شهادات: إعدام‭ ‬التاريخ

الأربعاء 2015/04/01

هذه شهادات بأقلام نخبة من الكتاب والباحثين والفنانين تتحدث عن فاجعة تدمير التراثين الحضاريين لشعبي العراق وسوريا‭.‬ ثمة لوعة كبرى، وأناّت لم تعد خافة ولا مكتومة، تصدر عن هؤلاء العارفين الملتاعين بما فقدوا بفعل الطغيان الذي مارسته القوى الطائفية والعسكرية المتحكمة بالمدن والبلدات التي تنتشر فيها آثار الشعبين‭.‬

لم نكن يوماً لنتخيل أن تدمير التراثين القديم والوسيط لشعبي سوريا والعراق كان يمكن أن يجري على أيدي عراقية وسورية‭.‬ فالتاريخ أنبأنا بأن الوحشية ضد حضارة شعب طالما كان مصدرها غزو أجنبي يريد أن يمحق الآخر‭.‬ ما حدث في سوريا والعراق كان سابقة تقول شيئاً آخر‭:‬ الغزاة الذين حطموا تراثنا كانوا يسكنون بيوتا تجاور بيوتنا، أطفالهم درسوا على المقاعد نفسها التي درس عليها أطفالنا، واليوم نحن في خيام اللجوء وهم ينامون في وحشة أسرتنا

قلم التحرير

معاول‭ ‬الظلام‭ ‬والتخلف

‬مصطفى‭ ‬محمد‭ ‬غريب

الفكر الرجعي الظلامي الذي يجاهد في زيادة العنف والإرهاب والتطاحن الطائفي، القتل والتفجير والاغتيال يعود ليطرق بابا آخر من التراث المعرفي والثقافي التاريخي في البلاد لتدميره وتدمير القيم الأخلاقية والثقافية والعلمية لاستكمال مشروعه المتخلّف الذي يهدف إلى الجهالة المطبقة التي تجعل الإنسان عبارة عن آلة تحركها الانفعالات الروحية والعنفية، وبهذا دشن في بداية مشروعه الغيبي تفجيرات المراقد والآثار الدينية لكل المكونات كبروفة لحرب مدمرة وجهت لتدمير تراث نينوى وآثارها التي عرفها العالم وعرف معالمها التاريخية ودورها الكبير في الحضارة البشرية منذ نشوئها في العراق الذي سُمّي بلاد ما بين النهرين “دجلة والفرات” الذي يسعى البعض من دول الجوار إلى تجفيفهما من خلال قطع الجداول والروافد أو بناء السدود الضخمة وحجب حصة العراق المائية المنصوص عليها في المعاهدات الدولية والإنسانية وهو تدمير لا يقل فظاعة إذا لم نقل أكثر فظاعة عن تدمير الآثار التاريخية لهذه البلاد المبتلية بالإرهاب والعنف واللاعدالة لأنه موجّه لحياة الشعب المعيشية والاقتصادية والاجتماعية، وبهذا يواجه العراق مشروعين تدميرييْن يستهدفان وحدته الوطنية ووحدته الجغرافية‭.‬


أعمال حفر وتنظيف في موقع أثري بالموصل

لا غلوّ أو تزييف للحقيقة والتاريخ عندما أشير سابقاً ولاحقاً بأن العراق مهد الحضارة هذه الإشارة الصحيحة لا يختلف عليها اثنان وهذا ما أكده علم الآثار والاكتشافات الأثرية المتوزعة على عدة مناطق مختلفة، ومن بين هذه المناطق أو المحافظات محافظة نينوى المعروفة بمعالمها الأثرية والحضارية التي تقدر عمرها بآلاف السنين، وقد اتخذها الآشوريون عاصمة لهم (عام 1080 قبل الميلاد) ومن خلال الآثار المكتشفة الموجودة في الجانب الأيسر من مدينة الموصل وأشهرها الآثار والأسوار والقلاع الموجودة في باب شمس وحصن الآشوريين وتل قوينجق وبوابة المسقى وتل التوبة (النبي يونس) وهناك العديد من القلاع الدفاعية التي بناها الآشوريون كما هناك العديد من الآثار والتماثيل والمعالم التي تؤكد عراقة نينوى وتاريخها وتواجدها الحضاري في التاريخ الذي دمّر العديد من معالمها الأثرية عندما استولى الميديون والكلدانيون عليها بعد قتال طاحن ثم دمّروها بما فيها الحصن العبوري، ولهذا تمتلك نينوى موقعاً متميزاً كونها تشغل المرتبة الثالثة بين المواقع الأثرية العراقية لأنها على الصعيد التاريخي كانت تعتبر عاصمة الإمبراطورية الآشورية التي حكمت العراق فضلاً عن أنها تتميز بمواقع أثرية “ساسانية وكلدانية” إضافة إلى آثار حول الفتح العربي الإسلامي، وأدّت التنقيبات منذ أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين إلى العثور على المئات من الآثار والرسوم والمنحوتات والقصور العائدة للملك سنحاريب (حوالي 700 قبل الميلاد) وعلى موقع قصر أشور ناصر بال إضافة إلى آثار برونزية تعود إلى حوالي (2334 – 2279 قبل الميلاد)، أما في العصر الحديث وبخاصة الحكم الملكي فقد اعتبرت نينوى المحافظة الثانية بموقعها السكاني في العراق واعتبرت الموصل عبارة عن نقطة وصل وكما جاء في المثل “هذا غيض من فيض” بخصوص تاريخ نينوى وموقعها ومدينة الموصل التي اشتهرت مثلما أشرنا بآثارها ومتحفها الغني بالمنحوتات والكتابات والتماثيل، هذه الآثار والمنحوتات وغيرها هما الكنز الثري التاريخي الذي يمتلكه العراق وهو جزء من تواجده المعرفي والثقافي والتراثي ، ومن خلال الاكتشافات الأثرية التي هي الأسس المادية المعرفية التي أثبتت أن حضارة وادي الرافدين هي مهد الحضارة في التاريخ البشري كما اكتشفت شريعة حمورابي التي تتكون من العديد من القوانين التي تعود إلى (1790 قبل الميلاد) باعتبارها الأولى في التاريخ من حيث شمولها وتكاملها التي خطت على الألواح التي يعود تاريخها إلى (300 قبل الميلاد) حيث استعملها السومريون، كما جرى اكتشاف أنظمة الريّ والسقي التي استعملت في جنوب العراق وشماله وأكدتها التنقيبات الأثرية على أن أول المجتمعات الزراعية وُجدت في وادي ما بين النهرين تحديداً إضافة إلى قلعة “جرمو شرق كركوك” التي تعود إلى عام (7050 قبل الميلاد) كما دلّت الاكتشافات على اكتشاف أقدم عجلة في العراق تعود لعام (350 قبل الميلاد) وغيرها من الآثار والألواح المسمارية‭.‬

هذا التاريخ أصبح منذ الاحتلال الأميركي 2003 في مهب الريح، ويحضرنا حينها كيف جرى نهب المتحف العراقي أمام سمع وبصر الجيش الأميركي الذي لم يحرك ساكناً حتى أمام السرقات المتكررة للآثار من كل المواقع الأثرية ونقلها وبيعها خارج البلاد من قبل مختصين “حرامية عراقيون مسنودة ظهورهم كما هو معروف”‭..‬ واليوم تتكامل المسرحية الدرامية الدموية لتدمير هذا التاريخ والتراث الأثري الممتد لآلاف السنين على يد الإرهاب الداعشي الذي حمل معاول الظلام والرجعية المتخلفة وانهال بها على هذه الآثار وكأنه ينتقم من كل ما هو حضاري وتنويري تقدمي في التاريخ، كأنه ينتقم من الثقافة والفنون والمعرفة البشرية، فداعش لم يكتف بسلب المواطنين حياتهم لأتفه الأسباب وقتلهم بوحشية تفوق وحشية العصور البربرية فظاعة فحسب، بل يهدف إلى إعاقة عملية التطور ومحاولة فاشلة لجعل الزمن يتوقف، لا بل يتراجع إلى الخلف مئات السنين الظلامية التي كانت فيها الإنسانية تعيش الحرمان المعرفي والثقافي والحضاري، وقد ظهر للعيان أن داعش بكل معنى الكلمة هو الجهل المطلق والظلام الأبدي وبحجة الدين الإسلامي كي يتمكن من تحقيق التخلف المطلق وإنهاء القيم الإنسانية التي أصبحت منهجاً أساسياً لحقوق الإنسان وحريته في الاختيار والانتماء‭.‬

إن معاول الظلام التي كانت عبر التاريخ تختار المكان المعيّن وتحاول تطبيق التخلف باستعمال العنف والقتل لإلغاء الآخر قد أثبتت أنها ستبقى على النهج التدميري لقيم الإنسانية والتراث البشري، ولهذا فإن ما جرى في الموصل الآن وتحطيم ماهية تاريخها الأثري يذكّرنا ذلك بما فعلته حركة طالبان ومن خلفها القاعدة في أفغانستان عندما قامت بتفجير تمثال بوذا الأثري التاريخي للبوذية، ولكن هل انتهت أفكار وتعليمات بوذا كمصلح اجتماعي؟ أو انتهت البوذية كمنهج يعتنقه مئات الملايين من البشر؟ وهل معاول الظلام تطمس معرفة البشرية بمهد الحضارة وتاريخ الشعوب التي قطنت المعمورة في حقب تاريخية قديمة؟

فهذا هو المستحيل بعينه لأنه سيبقى ولن يسقط ما دامت البشرية باقية على الأرض‭!‬ والذي سقط وسوف يسقط هو الفكر الظلامي المتخلف الذي يقف بالضد من التنوير وحقوق البشرية في المساواة والعدل والحرية‭.‬ إن العالم المتحضر مدعوّ اليوم أكثر من السابق عندما وقف بالضد من العبودية والعنصرية والفاشية والنازية، وبالضدّ من التمييز العرقي والقومي والديني مدعوّ لكي يقف مع الشعب العراقي الذي يعاني من الجرائم البشعة التي يقوم بها داعش والميليشيات الطائفية المسلحة، يقف بكل حزم بالضد من الأعمال الإجرامية لطمس ليس هوية نينوى فحسب بل لطمس معالم الهوية التاريخية للعراق‭.‬ لقد تنوعت الإدانات التي أصدرتها المنظمات والقوى الاجتماعية والسياسية ومنظمات المجتمع المدني وهذا دليل على عافية التوجه العالمي بالوقوف ضد قوى الإرهاب والتخلف

كاتب‭ ‬وشاعر‭ ‬من‭ ‬العراق

هدم‭ ‬الهوية‭ ‬وقطع‭ ‬الجذور


حفر وتنظيف في مواقع أثرية

‬نصيرة‭ ‬تختوخ

تقول المادة السابعة من قانون الآثار السوري الصادر عام 1963 ”يحظر إتلاف الآثار المنقولة أو الثابتة أو تحويرها أو إلحاق الضرر بها أو تشويهها بالكتابة أو الحفر عليها أو تغيير ملامحها أو فصل جزء منها، كما يحظر إلصاق الإعلانات أو وضع اللافتات في المناطق الأثرية و على الأبنية التاريخية المسجلة”‭.‬

لكن الصور والتقارير القادمة من سوريا تقول إن كل محظور في المادة قد ارْتُكِبَ وأن حال الآثار السورية يعادل في سوئه حال إنسانها المقذوف في جحيم الحرب أو يتجاوزه سوءًا‭.‬

مدن أثرية لها قيمتها التاريخية الإنسانية المعترف بها لدرجة تصنيف بعضها ضمن لائحة التراث العالمي من طرف اليونيسكو تظهر في صور الأقمار الصناعية وقد غزتها الثقوب فاضحة عمليات التنقيب غير الممنهج الذي تتعرض له لنهب كنوزها، نذكر منها أفاميا ودورا أوربوس وماري مشيرين لموقع الثلاثة في الزمن‭:‬

1‭.‬ مدينة أفاميا‭:‬ تعود للعصر الحجري القديم وقد تعاقبت عليها ممالك وإمبراطوريات كثيرة نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر‭:‬ الفارسية، المقدونية، السلوقية، البيزنطية، الرومانية‮…‬

2‭.‬ مدينة ماري‭:‬ تعود لنحو 2900 قبل الميلاد‭.‬

3‭.‬ مدينة دورا أوربوس (صالحية الفرات): يعود تجديد بنائها لنحو 300 عام قبل الميلاد في العهد السلوقي مع إشارة لوجودها في العهد البابلي‭.‬

الجوامع العتيدة تهوي في سوريا الدامية جدرانا ومآذن تحملها الصور فيشاهدها العالم كما حدث في أبريل 2013 حين تناقلت وكالات الأخبار صور انهيار مئذنة جامع حلب الكبير (الجامع الأموي في حلب) ضحية لاعتداء الأسلحة الثقيلة على وقفتها الشامخة‭.‬ تشابهت معها في المصير قلعة الحصن في حمص التي عاد إليها المقاتل السوري يحتمي كالمحاربين القدامى فتتعرض لقصف لا يراعي لا تصنيفها ولا تاريخها الذي يمكنه أن يثقل الصفحات‭.‬

عَدَلَ الظلم فتساوت المصائر الأليمة بين الفسيسفاء البيزنطية والنقش الإسلامي والعمود الروماني وتباينت بين نهب وتدمير وإتلاف جزئي‭.‬

المنظمات العالمية المهتمة والمختصون يبذلون جهودهم وهم غير ساكنين أو لا مبالين كما قد يتهمهم البعض، فهناك ندوات ومداولات تقام منذ تدهور الوضع الأمني في سوريا وتبيّن الخطر المحدق بإرثها الحضاري وقد رأت مبادرات وتوصيات مهمة النور من بينها‭:‬ إصدار القائمة الحمراء للآثار السورية المعرضة للخطر ‭(‬2013‭)‬ ومشروع “الصون العاجل للتراث السوري” ‭(‬2014‭)‬ لكن درء الخطر حتّى عن مستقبل الميراث الحضاري السوري يبدو سائرًا إلى تعقيدات تكبر مع تقدم عمر الحرب‭.‬

من يغادرون سوريا اليوم ليسوا فقط اللاجئون المثيرون للتعاطف من أمهات وآباء يحاولون تنظيم حياتهم في مخيمات اللجوء لكنهم أيضا كوادر سوريا وعقولها ومنهم في مجال الآثار علماء ومختصون وباحثون تتوقف رحلة بحثهم وتضيع في ظل الفوضى القائمة وتهدد المستقبل لأن رحلة العودة تتأثر بطول مدة الغياب‭.‬

هناك من يضع إنقاذ الأرواح البشرية كأولوية الأولويات ويرى الأخطار المحدقة بالتراث السوري أقلّ أهمية، فما قيمة الحجر وما الذي يعنيه تصنيف ضمن قائمة التراث العالمي؟

الحقيقة أنّ سوريا قدمت للتاريخ منذ بدايات الحفريات والتنقيب عن الآثار فيها منذ نهايات القرن التاسع عشر (حلول إرنست رينان بسوريا باحثا كان عام 1860) كنوزا معرفية ساعدت على فهم تاريخ العصور القديمة وصولا إلى القرون الوسطى وما بعدها وأن ضم مدنها ومعالمها الأثرية إلى التصنيف العالمي يتجاوز العرفان بالدور الحضاري السوري في التقدم الإنساني إلى الإشارة لقيمة البلد واستراتيجية موقعه على امتداد العصور مما جعل القِوَى الساعية لتوسيع نفوذها على العالم الشاسع تضع لها ثوابت فيه وتحاول استدامة وجودها فيه‭.‬

رؤية الصنم أو مجرد الجماد أو الحجر في الآثار دليل على ضيق تفكير وضلال كبير فقراءة الماضي تبدأ بما تركه السابقون وهو بغناه لا يُختزل في معتقد وممارسة عقيدة بل في أنماط حياة ونظام اجتماعي وعلاقات بأمم أخرى وتداخل تواريخ‭.‬

الذين يرون في التحفة الأثرية مجرد بناء أو تمثال أو بدائية عليهم أن يراجعوا التاريخ بمفهومه الواسع‭:‬ تاريخ العمران أو الرياضيات أو الطب‮…‬ليستوعبوا كيف حفظت الأحجار حكايات الإنسان ليقرأها إنسان غيره بعد آلاف السنين‭.‬ إذا أخذنا مثلاً بسيطا بعيدا حتى عن أسرار تطور العلوم والزراعة والعلاج متصفحين كتاب ”’تاريخ الفن” للبروفيسور السير إرنست غومبريش سنجده متحدثا عن لوحة أثرية آشورية يقول ”اللوحة تُظْهِرُ هجوما على حصن حيث الآلات تقوم بدورها والمدافعون يسقطون من أعلى البرج و امرأة تبكي يائسة‮…‬‭.‬عندما ننظر إليها وكأننا نشاهد نشرة أخبار تعود لألفي عام، إلى ذلك الحد يبدو كل شيء مقنعا وحقيقيا‭.‬ لكننا لو انتبهنا نلاحظ تفصيلا مثيرا للفضول‭:‬ هناك عدد من القتلى والجرحى في تلك المعارك الضارية، لكن لا واحد منهم آشوري‭.‬ كانوا يعرفون التباهي والبروباغندا في تلك الفترة أو ربما علينا أن لا نسيء الظن بهم‮…‬ ربما كانت لديهم قناعة غامضة تجعلهم يتهيبون تمثيل الآشوري جريحا”‭.‬


عناصر من داعش تحطم تماثيل في متحف الموصل

إنّه إنسان المنطقة من يُرَى، من عرف حروب وديانات من احتمى ومن أقام الصداقات وقاوم العداوات ومن له صلاته بإنسان المنطقة اليوم‭.‬ تقدم الإنسان لم يكن يوما قطيعة مع ماضيه بل تقدّما منه نحو المستقبل بما في ذلك من اتصال وعدم انفصال كامل‭.‬ تحطيم الآثار وإتلاف صورها أو ضياعها والوثائق المتعلقة بالحفريات والموجودات المحفوظة منذ عقود قطع جذور تصل الشعب العريق بماضيه ومن الغريب أن تكون هناك علاقة نقمة وكراهية تفصل الإنسان المتصل جينيا بأجداده عن تاريخ بلده‭.‬ تجريد الأرض السورية من شواهد قدرة مواطنيها عبر الزمن على التعايش وإيجاد سبل للانتصار وحماية الاستمرار ليس أمرًا يستهان بتأثيره إنّه مظهر من مظاهر هدم الهوية التي تسهم في المزيد من الارتماء في الضياع الكبير‭.‬ ومنه فإنّ حفظ التراث السوري اليوم ضرورة مُلحّة ينضاف إليها عدم تغييب التفكير في المستقبل عن البال، ذاك المستقبل الذي تلعب فيه المتاحف دورا تعليميا وبيداغوجيا ويعود فيه المواطن السوري إلى تطوير مهاراته وحرفه المميزة لانتمائه والتي تعتبر أيضا تراثا إنسانا قيِّمًا يؤكد علاقته بوطنه تاريخا وممارسة.

كاتبة‭ ‬من‭ ‬المغرب‭ ‬مقيمة‭ ‬في‭ ‬أمستردام

جريمة‭ ‬تصل‭ ‬عقوبتها إلى‭ ‬الإعدام

‬طارق‭ ‬حرب

إن قيام عصابات داعش الإرهابية بتدمير آثار الحضارات العراقية في الموصل جريمة دولية على وفق الفقرة 9 من المادة 8 من اتفاقية روما لسنة 1998 التي وضعت النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في مدينة لاهاي، فهذه المادة اعتبرت توجيه هجمات ضد المباني المخصصة للأغراض الدينية أو التعليمية أو الفنية أو العلمية أو ضد الآثار من جرائم القانون الدولي، وهي جرائم حرب مخالفة لأحكام اتفاقية جنيف لسنة 1949، والتي حرمت ومنعت إتلاف أو تدمير الآثار في النزاعات المسلحة‭.‬ كما يعتبر ما قام به داعش من إتلاف للآثار جريمة على وفق المادة 40 من قانون الآثار والتراث العراقي رقم 55 لسنة 2000 باعتبار أن استيلاء داعش على هذه الآثار سرقة لها، ومن ثمة قيامه بإتلاف الآثار يعتبر جريمة يعاقب عليها هذا القانون العراقي بالإعدام‭.‬

إن المادة الرابعة من القانون المشار إليه أعلاه عرّفت الآثار بأنها الأموال التي بناها أو صنعها أو نحتها أو كتبها أو رسمها أو صوّرها الإنسان قبل مدة لا تقل عن مائتي سنة، إضافة إلى أن هذه الآثار محمية بالاتفاقات الدولية الخاصة بالمنظمة الدولية للثقافة والعلوم كونها جزءاً من التراث الثقافي المادي العالمي يهم الإنسانية بأجمعها وليس العراق فقط‭.‬ ومن هنا فإن المسؤولية الجزائية تتحقق على من ارتكب جريمة تدمير الآثار دولياً وعراقياً، والمطلوب التحرك لشد أنظار العالم على هذه الجريمة، والتي لا يماثلها إلا ما قام به طالبان في أفغانستان، ويتطلب بذل الجهد لتحرير الموصل والتراب العراقي بأجمعه حمايةً مشتركةً من العراق والعالم للآثار العراقية.

خبير‭ ‬قانوني‭ ‬من‭ ‬العراق

ماذا‭ ‬بعد‭ ‬خراب‭ ‬الموصل

علي‭ ‬حداد

نحتاج لمواجهة ما انهال على حاضرنا المنتهك من أسى وخراب وأظلاف قوى شر متدافعة أن نطيل الوقوف عنده، وألا نكتفي بانشغالنا منه بالمقدار الذي يسدّ حاجة انفعالنا، ويشيّع حداً نُقنع أنفسنا به من الغضب المكبوت والتفجّع الآني، لنذهب بأفق ترقبنا إلى ما سيحصل بعد ذلك الذي حصل، لا بجهد يستقرئ الأسباب والمسببات والنتائج، ولا بتحليل يراكم خبرته عبر استنطاق متعقل لما نواجهه من الهموم والانكسارات، بل بتوسل شعوري فيه كثير من الظن المتراخي بأنّ ما فعله الأشرار وأعوانهم، ومن يمهّد لهم السبيل لقتلنا وتدمير كل مقومات وجودنا الإنساني هو أقصى ما يمكن لهم فعله، مع أن منطق الأشياء والوقائع يقول إن عدوك لن يكتفي منك بما تهيّأ له أن يفعله ما دمت قد تركت له زمام المبادرة في تخيّر نوع الأذى وزمانه ومكانه‭.‬

لقد تكأكأ كثير منا على جمر حرقته مما يفعلونه بنا ولوعته على الفقدان المتلاحق الذي يصيبنا في البشر والقيم والثروات والطبيعة، مترقبين ما يجترحون ساديّته ضمن مسلسل من الأفعال الشريرة التي يصاعدون بها جراح مكابداتنا نحن الذين وضعنا أنفسنا في أفق الانتظار لأيديهم الكالحة تطول الذي يريدون، من دون أن نتفكّر بابتكار أساليب غير تقليدية نواجه بها هذا المد الشيطاني الذي يتفنّن ويلتذ بما يبتكره من ممارسات القتل والتدمير والتخريب الممنهج لكلّ ما تطاله يده من مقوّمات وجودنا وهويتنا الإنسانية الدالة علينا‭.‬

لقد كان أوّل ما يفترض بنا أن نتجاوزه هو هذا الظن المخطئ من أن قوى الظلام التي تمثلها داعش هي وحدها من فعل بأهلنا ومدننا وحضارتنا ما فعل‭.‬

نحن لا نواجه أفراداً خرجت ظلمات دواخلهم فصارت سلوكاً عدوانيّ النزعة، ولا جماعات أخرجها من حدّها الإنساني فكر متخلف الوجهة والمبادئ حسب، إن جهات عدة كارهة لنا ويقلقها ما نتوافر عليه من خصائص الثراء القيمي والمادي، تتراصف إلى جانبها دول لا تريد لنا أن نلتقط أنفاسنا من هذا الذي وضعنا فيه منذ نصف قرن من الزمان، تنفّذ (أجنداتها) هيئات ومنظمات، وأشخاص فيهم ممن هم محسوبون على جلدتنا الوطنية‭.‬ كل تلك الجهات هي من حشدت علينا شرها، وجعلت من داعش المخالب المسعورة للنيل من وجودنا‭.‬

لنقف عند هذا الذي يحصل في الموصل من قتل لخيرة كفاءاتها العلمية ومثقفيها، ومن حرق لمكتباتها وتدمير لكل معالمها الحضارية، ولنتأمل ذلك السيناريو المتتابع في وقائعه بجدولة شيطانية هي أكبر من قدرات داعش وعقول المنتمين إلى ظلمات دعاواها، حيث يجري تخير وقت الحدث التدميري وشكله، وتقنيات تصويره و(منتجته) بحرفية عالية وتوقيت بثه والمسافات الزمنية بين واقعة وأخرى‭.‬

لقد أثار تدمير محتويات المتحف الوطني في الموصل، كما هي الأفعال وحشية السلوك والنهج قبله، صرخاتنا المهضومة، وترك في القلوب جرحاً غائراً، ولكن ذلك الفعل ليس بجديد ولا مستغرب من تلك القوى همجية اليد إذا ما وضعناه في سياق ما حصل قبله، ومنذ قدوم الجيوش المحتلة لبلادنا، حيث طالت يد الخراب آثارنا ومكتباتنا، بل مؤسسات الدولة العراقية كلها‭.‬ ولعله سيند حياً وفاجعاً ما حصل للمتحف الوطني ببغداد، يوم دخلت القوات الأميركية المحتلة، من نهب وتخريب مماثل، وبما يخبرنا أنها الغايات ذاتها، واليد الشريرة نفسها، تلك التي نثرت محتويات المتحفين ونهبت ما خفّ حمله من الثمين فيهما وهشّمت ما لا تقدر على سرقته من تحفهما الكبيرة‭.‬

والتساؤل الذي لا يهدأ تلجلجه‭:‬ من هؤلاء الذين تتساوق لديهم الرغبة المسعورة بقتل الإنسان العراقي مع مسعى تدمير كل ما يدل عليه من مقومات حضارته ووجوده الثقافي ومعالم تمثله الروحي المختلفة؟ ولماذا يدمرون، من بين ما يقع تحت براثن ظلمهم وظلامهم، كل ماله سمة (العراقة) والحضور الإنساني الخالد؟ من هؤلاء؟ ومن أين جاؤوا بكل هذه القسوة والكراهية؟


موقع أثري دمته طائرات وصواريخ النظام السوري في حلب

لا شك أنهم لا يأتون من حاضنة الماضي الإسلامي الذي يدّعون تعلقهم بنهج سلفه أولئك الذين ساروا على قيم أوصاهم بها نبيهم الكريم (صلى الله عليه وسلم)، وهم يسعون في نشر مبادئ دينهم بأن لا يقتلوا أسيراً، ولا يهدموا معبداً أو ديراً ولا يقطعوا شجرةً في أرض من يحاربونهم‭.‬

إن هؤلاء يأتون من خارج (الزمنية) ومساحة التمثل البشري لها، حيث لا صلة قيمية لهم بالماضي، وقد تكارهت دواخلهم مع حاضر الإنسانية فتباعدت الشقّة بينهم مع محددات سلوكها الذي شرعنته ديانات سماوية وقوانين وضعية لا يأبهون لها‭.‬ ومن المؤكد أن ليس لهم من مستقبل يسعون إليه، فمن أين يأتي المستقبل لمن جافى وجوده ماضي الإنسانية وحاضرها؟

إن هؤلاء الذين لبسوا مسوخ وجودهم القيمي المتسخ والكاره للحياة، ومعهم من يمدهم بأسباب مواصلة ما أعدهم له ودربهم عليه ـ لا يكرهون الإنسان العراقي بسبب مذاهبه وطوائفه وقومياته فحسب بل يكرهونه قبل ذلك وبعده لتاريخه وحضارته، ولأنه يتمسك بهما هوية وجود وحصة يريدون إسقاطها منه، بعد أن وجدوها أفقا ثقافيا يتناسل الخصب العراقي منه‭.‬

لشدّ ما أقلقهم، أكثر من أيّ شيء آخر، المقدّرات الحيوية العالية في شخصية المثقف العراقي التي ما انطفأت خضرتها يوماً‭.‬ هل لنا أن نستذكر هنا ذلك الذي أعلنته رئيسة وزراء بريطانيا (تاتشر) مرةً عن غيضها من أن في العراق من الكفاءات ما هو أكثر من حاجته؟‭!‬

إنهم يسعون إلى النيل من الهوية العراقية عبر تدمير قيم ثقافتها ومرتكزات حضارتها لأنها وحدها من بقيت عصيّة على ما تجاوز القرن من المؤامرات والحروب والحصار والتجويع والاحتلال‭.‬ وكانت في كل تلك الشدائد تبتكر لوجودها ما يمدّها بمقومات التواصل وتنفس الحضور الخلاق وتواتر الإنجاز المضاف‭.‬

وإذ أدرك كثير من المثقفين العراقيين ذلك كله، فإن جملة من التساؤلات يلقونها على مسامع المثقفين العرب وفي العالم من حولهم، ولا سيما في الدول التي يوفر ساستها لظلامي داعش الغطاء كي ينفّذوا مآرب شرهم، من مثل‭:‬ ماذا لو أن الأمر لم ينته عند العراق وأهله، وأن أولئك الظلاميين قد وطئت ريحهم تلك البلدان التي تدعمهم، أو تتفرج على أفعالهم، أو تلوذ بالصمت والمبالاة إزاء هذا الذي يقومون به، ماذا لو أتيح لشرهم وشراهتهم للخراب موطئ قدم في (تركيا) مثلاً، فهل سيبقون لها متاحف وقصوراً تاريخيةً، وهل سيغضّون أبصارهم عن منتجعاتها وجزرها الحافلة بالإثارة والجذب السياحي كما هي عليه الآن؟ هل سيبجّلون قبر (كمال أتاتورك) مؤسس تركيا الحديثة، ومعه قبور كثير من الأولياء والحكام الصالحين والطالحين المدفونين هناك؟ ماذا لو أتيح للدواعش أن يتمددوا، لا سمح الله، في أرض مصر الكنانة؟ هل سيبقى أبو الهول رابضاً في مكانه، وأهرامات الجيزة متعالية تحدق بالشمس؟ ألا تتحسب تلك الدول التي تدعمهم أن يصلها أذاهم، أم أن ذلك لا يشغلها، لأن معظمها لا تملك من التراث والحضارة ومعالم الماضي ما تخاف عليه؟

كاتب‭ ‬وأكاديمي‭ ‬من‭ ‬العراق

لا‭ ‬يمكن‭ ‬حماية‭ ‬التراث‭ ‬العراقي‭ ‬دون‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬داعش

مارغريتا‭ ‬فان‭ ‬إس

يتعرض التراث الإنساني في العراق للنهب والتدمير بشكل بلغ أشده بتحطيم تنظيم داعش آثار متحف نينوى في الموصل‭.‬

يضم المتحف آثاراً تعود إلى الحضارتين الآشورية والأكدية، والتماثيل المدمرة يعود بعضها لمملكة “الحضر” الموضوعة على قائمة اليونسكو للتراث الإنساني (مملكة الحضر مملكة عربية ازدهرت في القرنين الأول والثاني قبل الميلاد)‭‬‭.‬ وكما ظهر بالفيديو، تم تخريب وتحطيم ثورين مجنحين أشوريين من مدينة نينوى‭.‬ دُمّر أحدهما في داخل المتحف والآخر على أسوار مدينة نينوى، وهذان الثوران هما قطع أصلية، أما تماثيل مدينة الحضر فيبدو بعضها قطعا أصلية والأخرى ليست كذلك‭.‬

لا يظهر الفيديو الذي بثه تنظيم داعش عمليات تدمير لقطع أثرية أخرى من نينوى غير الثورين المجنحين‭.‬ ويُخشى أن يكون هناك المزيد من التدمير لآثار نينوى لم تظهر في الفيديو‭.‬ وهذا التدمير يعتبر كارثةً لأن بعض القطع لم تجر لها عملية أرشفة علمية بشكل كامل‭.‬

القطع الأثرية الأصلية العائدة لمملكة الحضر تشكل أهميةً بالغةً، بعض هذه القطع تماثيل لملوك، وأخرى لشخصيات مؤثرة، وبعضها يشير إلى القوافل التجارية، وهي بمجموعها تؤكد على اهتمام الملوك البارثيين بمدينة الحضر، التي لم تكن تبعد كثيراً عن الحدود البارثية الرومانية‭.‬

للّقى الأثرية من مملكة الحضر طابع أثري خاص جداً، وهذا الطابع لم يكن معروفاً لا على المستوى العلمي ولا حتى التاريخي‭.‬ وبتدميرها فقدنا القدرة على متابعة دراستها علمياً، الأمر الذي يجعل الخسارة فادحةً، بغض النظر عن قيمتها المادية‭.‬

كثير من الآثار الأشورية مازالت موجودة، فلا توجد كل آثار نينوى في الموصل، لكن في أماكن أخرى‭.‬ ومن جهة أخرى لم يتضح بعد ماذا حصل للقطع الأخرى في الموصل‭.‬ من المبكّر الفصل بذلك الآن، ربما يستطيع الزملاء في المتحف العراقي إعطاء مزيد من التفاصيل‭.‬

أخشى ألا تمكن حماية التراث العراقي إلا بالقضاء على داعش‭.‬ لا يمكن القيام بعملية لإنقاذ التراث والآثار لوحدها‭.‬ أقصى ما يمكن فعله هنا هو أرشفة ومعرفة ما تم بيعه وتدميره للقيام بإعادة بنائه وترميمه لاحقا‭.‬ لكن هذا لا ينقذ القطع الأصلية‭.‬

إنها مسؤولية المجتمع الدولي للتدخل ضد هذا التنظيم المصاب بمرض التدمير‭:‬ تدمير الفن والإنسان والمجتمع‭.‬ لكنها أيضا مسؤولية الدول والمجتمعات الواقعة تحت تهديد داعش أن تتحرك ضده‭.‬

يزوّدنا زملاؤنا وأصدقاؤنا في العراق وسوريا بمعلومات مفادها أن داعش تموّل نفسها بفرض الضرائب على كل أنواع التجارة ومنها تجارة الآثار‭.‬ لكننا لم نسمع حتى الآن أن داعش نفسه يقوم بالتنقيب عن الآثار لبيعها‭.‬ يترك داعش عملية البحث عن الآثار ونهبها لتجار الآثار غير الشرعيين، الذين ينشطون بشكل كبير في المنطقة الآن‭.‬ الأكيد أن كل الآثار التي تأتي من سوريا والعراق وحتى بلدان أخرى في المنطقة هي قطع يتاجر بها بشكل غير شرعي‭.‬ ويجب علينا إثارة هذا الموضوع من جديد في الرأي العام، فلو لم يوجد مُشتر لما كان هناك بائع‭.‬ إنها آلية العرض والطلب‭.‬ يجب توضيح الأمر التالي لمحبي اقتناء القطع الأثرية‭:‬ أغلب القطع المعروضة هي مهرّبة بطريقة غير مشروعة، وبشرائهم لها يسهمون في تمويل ليس المافيا فقط، بل الإرهاب أيضاً‭.‬

كذلك لا بد من تعديل القانون ليجبر البائع على الكشف عن المنشأ الأصلي للقطع‭.‬ وهذا لا يحصل حتى الآن، مع الأسف‭.‬ صحيح أن هناك حظراً على الاتجار بالآثار السورية والعراقية، ولكن نتيجة لوجود ثغرة عدم التصريح عن المنشأ، يصعب سحب هذه القطع من السوق‭.‬

كنت قد عملت بالبحث العلمي في العراق وقدت التنقيب في مدينة أوروك التاريخية، وشخصيا أعتبر ما حدث مصيبة‭.‬ لقد دمرت شواهد عظيمة على بشر عظماء بنوا حضارات عظيمة على الصعيدين المادي والفني، هذه الحضارات السابقة وفّرت لنا تراكماً حضارياً هاما للمعرفة

خبيرة‭ ‬آثار‭ ‬ومديرة‭ ‬قسم‭ ‬المشرق‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬الألماني‭ ‬للآثار‭ ‬ببرلين

تدمير‭ ‬العراق،‭ ‬تدمير‭ ‬الذاكرة

‬فلاح‭ ‬المشعل

ارتكاب جريمة تدمير الآثار في مدينة الموصل، والسعي لمحو ذاكرة الحضارة الآشورية، حلقة مكمّلة لطاقة الإبادة الموجهة التي يتبناها سلوك “داعش” إزاء دولتين (العراق، سوريا)، عرفتا بمخزونهما من إرث حضاري يرمم مفاهيم التاريخ القديم بمعرفة دورة الحضارة والحياة، إنهما القاعدة الأوسع لذاكرة الحضارة القديمة‭.‬

المهمة هنا ليست إسلامية كما يعتقد البعض، أو يردد الداعشيون ذلك زورا، وإن كانت مسعى موجهاً نحو تجهيل الفكر الإسلامي، وتحميله مسؤولية منهج “داعش” في تكريس مفهوم ظلامية هذا الدين وفاشيته الفكرية والوجودية‭.‬

بخلاف كذب ادّعاء “داعش” الإسلامي وخطابه الإعلامي الزائف، فقد جاء ذكر التماثيل أو النصب في القرآن الكريم سورة المائدة، الآية 90 “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”‭.‬ الأنصاب هنا كل ما عبد من دون الله تعالى، أي بمعنى الأوثان أو الأصنام التي كانت تأخذ دور الآلهة في زمن الجاهلية‭.‬

لكن الآثار تعود إلى أزمنة أخرى سبقت نزول الرسالة الإسلامية، وهي تدوّن تراث الأجيال والأمم السابقة التي يدعو القرآن المجيد الناس للتعلم والانتفاع من تجاربها، كما أنها لا تعبد، بل تقف أشبه بتحف تعطي قراءات ثقافية وعلمية لتلك الأزمنة البعيدة التي تشكل طفولة المعرفة وعنفوانها في البناء وقوانين الوجود الاجتماعي والفكري‭.‬

أما تداولهم حديث الإمام علي (ع) “اطمسوا التماثيل” إنما هو في ذات السياق الذي يدعوا لإخفاء التماثيل التي كان يعكف الناس على عبادتها في الكعبة، وليس هذه الواجهات الفنية والسياحية العظيمة، هوية كل أمّة أو مجتمع تفخر أن لها ماضياً مجيداً‭.‬

زرنا واشنطن عاصمة أميركا، وضعوا زيارة المتاحف في أول يوم للبرنامج، شارع عريض أنيق مبهج تشمخ على جانبه أبنية تشكل سلسلة المتاحف الطبيعية والتاريخية والحضارية والعلمية والفنية وصولاً إلى حضارة وتاريخ الهنود الحمر سكان أميركا الأصليين، متاحف معتنى بها وفق آخر شروط وتقنيات حفظ الآثار، وتهيئة طرق مشاهدتها من قبل الزائرين ما يجعلها ترسخ في الذاكرة‮…‬ هذا ونحن نتحدث عن دولة حديثة (لملوم) لا يتجاوز تاريخها 200 سنة‮…‬‭!‬

بروح ناقعة بالأسى، أتفق مع دعوة الزميل (إياد الزاملي) بضرورة نقل الآثار العراقية إلى دول قادرة على حمايتها‭..‬‭!‬ كما بلغ الحزن والاستهجان بالصديق الكاتب (حمزة الحسن) أن طالب بنقل ما تبقى من بشر عراقيين وتسجيلهم على ذمة اليونسكو، للحفاظ عليهم من الفناء والانقراض‮…‬‭!‬؟

يشتد الغضب والاستنكار لجريمة تدمير ماضي العراق الحضاري، بعد أن تم تدمير حاضره من قبل أميركا ودول الجوار، لكن الذاكرة بتحديثاتها الدموية تثبت أن القتلة المجرمين اللصوص الذين حكموا العراق في حكومته المركزية الفاسدة، أو المسخرة المسماة حكومته المحلية في الموصل إبان سقوطها المفجع‭..‬‭!‬ هؤلاء شركاء “داعش” بهذه الجريمة الصاخبة، إنهم يحرقون الإنسان وذاكرته أيضاً‭.‬

كاتب‭ ‬من‭ ‬العراق

هدم‭ ‬التاريخ‭ ‬والحضارات

رياض‭ ‬عبد‭ ‬الكريم

بكيت ونزفت دمعاً وألماً، وأنا أشاهد جرم وبشاعة من لا أجد لهم وصفاً وهم يرتكبون إبادة ثقافية وجريمة بحق تاريخ الحضارات، أناس انبثقوا من تحت الأرض، لم يألفوا الحياة ولم يعرفوا قيمة الإنسان، وقيمة التاريخ، دمّروا الإنسان، والآن يدمرون إرث وتاريخ الإنسان، متحف الموصل وآثار العراق دمرت‭..‬ نهبت‭..‬ وسحقت، الهدف من كل ذلك أن نصبح من دون جذر‭..‬ إرث‭..‬ حضارة‭..‬ بمعنى شعب هجين لا تأريخ له، وهذه هي نظرية المؤامرة التي تشارك بها أطراف عديدة البعض منها وللأسف من الداخل‭..‬ ولا أقول عراقية‭.‬

أقول‭:‬ بكيت، لأنني أحسست بأن تاريخي وإرثي كعراقي بدأ يسحق، ولأن من يزعمون أنفسهم قادة البلد لم يكترثوا وكأن التاريخ عندهم بلا معنى‭..‬‭!‬ وا أسفاه على عراق كان كل العالم ينظر إليه لا بشخوصه الرسمية وإنما من خلال حضارته الكبيرة والعظيمة، كنا نفتخر ونشعر بالزّهوّ والكبر عندما يشار إلينا على أننا امتداد للتاريخ ومن سبقونا كانوا صنّاع الحضارات‭.‬ لقد عشنا أزمنة برغم استبداد وبطش أنظمتها، إلا أننا كنا نتحسس قيمتنا من عمق الإرث والتاريخ، وكأن شواهد الحضارات كانت تصرخ على أن مجد وكبرياء العراق والعراقيين لم ولن تمثله أو تصنعه أنظمة المصادفة، أو رجال الاستحواذ‭.‬

لقد فتكوا بالتاريخ، ودمروا الحضارات والشواهد في أبشع جريمة عرفها التاريخ، المجرمون شياطين الحياة وأبالسة الكون يخترقون كل قوانين السماء والأرض، فإذا كان قتل الإنسان، وتفجير الأحياء، وانتهاك العرض، وسبي النساء هي وسائل التعريف بأهدافهم كما يريدون هم أن يوصلوا رسائلهم فإن كل ذلك قد انعكس عليهم بالكره والحقد والازدراء، وزاد من إصرار كل شعوب العالم على مقاتلتهم والقضاء على إجرامهم الذي بدأ يهدد الإنسانية أينما تكون، ولأن الجهالة لا تعي القيم والأصول، ولا تؤمن بالمنابع والجذور الحضارية، فقد طال إجرام داعش كل شواهد الحضارات وهم يحطمونها بكل وحشية فاقت حتى وحشية الحيوانات‭.

هذا العمل الإجرامي لا يقل شأنا عن الفتك بحياة الناس أو تدمير المدن والأحياء، لأنه يمسنا جميعا كشعب أراد شياطين الحياة أن يمزقوا هويتنا ويلغوا انتماءنا، وهو فعل مقصود تقوده جماعات وسياسات صهيونية وماسونية وبعض الأطراف المعادية للعروبة والإسلام، في محاولة بائسة وذليلة لتغيير مجرى التاريخ الذي كاد يستعيد بريقه بعد التغيرات التي تحققت بفعل الربيع العربي، وهي أيضا ردة فعل لتقويض النهضة العربية التي بدأ يتفاعل معها الجيل الجديد بعد أن هُمّش طيلة العقود الماضية بفعل التقنيات والإلكترونيات الحديثة التي استحوذت على كل وقته واهتمامه‭.‬

تأسّفت لأنني لم أتلمّس موقفاً رسمياً وشعبياً يعبّر عن الأسى والحزن، ويتوعد بالانتقام والثأر، كان ينبغي أن يصدر موقف من رئاسة الجمهورية والحكومة، وتوجه رسائل رسمية للمنظمة الأممية والجامعة العربية وكل الهيئات الدولية، كنت أتوقع أن تشهد بغداد وبقية المحافظات تظاهرات استنكار وشجب تقودها منظمات المجتمع المدني، وكان يفترض أن نتلمّس موقفاً واضحاً من وزارات الخارجية، والثقافة، وحقوق الإنسان، واتحاد الأدباء، وجمعيات حقوق الإنسان والمؤرخين‮…‬‭..‬

ولكن للأسف لم يحصل ذلك‭.‬

كاتب‭ ‬من‭ ‬العراق

إنهم‭ ‬ينحرون‭ ‬التاريخ

‬عامر‭ ‬راشد

إنحطاط “الدواعش” وجهالتهم الظلامية تشويه للإسلام والقيم البشرية في العصر الحديث، وتغلغلهم في المجتمعات العربية يهدد هويتها ومستقبلها‭.‬

أقل من عام واحد كان كافياً لتنظيم “داعش” كي يسجل في كتب التاريخ آلاف الصفحات من الدموية والهمجية، التي تشوِّه صورة معتقدات المسلمين وتثخنهم بالجراح، وتعتدي على قيم الإنسانية وتراثها، بجهالة ووحشية قلَّ نظيرها، تحت قناع تزييف الدين الإسلامي‭.‬

جريمة جديدة، ولن تكون الأخيرة، أقدم عليها “الدواعش” بتدمير مقتنيات متحف مدينة الموصل العراقية، التي تضم تحفاً من الحضارة الآشورية والأكادية وباقي حضارات بلاد الرافدين، وقبلها قاموا بتفجير مكتبة المدينة المنكوبة، وإحراق عشرات آلاف الكتب والوثائق التاريخية النادرة‭.‬

شريط فيديو مدته 5 دقائق، نشره تنظيم “داعش”، يظهر رجالاً ملتحين وهم يحملون مطارق وأدوات حفر كهربائية ويحطمون الثور الآشوري المجنح، رمز الحضارة الآشورية الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وعدداً من التماثيل‭.‬

ويعلق أحد “الدواعش” الذين ظهروا في شريط الفيديو على الجريمة بالقول “أيها المسلمون إن هذه الآثار التي ورائي إنما هي أصنام وأوثان لأقوام في القرون السابقة، فإنّ ما يسمّى الآشوريين والأكاديين كانوا يتخذون آلهة المطر وآلهة الزرع وأخرى للحرب يشركون بالله ويتقربون إليها بشتى أنواع القرابين‭..‬ أمرنا رسول الله بإزالة التماثيل وطمسها، وفعل ذلك الصحابة من بعده، لما فتحوا البلدان، وإن هذه التماثيل والأصنام وهذه الآثار عندما أمر الله بطمسها وإزالتها هانت علينا، ولا نبالي وإن كانت بمليارات الدولارات‮…‬”‭.‬

جهل ما بعده جهل، يعمي أبصارهم وبصائرهم عن إدراك القيمة الإنسانية لتراث الآشوريين والأكاديين، ومنطق لصوص يتاجرون بشعارات دينية وهم يحطمون الأوابد والآثار، التي لا يستطيعون السطو عليها وبيعها لتمويل عمليات القتل والذبح والترويع‭.‬

وافتراء على التاريخ الإسلامي، فمن الثابت أن المسلمين لم يتعرضوا للآثار في البلدان التي دخلوها، بل حافظوا عليها، وإلا لما بقيت قائمة وموجودة إلى يومنا كما هي، واحترموا أماكن العبادة لأصحاب الديانات الأخرى ومقدساتهم‭.‬ إلا أن المنطق التحريفي والمتطرف لـ”الدواعش” لا ينفع معه الجدل، فهو ثمرة سامّة من ثمار تراكم تاريخي طويل، أنتج ظواهر متطرفة في التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه، ويمثل الجهل بالدين أبرز سماتها، وهي مشكلة مزمنة، تكفِّر المجتمعات وتحض على القتل، مردها مفاهيم وتصورات خاطئة ومشوهة، تتمسك بمقولات متوارثة منذ قرون، مصحوبة بتطرف عملي، دون أن تخضع لنقد أو تحليل منطقي‭.‬

وتؤكد الدراسات أن الدوافع والأبعاد التي تكمن وراء العنف والتطرف الفكري، بنسخه الحديثة في المجتمعات العربية والإسلامية، تتمثل في الاضطرابات المجتمعية، جراء تسييس الدين والتحيز للهوية الطائفية، وفوضى الثقافة الدينية، بسبب الاجتهادات الخاطئة لبعض رجال الدين وإخراج النص الديني عن إطاره الأصلي، والأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة، وتدنّي مستوى التعليم، وضعف البنية المؤسسية للدولة والانفلات الأمني، وكلها أسباب تستغلها الجماعات الإرهابية المتطرفة، مثل تنظيمي “داعش” و”القاعدة” لإغراء الشباب بحلول وهمية ترسّخ لفكر الغلوَّ لديهم، ورفض الآخر، الذي قد يختلف معه في الرأي أو العقيدة، وممارسة عنف دموي ضده‭.

ويستنتج من دوافع التطرف وأبعاده أن محاربته غير ممكنة بوسائل عسكرية وأمنية فقط، لأن استئصاله يتطلب تنقية المجتمعات من شوائب الغلو الديني والطائفي، بتعديل المناهج الدينية كي تعكس المفاهيم الصحيحة للعقيدة، ووقف فوضى الفتاوى الدينية التحريفية، والتشجيع على التقارب بين الأديان والطوائف والمذاهب، والحثّ على الانفتاح على الآخر من خلال الاطّلاع على ثقافته وفكره ومعتقده وقيمه المجتمعية‭.‬

وهي معركة طويلة، يقع العبء الأكبر منها على كاهل العرب والمسلمين، فالتنظيمات الإرهابية المتطرفة، وإن كان يصح وصفها بـ “نبت شيطاني”، تتغذى على موروث من المفاهيم المغلوطة، تدفع أصحاب النفوس المريضة إلى ارتكاب مذابح شنيعة بحق البشر والحجر والتراث الإنساني، فتنظيم “داعش” الذي مارس عمليات ذبح بشعة راح ضحيتها المئات من الأبرياء، في العراق وسوريا وليبيا، ينحر اليوم حضارة الآشوريين والأكاديين والسومريين والفينيقيين والآراميين، في بلاد ما بين النهرين والشام، التي أهدت للبشرية أبجديتها الأولى‭.‬

وإذا لم تتوحد جهود الجميع في مواجهة “الدواعش”، وأمثالهم من المتطرفين الجهلة، سنصحو ونمسي كل يوم على جريمة جديدة ومروّعة من جرائمهم، وتغلغلهم في المجتمعات العربية والإسلامية يهدد هويتها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها.

كاتب‭ ‬من‭ ‬فلسطين

آشور‭ ‬يتحدى‭ ‬داعش

محمد‭ ‬فلحي

تدمير الآثار الأكادية والآشورية، وسط ذهول العالم، يمثل حلقة جديدة ضمن مسلسل الجرائم الداعشية، التي بدأت باستهداف مراقد الأنبياء والأولياء، في مدينة الموصل، ثم مشاهد عمليات الذبح والحرق، التي استفزت مشاعر الرأي العام، وكشفت عن وحشية هذه العصابات التي اختطفت بعض المدن العراقية، وجعلت سكّانها رهائن وسبايا، تحت راية الدين الوهابي الداعشي الصهيوني التكفيري المنحرف‭!‬

إن منظر ذلك الكائن القذر الذي يهاجم بالفأس تمثالاً ضخماً يقدر عمره بنحو ثلاثة آلاف عام، أدّى إلى صدمة عنيفة هزت الأوساط العالمية، بعد أن انتشرت صور الجريمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات، حيث عبّر الإرهابيون عن إفلاسهم الفكري وسقوطهم الأخلاقي، ولا يوجد غطاء سياسي أو دعائي لتسويغ منهجهم الوحشي، بعد أن ظل بعض المارقين يدافعون عنهم بتسميات زائفة‭!‬

آشور بانيبال كما تصفه موسوعة ويكيبيديا وكتب التاريخ القديم هو الملك الآشوري الذي لقب بملك العالم (توفي في 627 ق‭.‬ م) وكان آخر ملك للإمبراطورية الآشورية، اشتهر، بصورة خاصة، باهتمامه بالإنجازات العلمية وتشجيعها وأنشأ مكتبة ضخمة، وجمع الكثير من ألواح الطين التي دوّنت فيها القوانين والشرائع، وكل أنواع المواد العلمية والثقافية المكتوبة، وأسس المدارس، وشقّ الطرقات وعبّدها، وشيد المباني العامة‭.‬ لم يكن آشور بانيبال شيعياً أو مسيحياً أو يزيدياً أو عربياً أو كردياً أو تركمانياً، بل كان رمزاً عراقياً شامخاً، يجسد وحدة الأرض وألق الحضارة العراقية، وكان هؤلاء الحاقدون لا يطيقون علم العراق الموحد، ويسعون لتمزيقه، عبر وسائل الكراهية والعنف والدمار، ولكن هيهات فشعب العراق رفع راية التحدي، وقد تنادى المجاهدون الحقيقيون واحتشدوا في ساحات المواجهة لصد العاصفة السوداء ورد الكائدين على أعقابهم خائبين‭!‬ كان الدواعش يعبثون بأرواح الناس وممتلكاتهم ومقدساتهم، في مدينة الموصل، طوال الشهور الماضية، ويقدّمون بين مدة وأخرى فلماً من أفلام الترهيب المصنوعة بتقنيات عالية، في حرب نفسية تستهدف زعزعة المعنويات وبث مشاعر القلق والخوف، بيد أن هذه الأفلام فضحت جرائم الإرهاب وأصبحت وثائق إدانة دامغة، سوف تساعد العدالة في معاقبة المجرمين.

كاتب‭ ‬وأكاديمي‭ ‬من‭ ‬العراق

خراب‭ ‬الدورة‭ ‬الدموية

عاصم‭ ‬الباشا

ما كان جديدا علي ما تناقله العالم عبر الأثير من جرائم حثالة البشر بحق تراث الإنسانية في متحف نينوى أو غيره، فنهب تراثنا وتدميره ما فتئ يقوم به النظام السوري بصورة ممنهجة منذ عقود عديدة، وربما أبرز من مارسه منذ بداية الثمانينات، وربما قبل، المجرم رفعت الأسد، سليل عائلة الإجرام الجاثمة التي ما زالت على مهد الحضارة التي تمثلها منطقتنا.

في فيديو التحطيم ذكرني بعنوان ديوان صديقي رياض الصالح الحسين "خراب الدورة الدموية"، لأنه سبب لي خرابا ممثالا. وحدث أن كنت قبل أيام من الحدث أستمتع بصحبة نوري الجراح بأوابد بلاد الرافدين المحفوظة في المتحف البريطاني وخطر لي، كما لغيري "ليتهم نهبوا منها أكثر، فهم يقدرون قيمتها".
الحضيض الذي وصلت إليه العقول المتأسلمة المجرمة، إن جاز لنا نعتها بالعقول، ما كان ممكنًا لولا انحطاط القائمين على العقيدة والذين يستمتعون بدور وكلاء الله على الأرض‭.‬ أثبتوا جميعًا مدى جهلهم بالدين وعمق إساءتهم له‭.‬ كثيرة هي الشواهد في تاريخ الدولة الإسلامية، بدءًا من بني أمية وقصورهم في البادية المزدانة بالمنحوتات النافرة وصولاً إلى رسم العاريات في قصير عمرة بالأردنّ الحالي، وهي أعمال أنجزت وما برح قليل من الصحابة وكثير من التابعين أحياء، ولم يعبّر أحد حسب علمي عن إدانة ما‭.‬ تحريم التمثيل بدعة مضافة تقلّد عصر المسيحيين الأوائل المقلّدين بدورهم لتعاليم يهوذا‭.‬

وبعد ذلك بقرون نصادف وجود التماثيل في الأندلس وفيما صادفه ابن جبير في رحلته المدوّنة‭.‬

سجّلت على صفحتي الفيسبوكية ما يلي في هذا الشأن‭:‬

“هل من عاقل يعبد حجرًا؟ من اعتقد أو يعتقد ذلك جاهل أحمق لا يعقل، ولا أستثني أحدًا‭.‬ بمقدورك أن تسعد بحجر وأن يدعوك إلى متعة أبعد من وجوده، كما النيزك -الحجر الأسود- في الكعبة‭.‬ من الحماقة التفكير أو الظنّ بأن المسلم يعبد ذلك الحجر، فلماذا يسيء المسلم الظنّ بمن لا يدين بدينه؟

الصورة أو الهيئة قد تكون وسيطًا أو حافزًا لعبادة ما هو خلفه وأكبر‭.‬ أنا أعبد الطبيعة من خلال شجرة أو زهرة أو حصاة، لكنها ليست عبادة خضوع وخوف بل متعة الشعور بأنني جزء ممّا أعبد”‭.‬

في السنة المنصرمة نهبت جحافل العصابة المحتلة في سوريا بمساعدة مرتزقتهم اللبنانيين مشغلي وأعمال 40 سنة في يبرود، وعلى الرغم من قسوة ذلك كتبت “فقدي 40 سنة من جهدي النحتي لا يماثل خسرانًا كسر حجر آشوري واحد”.

نحات‭ ‬من‭ ‬سوريا‭ ‬مقيم‭ ‬في‭ ‬غرناطة

اكتمال‭ ‬البشاعة

د‭. ‬علي‭ ‬شمخي

‬لبتحطيمها مقتنيات متحف الموصل الحضاري وتدميرها القطع الأثرية، التي تعود لحقب تاريخية متعددة في شمالي العراق، يكون تنظيم داعش قد استكمل صور ممارساته اللاإنسانية وعبّر بنحو بشع عن هويته الحقيقية، وبات على من يراوده الأمل بوجود نافذة شرعية لهذا التنظيم أن يدرك أن بشاعة أفعال هذا التنظيم قد فاقت الأعمال التي تحدثت كتب التاريخ عنها لشتّى المجموعات والعناوين الإرهابية‭..‬ فما قام به هؤلاء يفوق ما قامت به النازية والفاشية‭..‬ وإن كانت داعش مجموعة صغيرة لا تضاهي كيانات دول أو قوام جيش إلا أن أفعال هذه المجموعة تفردت بأساليبها الإجرامية وابتعادها عن كل ما هو إنساني‭..‬ ولربما سيفرد التاريخ المساحة الأكبر لأفعال هذا التنظيم في القرن الحادي والعشرين بعد أن شاهد العالم أجمع صور الذّبح والحرق والسبي والاضطهاد للأبرياء في العراق وسوريا ومصر وليبيا، وما جرى للأسرى والرهائن الذين وقعوا بين يدي أفراده من دول العالم الأخرى‭.‬

اليوم يكون من المناسب دعوة أبناء المناطق التي يحتلها داعش والعشائر التي وقفت صامته أمام دخول هذا التنظيم إلى مدنها للانتفاض على هذا التنظيم ومساندة القوات الأمنية والعسكرية التي تواصل حربها ضد الإرهاب‭..‬ ويجب أن تكون هذه الانتفاضة شعبية بكل تفاصيلها من أجل أن يدرك الداعمون للإرهاب في العراق بأن أحلامهم وآمالهم بوجود من يحتضن ويؤوي ويساند مجاميع الإرهاب قد ذهبت أدراج الرياح، وفي الوقت نفسه فإن الفرصة باتت مواتيةً لأبناء المناطق الغربية وأبناء صلاح الدين والموصل كي يثبتوا للعراقيين والعالم أجمع بأنهم قد قالوا كلمتهم بقوة أمام أعتى هجمة إرهابية عاثت في أرض العراق فساداً، وقتلت الآلاف من أبنائه بدم بارد‭..‬ ولطالما حذّر الخيّرون والوطنيون في داخل العراق وخارجه أولئك الذين كانوا يعتقدون بأن أهداف هذا التنظيم لن تنال من مكونات الشعب العراقي الأخرى، وأنها ستستهدف مكوناً واحداً أو فئة واحدة‭..‬ من دون أن يدركوا أن بشاعة الإرهاب لم تستثن ديناً أو قوميةً أو مذهباً، وتلك أفعالهم تتحدث عن أهدافهم ونهجهم، وما عاد أحد يصدق بياناتهم وادّعاءاتهم، والحليم تكفيه مشاهد التدمير والذبح والحرق.

باحث‭ ‬وكاتب‭ ‬من‭ ‬العراق

داعش‭ ‬وحضارة‭ ‬العراق

شامل‭ ‬عبد‭ ‬القادر

ما قامَ به داعش من هدم وتدمير للآثار العراقية في الموصل أثار سخط العالم المتمدّن والمتحضّر على المتشددين الإسلاميين، وعدّ تصرفهم انسجاما مع موقف الإسلام الحقيقي من التماثيل‭!‬

وحقيقة موقف الإسلام من التماثيل والآثار الحضارية ليس هذا الذي قام به داعش في متحف الموصل ونمرود من تخريب وتدمير بالمعاول والفؤوس‭..‬ وليس هذا الموقف هو حقيقة موقف الإسلام ممّا جرى وحصل وإلا فإننا نتساءل‭:‬ هل أبو بكر البغدادي أكثر فقها وعلما وتفحصا بتفاصيل دينه من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه؟‭!‬

قد يسأل أحدنا وما علاقة فقه عمر بأبي بكر البغدادي؟‭!‬

أقول– وهذا اكتشاف يسجل لي شخصيا– إن عمر بن الخطاب هو الذي أرسل عمرو بن العاص إلى مصر لفتحها ونشر الإسلام فيها وعندما أصبح عمرو بن العاص وجيوش المسلمين في مدخل مصر واجههم تمثال عظيم بل وصنم كبير هو‭:‬ أبو الهول الذي شيده الفراعنة قبل سبعة آلاف سنة قبل الميلاد وواجهتهم الأهرامات وهي المدافن الكبرى للفراعنة على يسار نهر النيل لكنهم لم يتوقفوا طويلا أمام هذه “الأوثان والأصنام‭!‬” الفرعونية بل مضوا إلى مصر داخلين فاتحين ولم يأمر عمرو بن العاص ولا خليفته عمر بن الخطاب في المدينة المنورة بهدم “أبو الهول” ولا أهرامات مصر بل بقيت هذه الآثار الفرعونية سليمة وخالدة طوال حكم المسلمين الذي امتد 1400 سنة في مصر‭!!‬

والسؤال‭:‬ لو كانت تماثيل أبي الهول والأهرامات في نظر الخليفة عمر بن الخطاب وهو المعروف بتطرفه والتمسك الشديد بسنة نبيه، بل وفي مرات كثيرة خالف ومنع ما أباحته السنة، لأن عمر وجدها تتناقض مع مضمون القرآن الكريم وعدّها من البدع وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار‭..‬ لو كان عمر بن الخطاب الذي منع زواج المتعة وحرق الشجرة التي وقف عندها النبي صلى الله عليه وسلم خشية على المسلمين من الشركيات والبدع، لو كان يعرف أن أبا الهول والأهرامات “أوثان وأصنام” لأمر عمرو بن العاص بهدمها من دون تردد لكن الرجل لم “يتحرش” أو “يصطدم” بآثار المصريين وحضارتهم الفرعونية، فأين أبو بكر البغدادي من فقه عمر بن الخطاب وموقفه الإسلامي النبيل من الآثار والشواهد الحضارية في مصر أو في العراق أو في بلاد فارس التي فتحت في عهده‭!!‬

إن عناصر داعش يكذبون ويزوّرون التاريخ ويسيئون إساءات بالغة للإسلام من موقفه من حضارات العالم، فقد فتح المسلمون بلاد الهند والسند وفيها تماثيل جبارة ضخمة لآلهة أهل الهند فلم يأمر أيّ قائد مسلم أصحابه بتدميرها وبقيت التماثيل على حالها‭!‬

هل أسست الدولة الإسلامية بصورتها النهائية وحققت أهدافها الاجتماعية وأنقذت المسلمين من الفقر والعوز وشيدت لهم البيوت والدور وناطحات السحاب والأسواق وجلبت لهم الرفاهية لكي تنشغل داعش بهدم التماثيل وتحطيم المنجزات الحضارية لأهل العراق؟‭!‬

تصرف داعش مقصود وهو تقديم إساءات مجانية للإسلام نفسه، فتتلقفها بعض المنظمات اليهودية والنصرانية المسيسة للترويج عبر وسائلها الإعلامية المختلفة لتبشيع صورة الإسلام‭!‬

إن حرب داعش تمثل ذروة الحرب الإسلامية– الإسلامية التي أرادتها أوروبا لإبعاد “شرور‭!‬” الإسلام “المتطرف” عن شواطئها ومدنها وحواضرها وأبقت الحرب ونيرانها وشواظها في “دار الإسلام”‭!‬

كاتب‭ ‬من‭ ‬العراق

تحطيم‭ ‬الآثار مجرد‭ ‬علاقات‭ ‬عامة

‮ عبدالله‭ ‬المزهر

صحيح أن منظر الدواعش وهم يحطمون الآثار في متاحف العراق منظر مستفز، لكن الصحيح أيضاً أنه تصرف نجد “حولنا” كثيرا ممن يؤيده ويتفق معه، ولا يجد في ذلك التصرف أيّ مشكلة تستحق التأمّل من الأساس، والصحيح أنه ليس تصرفاً ينم عن جهل الدواعش، فقد مر على العراق قبل داعش خوارج ومتنطّعون وملل ونحل من كل شكل ولون، ولم يفكروا في تحطيم التماثيل التي كانت موجودة، الدواعش يفعلون ذلك من أجل الاستفزاز والتحفيز، والاستفزاز أحد الوسائل التي تمارسها داعش ليسمع العالم صوتها القبيح، أي أنّه تصرف يمكن تسميته “علاقات عامة” على الطريقة الداعشية، فهو يجذب لها الكثير من الأتباع الذين تغريهم مثل هذه التصرفات، التي يرون فيها شيئاً يشبع نهمهم وشغفهم أكثر ممّا يفعل طمس الصور في اللوحات الإعلانية، والذي لم يعد يكفيهم للانتشاء‭.‬

هذا فيما يخص بني داعش، أما الجانب الآخر ففي الحقيقة أنه لم تبق في العراق آثار من الأساس لتدمّر، فقد سرقها المحتلون، بكافة أشكالهم وألوانهم، قبل أن تأتي داعش، وما لم تنله يد أولئك اللصوص “المحررون” نالته يد لصوص الآثار المتنكرين على هيئة سياسيين ووطنيين عراقيين، والذين وجدوا في العراق كنزاً سهل المنال‭.‬

الأمر الأكثر سوءا والأكثر استفزازا هو أن منظر الدواعش وهم يحطمون الآثار بفؤوسهم سيلفت انتباه العالم “المتحضر” ويثير غضبه واستياءه أكثر مما لفت انتباهه وأثار استياءه منظر الدواعش وهم يقتلون البشر، وأكثر مما أغضبته براميل بشار التي تسقط على رؤوس أناس حقيقيين، سيغضب هذا العالم المتحضر لتحطيم تلك الآثار، وهو غضب لم يكن له مبرر تجاه العدد الذي لا يحصى من الميليشيات الطائفية التي تثقب رؤوس الناس “بالدريل” أو تدفنهم أحياء.

كاتب‭ ‬من‭ ‬السعودية

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.