محمد حَقي صوتشين أدب عربي بالتركية
عندما فكَّرتُ في إجراء حوار مع أبرز المثقفين الأتراك لم يكن في ذهني وكلّ مَن سألت سوى محمّد حَقي صوتشين (Mehmet Hakkı Suçin)؛ الأكاديمي والأستاذ بجامعة غازي في أنقرة. كل أسباب الترشيح انحصرت في أنه يعمل بجدّ وتفان ومثابرة، على مدّ جسور التقارب بين الثقافتيْن التركية والعربية، دون مبالاة بحالة المدّ والجذب التي تمرُّ بها العلاقات العربية التركية في الفترة الأخيرة. ومن ثمَّ لم يكن بديلا لاستضافته كي يطل على مجلة “الجديد” للقارئ العربي.
حاولت أن أتمهل قليلا خاصّة في ظلّ تصاعد التوترات السّياسيّة المحتقنة بين الطرفين. لكنه لم يمهلني هذه الرّاحة أو تلك الدّعَة التي ابتغيتها لنفسي لتأمّل ما ستسفر عنه الأحداث الآخذة في التصعيد والتأزّم. فقد فاجأ الجميع وسط حالة من الحذر والترقُّب من قبل مثقفي الجانبين، بالوقوف على الضفة الهادئة من النهر في انتظار ما سيحدث في الغد، فاجأ الجميع وأخرج مجلة “شرفة” (Balkon)، وهي أوّل مجلة تجمع بين دفتيها نصوصا من اللغتيْن العربيّة والتركيّة. وكأنّ الرَّجُلَ يُراهن على تأثير القوى الناعمة التي فقدت دورها في الكثير من بلدان العالم، في أن تلعب دورا إيجابيّا بعيدا عن السياسة. وبالفعل احتوى العدد الأوّل من المجلة نصوصا لشعراء وقصاصين عرب، وفي المقابل ضمّ نصوصا لأدباء أتراك، على تنوّع إبداعهم الشعري والقصصي، جاءت المجلة كخطوة أولى لمدّ خيوط التعارف والتواصل بين الثقافتيْن.
كان توقيت صدور المجلة بمثابة الحجر الذي أُلْقِي في بحيرة آسنة تترقب الغد المحمّل بغيوم وسحابات لا أحد يعلم أين ستهطل، أو إلى أين ستجرف الرياح وَدْقَها؟ لم يمضِ وقت كثير على صدور العدد الأوّل من المجلة حتى انقطع خيط كان ممدودا على استحياء بين الثقافتيْن بعدما قطعت السياسة جسور التواصل، متمثلا في الدراما التركية، حيث كانت نافذة يطِلُّ منها الأتراك على أشقائهم العرب في منازلهم، وإن كانت نافذة تَغْلُبُ عليها صورة مشوّهة بعض الشيء، فقد أصدر مالك قناة “أم.بي.سي” (MBC) قرارا بمنع عرض المسلسلات التركية. هنا كانت الحاجة مُلِحَّة للحوار أكثر ممّا مَضى، فالنوافذ المفتوحة تُغلق بالتدريج، ولم يعد ثمّة أمل سوى شُرَّاعَة الثقافة لينفذ منها الضوء، وكذلك التعلُّق بأحلام الدور الذي تلعبه، مجلة “شُرفة” (Balkon) التي يُشرف عليها محمد حقي صوتشين.
الجديد: لفتت انتباهي جملة قلتها في أحد اللقاءات مع التلفزيون التركيّ مفادها “أنا لم أختر اللغة العربية، اللغة العربية هي التي اختارتني” إن كانت ترجمتي لنص مقولتك سليمة. كيف حدث هذا؟ وما الدوافع التي جعلتك تواصل في دراسة اللغة العربية؟
صوتشين: أشكركم على هذه الدعوة الكريمة إلى مجلة “الجديد” التي لها إسهام بارز في تعميق القضايا الثقافية والفكرية والفنية وغيرها من المجالات التي تهم علاقة العرب بالعالم والعكس. أما مقولة “اللغة العربية هي التي اختارتني”، فقلتُها لتأكيدي على أن اختياري للغة العربية لم يكن اختيارا قصديا. فبعد دخولي قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة أنقرة، كنت أفكر في تغيير التخصص. لم أتوقع أن أولع باللغة العربية وآدابها. لكن بعد مرور سنة من الدراسة أرغمتني الظروف على مواصلة دراستي، وهو ما زاد في حبي لهذه اللغة وشغفي بأدبها.
الجديد: ما الحافز الذي وجدته في اللغة العربية، وجعلك تواصل دراستك الأكاديمية فيها، مع أنك ذكرت أنّها كانت في آخر قائمة الترشيحات في الجامعة؟
صوتشين: الحافز الأهم كان قراءاتي للأدب العربي من خلال ترجمات تركية في البداية. قرأتُ بعض الأعمال لجبران خليل جبران ونجيب محفوظ. كانت معرفة متواضعة لكنها شجعتني على مواصلة دراستي لأتعلّم اللغة العربية. في الجامعة كنّا نتلقى موادّ عن الأدب العربي بكل فروعه من شعر وقصة قصيرة ومسرحية. وكلما خضتُ في هذا المجال كلما أحببته.
الجديد: وفق المعلومات التي بين يديّ فإنّ أوّل عمل قرأته باللغة العربية، عندما كنت طالبا، كان في مكتبة كلية اللغات والتاريخ والجغرافيا، وهو قصيدة الشاعر السوري علي أحمد سعيد (أدونيس) “شهوة تتقدم في خرائط المادة” وكانت منشورة في مجلة “فكر وفن” الصادرة من ألمانيا. في ذهني سؤالان، الأول: أن علاقتكم باللغة العربية كانت محدودة، كيف استقبلتَ شعر أدونيس في هذه الفترة المبكِّرة، والمعروف عن أدونيس في العربية أنه واحد من أهم شعراء الحداثة العرب؟
صوتشين: هذا ما جرى بالضبط، لكن بتعديل بسيط، إنه سبق لي قراءة نصوص أخرى قصيرة كمادة دراسية. لكن هذه المرة كلفتُ نفسي بقراءة هذه القصيدة الطويلة. كانت تحديا بالنسبة إليّ. كنت أقطن في سكن الطلاب آنذاك ومعنا بعض الطلبة من السودان. استفدت منهم كثيرا في فكّ العبارات، على الأقل، ومعرفة بعض المفردات التي لم أعثر عليها في القاموس. كانت ظروف التوصل إلى مصادر باللغة العربية محدودة في تلك الفترة.
مرت حركة الترجمة الأدبية إلى اللغة التركية عبر محطتين بارزتين، أولاهما بعد تأسيس “غرفة الترجمة” عام 1832 في العهد العثماني، والثانية بعد تأسيس “مكتب الترجمة” عام 1940 بعد 17 سنة من تأسيس الجمهورية التركية
المكتبة غنية بكتب التراث لكن قلّما نجد كتبا للأدب العربي المعاصر. لذلك كنت أنتهز فرصة اشتراك المكتبة في مجلة “فكر وفن” للاطلاع على نصوص معاصرة من الأدب العربي. أول ما واجهتُ نص أدونيس شعرتُ بأنني أمام شيء مختلف غير ذلك الذي درسناه من الشعر العربي القديم. وجدت لغة قريبة من النثر وتصميما مختلفا للنص الشعري. هذا الشعر وغيره جعلني أسعى وراء تشفير رموز النص. كنت أستعين ببعض العرب لكن معظمهم أيضا أبدوا عدم فهمهم للنص. بعد ذلك حاولت ترجمة النص متحديا نفسي، وهادفاً إلى تطوير مهاراتي في تعلّم اللغة العربية.
الجديد: في ظني أن ثمّة “حركية معرفيّة” إنْ جاز التوصيف، فبعد أدونيس ثمّ جبران خليل جبران، في “الأرواح المتمرّدة” التي كانت مشروعا لليسانس عام 1993، ذهبت في الماجستير إلى يحيى حقي، ودراسة “الأدب القصصي عند يحيى حقي” ألا ترى أن ثمّة تباينا ما، فواحد من رُعاة الكلاسيكية في الأدب، والثاني من شعراء الحداثة، استهدف بشعره ونقده تقويض الكلاسيكية بمعول الحداثة، كيف استطعتَ تجاوز هذه الفجوة في الأسلوبين؟
صوتشين: في الواقع لم تكن عندي خلفية قوية آنذاك عن اتجاهات الأدب العربي بصورة دقيقة. لم تتوفر لدينا كتب إبداعية من شعر ونثر معاصرين، لذلك كنت أقرأ كل ما يقع تحت يدي. أدونيس كان محض صدفة عندما وجدت قصيدته في مجلة “فكر وفن” في مكتبة الجامعة. جبران بدأت قراءته بالتركية ثم حصلت على نسخة مصورة من الأعمال العربية الكاملة من أحد أساتذتي. من هنا بدأ اختياري لجبران كمشروع بحث في الليسانس. وفي هذا الإطار ترجمتُ مجموعته القصصية “الأرواح المتمرّدة” إلى التركية، وقدمت دراسة لأعماله وفلسفته. أما علاقتي مع يحيى حقي فقد قرأت عنه مقالا باللغة الإنكليزية للناقد صبري حافظ، عرفت من خلاله أن يحيى حقي له دور خطير في إنشاء القصة العربية بمعناها المعاصر فاخترت أدبه القصصي موضوعا لرسالة الماجستير.
المغامرة مع يحيى حقي
الجديد: قمت بترجمة قنديل أم هاشم لحقي في عام 1998، أود أن أسأل بحكم علاقتي باللغة التركية، فهي تعتمد على اللغة الفصحى، في حين الكتابة العربية تزاوج بين العامية والفصحى كيف تغلبت على العامية الموجودة في قنديل أم هاشم، علما بأنّ من جماليات نص حقي المزواجة بين الفصحى والعامية؟!
صوتشين: تتسم هذه الأقصوصة بالأسلوب الواقعي والرمزي في آن واحد. هذا المزج الماهر للواقعية والرمزية من خلال العامل الروحاني والصوفي منح الأقصوصة حيوية وحركية وإيقاعا شعريا جميلا. كما أن وصفه للأحداث والأماكن يُشعرك بأنك أمام رسام يرسم لوحته، فضلا عن تميز أسلوبه بالفكاهة والطرافة، واستخدامه للعامية استخداما راقيا كما يشير إليه في بعض كتاباته. طبعا كل ذلك يشكل تحديات أمام المترجم أثناء الترجمة.
لا يبالغ يحيى حقي في استخدام العامية لكن يستخدمها استخداما وظيفيا، أي أن هذا الاستخدام يضفي طابع المحلية على النص مما يجعل المترجم يواجه تحديات ثقافية أثناء الترجمة. في هذه الحالات تبنّيتُ استراتيجية “التدجين” أي إخضاع النص للقيم الثقافية السائدة في اللغة الهدف من أجل التخفيف من غرابة النص الهدف. يجب أن يكون المترجم واعيا بطبيعة العامية المستخدمة في النص عند ترجمتها إلى اللغة التركية. إذ أن الازدواجية اللغوية من خصائص اللغة العربية على عكس اللغة التركية التي تعتبر فيها لغتا الكتابة والحديث متقاربتين. لذلك ليس حلا عمليا أن نترجم كل لفظ عامي عربي إلى العامية في اللغة التركية، اللهم إلا إذا كان للعامية خصوصية وظيفية معينة.
الفصحى والعامية
الجديد: فكرة العامية والفصحى تطرح سؤالا، أعلم أنكم من المتشددين في تدريس اللهجات في الصفوف الجامعية؟ برأيك ما جدواها؟ وما أخطارها على اللغة الفصحى خاصة للمبتدئين؟
صوتشين: للأسف هذه مسألة تم تسييسها عربيا. هناك مَن هو مع العامية ومَن هو ضدها. لكن واقع الأمر ليس بهذه البساطة. فالازدواجية اللغوية في اللغة العربية مسألة سوسيولسانية، شأنها شأن جميع لغات العالم على الرغم من أن المسافة بين بعض العاميات والفصحى شاسعة. يجب على متعلّم اللغة العربية أن يعي هذه الحقيقة أولا، كي لا يصاب بخيبة الأمل في ما بعدُ، عندما لا يستطيع التواصل مع الناس الحقيقيين في الشارع.
حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب في 1998 نقطة تحول في ترجمة الأدب العربي إلى التركية. والأمر نفسه ينسحب على ترجمة الأدب التركي إلى العربية بعد فوز أورهان باموك بهذه الجائزة عام 2006
أنا لا أدافع عن تعليم إحدى العاميات العربية الشائعة على حساب الفصحى. إنما أدافع عن تبني موقف متوازن بين اللغة الكتابية أي الفصحى واللغة المحكية اليومية أي العامية. لأن الإنسان العربي في الغالب عندما يكتب يكتب بالفصحى وعندما يتحدث يتحدث بالعامية. هذا هو واقع هذه اللغة.
لذلك يجب أن تتضمن مناهج اللغة العربية للناطقين بغيرها مقاربات متكاملة تجعل الطالب متمكنا من اللغة العربية الفصحى قراءة وكتابة وحديثا في السياقات الرسمية، فضلا عن تمكنه من استيعاب وفهم إحدى اللهجات العربية الشائعة على الأقل. هناك نماذج تكاملية ناجحة في أميركا، لكن برامج اللغة العربية في تركيا على الرغم من أنها تدرّس العاميات لكنها ليست ضمن عمل مبرمج متكامل.
مغامرة الترجمة
الجديد: ذكرت في دراسة لكَ أنّ حركة الترجمة في تركيا في بدايتها أَوْلَت عناية بالترجمة عن الفرنسية. سؤالي لماذا الفرنسية تحديدا؟ على الرغم من أن صلة الدولة العثمانية بالعرب كانت أقرب وأقوى، وصلة تركيا بالإسلام أقدم وأمتن؟ ثم متى بدأ الاهتمام بترجمة الأدب العربي؟ وما أهم الأنواع التي شغلت المترجمين؟
صوتشين: مرت حركة الترجمة الأدبية إلى اللغة التركية عبر محطتين بارزتين، أولاهما بعد تأسيس “غرفة الترجمة” عام 1832 في العهد العثماني، والثانية بعد تأسيس “مكتب الترجمة” عام 1940 بعد 17 سنة من تأسيس الجمهورية التركية. نظرا إلى كون الأدب الفرنسي أدبا ثريا في أجناس أدبية جديدة من رواية ومسرح ونصوص إبداعية لم تكن موجودة بالمعنى الغربي، فقد انفتحت عليه الآداب المعاصرة الناشئة بما فيها الأدبين العثماني (التركي) والعربي. فالإنتاج الأدبي كان لدى الغرب وبخاصة في اللغة الفرنسية، لذلك كان من الطبيعي أن يكون الأدب التركي كأدب ناشئ في موقع المستهلك والمستورد بدلا من المنتِج والمصدّر. والأمر نفسه ينسحب على كل الآداب الناشئة التي تعرفت على الأنواع الأدبية المعاصرة عن طريق “تكييف” الأعمال في البداية لتتأقلم البيئة الجديدة مع الأنواع الأدبية الجديدة، ثم ترجمتها بمعناها الحقيقي في فترة لاحقة.
في فترة “التكييف” أي فترة غرفة الترجمة تم نقل ثلاثة أجناس أدبية إلى اللغة التركية وهي الشعر الغربي والحوار الفلسفي والرواية. لكن بعد عشرين سنة تقريبا من تأسيس الجمهورية التركية اتخذت حركة الترجمة إلى اللغة التركية طابعا منظَّما ومبرمجا، حيث تمت ترجمة ألف عمل أدبي حتى عام 1967 بينها أعمال من الكلاسيكيات العربية والإسلامية التي تعود ترجمتها إلى التركية إلى وقت مبكر قبل هذه الحركة ولو بشكل خجول.
الجديد: المتابع لحركة الترجمة بين العربية والتركية، يجد أن العربية منفتحة على التركية، والعكس هو الرّائج بالنسبة إلى التركية إلّا في أضيق الحدود. هل تفسير هذا راجع إلى استمرار حالة الاستعلاء التي كانت سائدة في الماضي وفقا للمقولة القديمة “إن الشرق ثري بمشكلاته السياسية والاجتماعية” ومن ثم كان النأي عن علومه وفلسفته وآدابه فيما مضى؟
صوتشين: لا أظن أن حركة الترجمة إلى العربية أكثر انفتاحا منها إلى التركية، على الرغم من زيادة الترجمات من التركية إلى العربية في السنوات الأخيرة. إذا ألقينا نظرة سريعة على حركة الترجمة الأدبية من العربية إلى التركية، نرى أنها تمت اعتبارا من القرن الثالث عشر إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ترجمة أطواق الذهب للزمخشري، وسيرة عنترة بن شدّاد تحت عنوان “عنترنامة”، وكتاب “كليلة ودمنة”، و”سلوان المطاع″ للصّقلي، و”مقامات الحريري”، و”ألف ليلة وليلة”، و”وفيات الأعيان” لابن خلّيكان. هذا بالإضافة إلى أعمال فلسفية ودينية بكل فروعها. إذن لا يمكن أن نغض النظر عن هذه الترجمات. لكن الترجمة الحقيقية والمنهجية من العربية جرت بعد تأسيس “مكتب الترجمة” في عهد الجمهورية التركية، حيث تمت ترجمة أمهات الكتب الكلاسيكية الفلسفية والأدبية وحتى الدينية والصوفية من العربية إلى التركية.
كليلة ودمنة
الجديد: كيف تفسّر تعدُّد الترجمة لكتاب واحد إلى أكثر من مرة، فمثلا “كليلة ودمنة” تمت ترجمته إلى التركية أكثر من 28 مرة؟ وبالمثل هناك خمس ترجمات لكتاب “حي بن يقظان” لابن طفيل؟
صوتشين: أجل، هذا تفسير جيد لعدم انغلاق اللغة التركية عن الترجمة من العربية على عكس الفكرة السائدة. نلاحظ ترجمات عديدة لـ “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة” وأعمال أخرى، بعضها مختارات وبعضها نصوص كاملة تُرجمت من لغات وسيطة أو من اللغة العربية مباشرة. أما كتاب “حي بن يقظان” لابن طفيل، فله قصة أخرى. فقد ترجمه المترجم “بابانْ زاده رَشيد” إلى اللغة التركية (العثمانية) عام 1923. بعد ذلك اعتبارا من الثمانينات صدرت طبعات مختلفة لهذه الترجمة بعد تبسيطها ونقلها إلى تركية جمهورية تركيا. وحاليا أنا بصدد ترجمة هذا العمل من جديد. بعد إنجاز العمل ستكون بمثابة أول ترجمة إلى اللغة التركية المعاصرة.
طه حسين ومعاصروه
الجديد: لديّ سؤال يُحيرني، طه حسين المعروف عنه بأنه “عميد الأدب العربي”، وصاحب الأفكار الثورية لم يُترجم له سوى عملين؟ في حين أن بعض الشعراء المصريين ممن ينتمون إلى الجيل الجديد يسبقه بثلاثة أعمال مترجمة إلى التركية؟ هل أفكار طه حسين غير رائجة في الأوساط الثقافية بصفة عامة؟
صوتشين: صدر كتاب “الأيام” لطه حسين بالتركية عبر الفرنسية عام 1994. بعد ذلك صدرت له ترجمتان مختلفتان لرواية “الوعد الحق” من العربية مباشرة، إحداهما عام 2004 والثانية عام 2009. كما صدرت له ترجمة “في الشعر الجاهلي” بالتركية قبل ست سنوات تقريبا. كما تلاحظون إن كل الترجمات جرت في وقت متأخر إذا أخذنا بعين الاعتبار ترجمة “الأيام” إلى الإنكليزية عام 1932 ثم إعادة ترجمتها عام 1943. أما الشق الثاني من سؤالك، فهناك عدد من الأسباب وراءه، يأتي في صدارتها عدم توفر معلومات دقيقة عن الأدب العربي بشكل عام، والمصري بشكل خاص، اللهم إلا بعض أسماء معروفة عالميا مثل نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وبهاء طاهر ويوسف زيدان وعلاء الأسواني. هؤلاء الأدباء نشرت أعمالهم من قبل دور نشر جيدة. لكن للأسف معظمها مترجمة عبر لغة وسيطة وليس من العربية مباشرة. من الغريب أن شعراء بحجم صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وأمل دنقل، على سبيل المثال لا الحصر، لم تُترجَم كتبهم إلى حد الآن إلى اللغة التركية. هذا يعني أن العرب والأتراك لا يعرفون بعضهما بعضا أدبيا حق المعرفة.
المترجمة الأنثى
الجديد: بخصوص الترجمة عن العربية إلى التركية أوردت قائمة في أحد أبحاثكم المنشورة ضمن كتاب مجلة “العربي” “الثقافة العربية على طريق الحرير” ضمت أسماء كبيرة حَوَالي 48 اسما، ما بين مترجمين احترافيين وأكاديمين. فقط احتوت القائمة على 6 أسماء لمترجمات، نصيب الواحدة منهن لم يزد في أكثره على أربعة أعمال مقارنة بالرجال! بِمَ تفسّر تقلُّص دور المرأة في مغامرة الترجمة؟
صوتشين: الوضع أسوأ مما ذكرت للأسف. لأن مترجمة واحدة فقط ترجمت من العربية مباشرة من بين الأسماء الستة التي ذكرتها. في حين أن الترجمات الأخرى لنصوص من الأدب العربي، تمت عبر لغة وسيطة وهي اللغة الإنكليزية. فمجتمع الترجمة بين الأدبين العربي والتركي ذكوري على غرار المجتمعين العربي والتركي. لكن من دواعي السعادة أن هناك مترجمات ناشئات بدأن يخضن في مجال الترجمة وسيرسخن دورهن في هذا المجال في السنوات المقبلة. أنا شخصيا أبذل قصارى جهدي كي يخوض الشباب والشابات في مجال الترجمة، سواء على مستوى تنقيح ترجماتهم وتوصيلها إلى دور النشر والتعريف بها في المحافل الثقافية. وفي هذا الصدد أرى أن تنظيم وُرَش الترجمة لها دور مهم في اكتشاف أسماء جديدة وإمكانية لقاء المترجمين المحترفين مع المترجمين الناشئين.
الجديد: صدرت مؤخرا ترجمتكم لكتاب “طوق الحمامة” لابن حزم. وقد نقله إلى التركية مترجمون آخرون. ما هي الإضافة في ترجمتكم؟
صوتشين: نشرت أول ترجمة لطوق الحمامة عام 1985 من الفرنسية. والترجمة الثانية ظهرت بعد عشرين سنة من نشر هذه الترجمة ومن العربية مباشرة. والترجمات الأخرى نشرت خلال السنتين الماضيتين. في الواقع لست أنا الذي اقترحت على الناشر ترجمة هذا العمل؛ الناشر هو الذي اقترح عليّ ترجمة هذا الكتاب بواسطة صديقي الشاعر عمر أرديم. بما أنه ناشر كبير هذا يعني أن هناك رغبة في ترجمات جديدة. وإلا لماذا يطلب ترجمة العمل ويُخرجه إخراجا راقيا ملوّنا مصاحبا بلوحات الفنان التشكيلي البحريني إبراهيم بوسعد؟ كما أن لكل مترجم قراءه، مثله مثل الكاتب. وقد نتج عن ترجماتي من الأدب العربي، أن صار لديّ جمهور لا يستهان به يتابع ما أنشره من تأليف أو ترجمة. وقد لقيت هذه الترجمة اهتماما جيدا من القرّاء الأتراك على الرغم من أنها نشرت قبل فترة قصيرة.
محفوظ وباموق
الجديد: هل كان لحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب 1988، دور في تغيير الاتجاه في ترجمة الأدب الحديث بعدما كان الاهتمام منصبا على ترجمة الكتب التراثية؟
صوتشين: نعم، هذا صحيح. فحصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للأدب في 1998 نقطة تحول في ترجمة الأدب العربي إلى التركية. والأمر نفسه ينسحب على ترجمة الأدب التركي إلى العربية بعد فوز أورهان باموك بهذه الجائزة عام 2006. أظن أن هذا أمر طبيعي. لجائزة نوبل مثل هذا الدور الإيجابي حيث تجذب انتباه العالَم إلى أدب الذي فاز بهذه الجائزة. قبل ذلك تُرجمت أعمال جورجي زيدان ونجيب الكيلاني من قِبل أكثر من مترجم واحد وطبعت مرات عديدة. وهي أعمال ذات طابع تاريخي أو ديني نشرتها دور نشر محافظة. يبدو أنه كان ثمة إقبال كبير على مثل هذه الروايات في تلك الفترة بحكم نشر أكثر من ترجمة للرواية الواحدة مع طبعات عديدة لها.
المصادفة والعشوائية
الجديد: كيف حدث هذا في ظل حكومات علمانية؟ وهو ما يدفعنا إلى السؤال: مَن المتحكم في سوق الترجمة الآن؟ وكيف يتم اختيار النصوص المترجمة إلى التركية؟ هل هناك آليات معنية تتحكم في الاختيار؟
صوتشين: علمانية الدولة لا تمنع نشر مثل هذه الروايات الدينية. بالعكس الجو العلماني الحقيقي يخلق نوعا من الحرية لنشر كل الأنواع الأدبية والفنية والفكرية مهما كانت اتجاهاتها الأيديولوجية. بالنسبة إلى آليات سوق الترجمة فهي ممنهجة إلى حد كبير بالنسبة إلى الآداب الغربية، لأن الكتّاب الغربيين لهم وكالات حقوق التأليف تمثّلهم وتقوم بالتعريف بهم وتتواصل مع دور نشر العالَم للترويج لهم، بخلاف معظم كتّاب الأدب العربي، فيعرفهم الناشر التركي إذا كان لهم صيت في الغرب أو إذا سبق أن ترجمت أعمالهم إلى إحدى اللغات الأوروبية. أما أعمال بقية الكتّاب فاختيارها يجري بطريقة غير ممنهجة، وكثيرا ما يتم ذلك من خلال اقتراح المترجم أو أحد المعارف الذي له إلمام بالأدب العربي. نعرف أن كبار الناشرين في تركيا يوظفون محرّرين لهم معرفة جيدة بالآداب الغربية. أما الآداب الشرقية والأفريقية فالاختيار عادة لم يكن منهجيا وربما يجري بالمصادفة أو بصورة عشوائية.
الجديد: ألم تلاحظ أن معظم الترجمات من العربية إلى التركية، على سبيل المثال أعمال جبران، ومحفوظ، جاءت عبر لغة وسيطة هي الإنكليزية! مع الأسف الأمر متكرّر الآن، فقد ترجمت موخرا رواية “الطابور” لبسمة عبدالعزيز، بواسطة نيل تونا وقد جاءت عن الإنكليزية أيضا؟ كيف؟
صوتشين: كلامك صحيح بالنسبة إلى معظم أعمال هؤلاء الكتّاب لكن هناك أيضا ترجمات تمت من اللغة العربية مباشرة، مثل تلك الترجمات التي قام بها أستاذي المستعرب الكبير رحمي أر، والدكتور حسين يازيجي، والدكتور بدرالدين آيتاتش وغيرهم من الأكاديميين، لكن عددها قليل. أما بالنسبة إلى رواية بسمة عبدالعزيز فخطأ من الناشر، لو استفسرنا لوجّهنا إليه مَن يترجم الرواية. إذ هناك جيل ناشئ من الأكاديميين الشبان بدأوا يترجمون وبإتقان، وخاصة في مجال السرد.
الجديد: السؤال الآخر: أين أساتذة اللغة العربية في الجامعة التركية من الترجمة؟ أم أن شرائط الترجمة لا تنطبق عليهم؟
صوتشين: كان اهتمام أقسام اللغة العربية قبل عقد من الزمن أو أكثر مركّزا بشكل عام على دراسات الأدب العربي القديم. كانت هناك نظرة شبه مستخفة بمن يقوم بالترجمة، ولم يكن للترجمة أي نصيب في الترقية العلمية. لذلك لم تكن هناك آليات تشجيع فضلا عن سوق الأدب المترجَم في تركيا التي صوبت اهتمامها إلى الآداب الغربية عموما. بعد فترة من الزمن اتجه بعض الأكاديميين وعلى رأسهم الراحل عزمي يوكسيل، ورحمي أر، وحسين يازيجي، وكنعان دمير آياك إلى الأدب العربي المعاصر وأشرفوا على رسائل على مستويي الماجستير والدكتوراه حول الأدب العربي المعاصر. هكذا بدأ التعامل مع الأدب الحديث شيئا فشيئا وترجمته إلى اللغة التركية.
هناك نقطة أخرى تثير استغرابي وهو أن تدريس اللغة العربية في تركيا يتم عادة من خلال ممارسات لغوية قائمة على القواعد والترجمة بدلا من ممارسات لغوية تعتمد على أساليب تواصلية. على الرغم من ذلك لم تنعكس هذه الممارسات على ساحة الترجمة الأدبية.
ترجمة الشعر
الجديد: ألم يلفت انتباهكم أن الشعر تراجعت ترجمته في الفترة الأخيرة، مقارنة بالستينات والسبعينات، حيث كانت أعمال ناظم حكمت ومحمد عاكف ثم أورهان ولي هي المتصدرة؟ الآن، لا وجود للشعر إلا نادرا، فقط هيمنة الرواية، أليف شفق وأورهان باموق، أكاد أجزم بأن أكثر من 90 بالمئة من أعمالهما ترجمت إلى العربية، بعضها عن التركية مباشرة بفضل القدير الرَّاحِل عبدالقادر عبداللي، ومحمد درويش وخالد جبيلي، والأخيران عن الإنكليزية؟
صوتشين: في الواقع لا يمكن أن نقول إنه كان هناك إقبال للشعر التركي ثم تراجع هذا الإقبال. كان ناظم حكمت حالة استثنائية لكونه ثوريا من الناحيتين الأيديولوجية والشعرية، ولقضائه معظم حياته في السجون والمنفى. على الرغم من ذلك لم يتنازل عن تفاؤله ورومانسيته أبدا مما جعله شخصية أسطورية للجغرافيا المضطهدة شرقا وغربا. نُشرت أول ترجمة لناظم حكمت إلى العربية عام 1952، وهي مختارات من شعره صدرت في القاهرة تحت عنوان “مِن شِعر ناظم حكمت”.
والترجمة الثانية التي تحمل عنوان “أغنيات المنفى” نشرت في القاهرة عام 1971. هاتان الترجمتان جرتا عبر اللغة الفرنسية. لم تُنشر ترجمة عربية من التركية مباشرة إلا في 1982 في ستة مجلدات ذات قطع صغيرة نشرت في بيروت بترجمة فاضل لقمان. كل هذه الترجمات لها مشاكلها، لا مجال لذكرها هنا. أورهان وَلي مترجم كما تفضلت، بجهود المترجم الكبير عبدالقادر عبداللي. لهذا الشاعر دور لا يستهان به في تحطيم بعض قيود الشعر التركي لكنه حالة مؤقتة في الأربعينات. التيار المسمى بـ”الجيل الثاني” هو الذي كان وما زال له تأثير عميق على تطور الشعر التركي منذ الخمسينات إلى يومنا هذا. أقصد الشعراء: إلهان بَرْك، أديب جانْسفير، إيجه آيهان، جمال ثريا، تورغوت أويار، أولكو تامير، سيزائي كراكوتش، وغُولتان آكين. لم يترجم إلى العربية أي ديوان شعري لهؤلاء إلا ديوان لسيزائي كراكوتش. هناك فراغ مهم في هذا المجال أيضا.
هيمنة الرواية
الجديد: ما السبب في هيمنة الرواية على الترجمة؟ هل هذا مرتبط بالجمهور، أم بالجوائز؟
صوتشين: هذا أمر طبيعي. فالرواية لها جمهور كبير ليس في منطقتنا فقط بل في كلّ العالم. ومن الطبيعي أن يقوم الناشرون بتغطية هذا العرض. للجوائز أيضا دور مهم عند اختيار العمل للترجمة. لو لم ينل نجيب محفوظ جائزة نوبل هل كان مترجَما بهذه الضخامة؟ لا أظن. كما أن يوسف زيدان وبهاء طاهر وسعود السنعوسي تُرجموا بعد حصولهم على جائزة البوكر العربية.
الجديد: تعدّدت محاولتكم في الترجمة بين الشعر والرواية والكتب النثرية؟ في رأيك أي من هذه الأعمال تقابلها معوقات أثناء الترجمة، وكيف يمكن التغلب عليها؟
صوتشين: في هذه المحاولات كلها أكون بصدد ترجمة أعمال أدبية سواء كانت شعرا أو نثرا أو سردا. العمل الأدبي يتسم بالتميز والخصوصية والأسلوب المختلف للنص. وهذا يفرض على المترجم أن يحاكي خصوصية النص المصدر ويبدعها بنفس الخصوصية أو بتأثير مماثل في النص الهدف. لذلك كل ترجمة لها مشاكلها وتحدياتها وصعوباتها الخاصة بها ربما دون غيرها.
لا داعي لأن أقول أن معرفة اللغتين المصدر والهدف لا تكفي في الترجمة. على المترجم أن يكون قارئا نهما للأدب، وقادرا على الإبداع وإنتاج النصوص في اللغة الهدف. وهو كاتب لكن ليس كاتبا حرّا في كتابته، فإبداعه مقيّد بإبداع النص الأصلي.
الجديد: اشتركتم في تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة باسم “جائزة البوكر العربية” في دورة 2014، ما المعايير التي تحتكم إليها لجان التحكيم؟ ولماذا نتائجها دائما مخيبة لآمال الكثيرين، على العكس من البوكر البريطانية؟
صوتشين: في البداية بحَثْنا عن سبل تكوين معايير مشتركة لتقييم الروايات، لكن بعد نقاش توصلنا إلى أن مثل هذه المقاييس يمكن أن يؤدي إلى تسطيح أو تبسيط الأمر، نظرا إلى أننا بصدد أعمال أدبية. لذلك أصبح لكل عضو من أعضاء لجنة التحكيم معاييره وذائقته الخاصة في تقييم الروايات. مع ذلك عندما اجتمعنا لتحديد القائمة الطويلة كانت معظم الروايات في قوائم أعضاء لجنة التحكيم متشابهة. لذلك لم يكن من الصعب المناقشة لاتخاذ قرار حول الروايات المختلف عليها. كانت العملية شفافة ونزيهة بمعنى الكلمة. ومما يشير إلى جودة اختيارنا أن رواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي التي كانت الرواية الفائزة في دورة 2014، اندرجت ضمن القائمة القصيرة لجائزة “مان بوكر” الدولية للأدب هذا العام. وهذا يعني أن النتائج ليست دائما مخيبة للأمل.
مشروع شرفة
الجديد: في نظركم هل يمكن لمجلة “شرفة” التي اصدرتموها مؤخرا في تركيا، أن تكون جسراً بين الأدبين التركي والعربي، وما هي الرهانات عليها؟
صوتشين: مشروع مجلة أدبية باللغتين العربية والتركية كان مشروعا أحلم به منذ زمن بعيد. دعمته وزارة الثقافة التركية لفترة مؤقتة، وقد صدرت ستة أعداد من المجلة. لكن الآن توقفت بسبب انتهاء دعم الوزارة. وتجري الاتصالات مع الوزارة لتدعمها بصورة دائمة وليس لفترة معينة. إذا نجحنا في الحصول على الدعم سنواصل إصدارها مرة أخرى. للأسف لم نجد السبل الكفيلة لتوزيع المجلة في تركيا والعالم العربي، كما أن اختيار المضمون من الأدب التركي لم يكن على المستوى الذي كنت أتوقعه. على كل حال، كانت المجلة ميدانا تدريبيا بالنسبة إلى المترجمين الناشئين. هذا ما كان يهمّني بصفتي محررا للترجمة في المجلة.
صورة العربي
الجديد: هل هناك نظرة تركية غير مرحبة ثقافيّا بالعرب ولا تريد أن تراهم إلَّا لاجئين أو سُيّاحا أو أصحاب أعمال؟
صوتشين: للأسف، الصورة النمطية تجاه “الآخر” موجودة في المجتمعين، لكن لا أظن أنها طابع غالب في النظرة تجاه الآخر. هناك مقولة تركية تقول إن العرب “طعنونا من الخلف”. وهناك مقولة عربية تقول إن “الأتراك هم وراء تخلّفنا”. أعتقد أن المقولتين فيهما تعميم مفرط. لا يمكن أن نجرّد الأحداث التاريخية من سياقها ونقيّم التاريخ على أساس هذه النظرة التعميمية.
وإذا كانت هناك بيننا مشاكل تاريخية علينا أن نواجهها بكل أريحية دون إنكارها أو إخفائها. فمرضُ عالمَيْنا العربي والتركي يتمثل ف أننا إما أن نمجد الأحداث والشخصيات التاريخية، وإما أن نرسلها إلى أسفل السافلين. لكن الحياة ليست هكذا. هناك ألوان فرعية غير الأبيض والأسود. مع ذلك، لا داعي للتشاؤم. ثمة إقبال جيد على الأدب العربي من كل شرائح المجتمع التركي، يمينه ويساره ووسطه. كثيرا ما أتلقى مكالمات هاتفية أو رسائل إلكترونية من دور نشر أو مؤسسات تستفسر عن الأدب العربي والسبل الكفيلة للتعاون مع مؤسسات عربية.
الجديد: في نظرك مَن هم الكُتَّاب العرب المترجمون إلى التركية ويمكن اعتبارهم حققوا مقروئية معقولة؟
صوتشين: يأتي في الصدارة جبران خليل جبران، يليه نجيب محفوظ، أدونيس، محمود درويش، نزار قباني، نوال السعداوي، غسان كنفاني، الطيب صالح، جمال الغيطاني. ومن الأدب العربي الكلاسيكي هناك مقروئية معقولة لكليلة ودمنة، ألف ليلة وليلة، المعلقات السبع، طوق الحمامة لابن حزم، وقصة حي بن يقظان. كلها ترجمت أكثر من مرة وطبعت عشرات المرات.
نسخ قليلة
الجديد: كم نسخة تطبع عادة من الكتاب المترجم عن اللغة العربية: رواية، شعر، فكر؟
صوتشين: هذا يختلف من كاتب إلى آخر، ومن كتاب إلى آخر. عادة ما يُطبع للأسماء التي ذكرتُها حوالي الألفي نسخة من الكتاب على الأقل. لكنها أعداد قليلة عند مقارنتها بآداب أخرى. فمثلا رواية “العمى” لخوسيه ساراماغو بيع منها أكثر من 12 ألف نسخة في موقع “كتابْيُورْدُو” لبيع الكتب إلكترونيا. هناك عشرات المواقع تبيع الكتب إلكترونيا فضلا عن المكتبات الكبيرة والصغيرة في كل أنحاء تركيا. بإمكانك أن تخمن المبيعات الكبيرة لهذا الكتاب. لا يمكن -للأسف- أن نتحدث عن هذه الأرقام بالنسبة إلى الأدب العربي. أظن أن الأمر نفسه صحيح بالنسبة إلى بيع الأدب التركي في العالم العربي.
من الذي يقرأ؟
الجديد: مَن يقرأ الشعر المترجم في تركيا اليوم: أجيال جديدة، أم أجيال قديمة، أم باحثون في الجامعات؟ مَن هو القارئ المقصود؟
صوتشين: هناك جمهور جيد للشعر العربي في تركيا سواء من الأجيال القديمة أو الجديدة ومن كل التيارات السياسية. والباحثون في أقسام اللغة العربية وآدابها هم الأقل قراءة للشعر بشكل عام. أنا أترجم الشعر للشعراء ولجمهور الشعر في كل أنحاء تركيا. لأنهم هم الذين يشجعونني على مواصلة الترجمات. وقد توصلت إلى نتائج جيدة حيث نال “كتاب الحب” لنزار قباني جائزة الترجمة من قبل اتحاد الكتّاب التركي العام الماضي. وكَتَبَت أسماء معروفة من الشعراء والنقاد مثل حيدر أرغولان، يوجيل كاييران، غولتكين أمرة، وزكي قرمزي مقالات تعريفية عن ترجماتي من أدونيس ومحمود درويش ومحمد بنيس وغيرهم من الشعراء العرب، مما يشير إلى اهتمام من البيئة الشعرية للشعر العربي.
الدراما التركية
الجديد: هل توافقني لو قلت لكم أن الدراما التركية هي الجسر بين الثقافتين العربية والتركية وإن كانت قد انقطعت الآن؟ الصورة التي تقدّمها الدراما عن تركيا غير صحيحة؟ هي تقدم دعاية سياحية فقط؟ كيف يمكن للثقافة أن تلعب دورها في الحفاظ على الهوية التركية من هذا التشويه المتعمّد من قبل صُنَّاع الدراما؟
صوتشين: الدراما التركية مزّقت الحواجز النفسية بين المجتمعين التركي والعربي ولعبت دورا إيجابيا في التعريف بتركيا والمجتمع التركي بكل شرائحه للعرب. بدأت هذه المسلسلات مدبلجة باللهجة الشامية مما زاد نجاحها باعتبار التشابه الكبير بين المجتمع التركي والسوري فبدت هذه المسلسلات وكأنها شبه عربية. تم تعريب أسماء أبطال المسلسلات والعبارات الثقافية وحذف مشاهد غير مقبولة في المجتمعات العربية من الدبلجة. كل هذه العملية أثناء الدبلجة جعلت من الدراما التركية تخاطب ذائقة المجتمع العربي. أما بالنسبة إلى مقولة تشويه الهوية التركية، فلا أعتقد ذلك. تلك الأحداث التي تعالجها المسلسلات موجودة بشكل أو بآخر في المجتمع، لكنها ربما حالات استثنائية.
من الطبيعي أن تتناول الدراما تلك الأحداث الاستثنائية لجذب اهتمام المشاهدين. الهوية التركية المعاصرة متعددة الأبعاد. وتتعايش تلك الأبعاد بصورة متناقضة في أحيان كثيرة. فهي قد تجمع بين التدين والصوفية والعلمانية في آن واحد. لذلك لا يمكن أن نتحدث عن هوية تركية نموذجية صافية.
الجديد: في الفترة الأخيرة تمَّت استعادة التاريخ عبر الدراما سواء اتفقنا أو اختلفنا في المعالجات والأمانة العلمية، كـ”العصر العظيم”، و”السلطانة كُوسم”، و”عبدالحميد الثاني”، و”الغازي مصطفى كمال” في “أنت وطني” و”محمد الفاتح”. هل يُعبِّرُ، هذا النزوع نحو ردّ الاعتبار إلى المرحلة العثمانية في تركيا، عن سياسة الدولة أم عن سياسة المجتمع؟
صوتشين: كما قلتُ قبل قليل، هذه المسلسلات لا يمكن أن نعتبرها تاريخا بل هي نوع من الفانتازيا. طبعا فيها حقائق لكن هذه الحقائق تُقدَّم بصيغة العمل الدرامي في حُلّة مختلفة لشد انتباه المشاهد وجعله يتابع المسلسل. وإذا كانت تعتمد على حقائق بحتة لا أظن أن عنصر التشويق سيستمر. ولا ننسى أن هذه المسلسلات التاريخية تأتي في زمن تصعد فيه تيارات دينية وقومية على الصعيدين التركي والعالمي. لذلك هي من نتاج طلب ثنائي من الكيان السياسي أي المنتِج والمجتمع أي المستهلك. مع ذلك كله، أعتقد أن لها جوانب إيجابية منها ما يجعل المشاهد يتوجه إلى قراءة التاريخ “الحقيقي” لأحداث هذه المسلسلات. لذلك نلاحظ صدور عشرات الكتب التي تعالج أحداثا أو شخصيات هذه المسلسلات معالجة تاريخية بعيدة عن عنصر الفانتازيا.
تدريس العربية
الجديد: ما تقييمكم لبرامج تعليم اللغة العربية في تركيا، هل حقّقت الآمال المعقودة عليها من الدولة، والقائمين على تدريسها؟
صوتشين: يجري تعليم اللغة العربية في تركيا من خلال ثلاثة أنواع من البرامج. الأول؛ برنامج اللغة العربية وآدابها الذي يمتد من الثلاثينات وحتى يومنا هذا. والثاني؛ برنامج تدريس اللغة العربية التابع لكليات التربية التي تركز نشاطها على تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها. والثالث؛ برنامج الترجمة التحريرية والشفوية الذي تأسس منذ سنوات قليلة. وتتفرع هذه البرامج إلى 20 برنامجا بأنواعها الثلاثة. المشكلة الأساسية لهذه البرامج هي الافتقار إلى أعضاء تدريس مؤهلين. في الواقع تدريس اللغة العربية في تركيا بصورة عامة مجال إشكالي. هناك أوجه قصور أساسية في منهجية التدريس. إذ تعتبر اللغة العربية لغة ببعد ديني، لذلك يبقى البعد الأدبي والفني والثقافي لهذه اللغة في الظل.
الجديد: لقد سبق لكم وأن أعددتم منهجا للغة العربية للناطقين بغيرها للمدارس التركية، كيف تمّ ذلك، وما هي النتائج؟
صوتشين: كنت على رأس لجنة تتكون من أكاديميين ومعلمين وتربويين بهدف إعداد مناهج اللغة العربية للناطقين بغيرها للمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وذلك حسب الإطار المرجعي الأوروبي المشترك للغات. أنجزنا المشروع خلال سنتين. بعد ذلك جاء دور إعداد كتب مدرسية حسب هذه المناهج. لكن القرارات البيروقراطية المتغيرة حالت دون ذلك. أعددنا هذه المناهج ضمن لجنة التعليم والتربية التابعة لوزارة التربية. لكن الآن المديرية العامة للتعليم الديني هي التي تشرف، للأسف، على تنسيق تدريس اللغة العربية على مستوى المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، والثانوية، مما يفرض النظرة “الدينية” إلى اللغة العربية، وهو ما يؤثر سلبيا على تطوير مناهج اللغة العربية ومقرراتها للناطقين بغير العربية.
الجديد: هل أنت متفائل إزاء الأوضاع المأساوية الجارية في المنطقة؟
صوتشين: على الرغم من أن العالَم كله بما فيه منطقتنا يمر عبر مرحلة سيئة، لا يسعنا إلا أن نكون متفائلين. لأن انعدام الأمل يعني انعدام الحياة.
محمد حقي صوتشين في سطور
من مواليد عام 1970 بأنقرة، أتمّ دراسته الجامعية في كلية اللغات والتاريخ والجغرافيا قسم اللغة العربية وآدابها التي أفادته في أعماله بدءا من مجال الترجمة السياحية بعد تخرجه مباشرة من الجامعة. ومع عمله الأكاديمي في جامعة غازي، وأيضا كأستاذ زائر في جامعة مانشستر ببريطانيا، قسم الترجمة 2005-2006، إلّا أنّه استطاع أنْ يخترق الأسوار الأكاديمية وينطلق في مجالات مُتعدِّدة تجمع بين الترجمة والتأليف بالعربية وبالتركية، كما أنه مهتم ببحوث خاصة للارتقاء باللغة العربية على مستوى المدارس المتوَسِّطة والثانوية في تركيا، وأيضا الجامعات. علاوة على مشاركته في تحكيم جائزة البوكر العربية في دورتها 2014، حيث وقع عليه الاختيار من قبل الجائزة الأصل مان بوكر البريطانية ليكون عضو لجنة التحكيم العربية. كما عمل عضوا في لجنة التحكيم لجائزة الشيخ حمد للترجمة في دورتها عام 2015.
وقد عمل كمرشد سياحي في فترة من الوقت، وأيضا كمترجم داخل سفارة الكويت في أنقرة. علاقته باللغة العربية بدأت صُدفة إلّا أنَّها تحوّلت إلى عشق، ومنهج حياة، فكما يُعِدُّها لغةَ حضارة عريقة، ولغة عالمية وإن كان يوصِّفُ مشكلتها لا في صعوبتها وإنما في مستخدميها من الجانبين العرب والأتراك. ويلفت إلى أنّ العُمقَ الاستراتيجي لتركيا هو العالم العربي والإسلامي، وهو ما يستلزم وفق صيحته إلى “كوادر مُلمَّة باللغة العربية من أجل بناء عُمق ثقافي واقتصادي وسياسي بين العالمين”.
حضور اسم محمّد حَقي صوتشين، في الثقافة العربية طاغٍ، ولا تغفله عين، وهذا الحضور يتجلّى في مجالات عديدة سواء بالتأليف أو بالمشاركات في مؤتمرات عالمية عن الترجمة وغيرها. خاصة بإجادته اللغة العربية حديثا وكتابة، وهو ما جعله على إلمام كبير بالثقافة العربية، وهذا الاهتمام ترجمه عمليا عبر نقل الكثير من ذخائر هذا التراث إلى اللغة التركية، ممثلا في كتابات يحيى حقي، ومطران خليل مطران، وأدونيس ومحمود درويش وآخرين كثيرين. الغريب أن اهتمامه باللغة العربية جاء بالمصادفة على نحو ما سنعرف في الحوار الذي تجريه مجلة الجديد معه من أنقرة.
كما أن موقع الدكتور حقي صوتشين داخل المؤسسة الأكاديمية التركيّة، بارزٌ ومؤثِّرٌ إلى درجة كبيرة سواء في عمله داخل جامعة غازي، حيث شغل منصب رئيس قسم اللغة العربية في الفترة ما بين 2012 و2014. وأيضا لترأسه اللجنة التي أعدّت مناهج اللغة العربية للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة، والثانوية في تركيا، وذلك تمشيا مع الإطار المرجعي الأوروبي المشترك للغات (2010-2012).
كما أعدّ منهج اللغة العربية للناطقين بغيرها على المستويين A1 وA2 لاستخدامه في أوروبا بتكليف من معهد ابن سينا للعلوم الإنسانية في مدينة لِيل الفرنسية. وقد أشرف أيضا، على إدارة ورش الترجمة الأدبية بين اللغتين العربية والتركية التي تقام سنويا على المستوى الدولي لمناقشة مسائل نظرية وتطبيقية للترجمة الأدبية. وإلى نص الحوار الذي أجري معه من أنقرة.
أجري الحوار في أنقرة