرض رأيه للحوار المفتوح.
تروي لنا كتب السيرة الذاتية لبعض العظماء أن أدراج مكاتبهم كانت مليئة بالأوراق والكتابات التي لم تنشر وذات المضامين غير المرتبة رغم قيمتها المعرفية الكبيرة… نفهم من ذلك أنهم كانوا يترددون كثيرا قبل خط جملة واحدة، فعمق الألم الذي كانت تختزنه صدورهم أكبر وأعمق من الجمل التي قد يختارونها لحمله. كم عدد الروايات أو القصائد أو حتى الأعمال الفكرية التي نشرت بعد وفاة أصحابها؟
إن الكتابة ليست مهمة الجميع، رغم ركوض الكل إلى تسجيل اسمه. كما أن الوعي بالوجود ليس إحساسا مشتركا بين الجميع رغم الحضور الحي لكل الناس والكائنات.