ثقافة الجيب الرقمي
مع التطور الذي حققته الطباعة، صار هدف تعميم الكتاب ودمقرطة تداوله يتم من خلال إصدارات بخسة الثمن، وصغيرة الحجم، عرفت بكتب “الجيب”. تطورت الوسائط الجديدة فبات الهاتف الذكي ليس فقط حاملا للكتب، ولكنه صار أكثر من ذلك مكتبة رقمية تتسع لكل المنتجات الثقافية أيا كانت العلامات التي توظفها. لا غرابة في أن نسميه، لأنه صار جزءا من حياة الإنسان: “الجيب الرقمي” الذي يسمح بالاتصال والتواصل والتفاعل مع العالم، وتصريف مختلف الأمور حتى صار من المستحيل الاستغناء عنه.
كان آباؤنا يتمنطقون بـ”الشكارة” في غياب الجيوب، وكانوا يحملون فيها ما يحتاجون إليه. ومن بين ذلك مخطوط “دلائل الخيرات” الذي لا تخلو منه شكارة المتعلمين منهم يطالعونه متى أتيح لهم ذلك. تختلف جيوب الناس بحسب إمكاناتهم المادية ونوعية علاقاتهم مع الناس والأشياء وميولاتهم الثقافية، وكل “جيب” بما فيه ينضح.
صار الجيب الرقمي خير جليس للإنسان. لكن طرق التعامل به ومعه لدى الأجيال العربية التي فتحت أعينها عليه لا تتصل بالمقاصد الكبرى التي كانت وراء إنتاجه. يزخر الجيب الرقمي بما هو نصي وصوري، وبالجد والهزل، وبعشرات الوظائف، لكننا لا نستغل منها سوى العشرة الأولى. وهي لا تعدو أن تكون ما يتصل بما هو ترفيهي ولعبي. أتابع دون اهتمام ما يجري في الأماكن العمومية فلا أجد إلا تزجية الساعات في مشاهدة الأفلام والأغاني. وأتعجب من بعضهم يتابع المباراة على التلفزة وعلى طاولته في المقهى جواله المفتوح على المباراة نفسها؟
لا مشاحة في التعامل مع الصوري والهزلي، ولا عيب في التواصل مع الآخرين عن طريق الإشراك والمشاركة والإعجاب في ما يتصل بتبادل التهاني والتعازي، وجديد الأخبار والفضائح، أو في استخدامه للطلبيات وقضاء المآرب اليومية، أو البحث عن المعلومات العادية. لكن أن يغدو هذا هو “الحس المشترك” في ملامسة الجيب، فإن ذلك يقلل من الاستفادة مما يزخر به، وما يتيحه من إمكانات.
كنا في الكتاب لا نتعلم فقط القراءة والكتابة. كنا نتعلم كيف نبري قلم القصب، ونصنع مداد الدواة من الصوف والصمغ والماء. كل المتعاملين مع الجيب الرقمي لا يتعلمون سوى وظيفة الدخول والخروج، والمتاح والسهل. يسألني طلبة عن بعض المراجع؟ فأتعجب كيف لا يستطيعون العثور عليها وهي في جيوبهم؟
لا بد من امتلاك ثقافة الجيب الرقمي، قبل تفصيله على قد فلوسنا. ويمكن للمدرسة والجامعة والإعلام أن تقدم تكوينات في الثقافة الرقمية تمكن من الغوص في مختلف الطبقات الغائرة التي يحتويها هذا الجيب، وإلا بقينا نطفو على سطح اللعبي والترفيهي. يمكن للكثيرين أن يلقوا باللائمة على الجيب، ودوره في “التسطيح” الذي بدأ يسود، وفي “تحول” القيم، وفي “غياب” التواصل بين أفراد الأسرة… لكن العيب في التوظيف لأنه يتم في غياب أي تكوين.
الجيب الجديد يستدعي ثقافة جديدة.