القيمة الأدبية الضائعة
من الصعب الحديث عن وجود أدب اعتراف عربي في ظل وجود ثقافة محافظة تستمد قوتها من قوة العرف الاجتماعي. ولمّا كانت قوة العرف تتغلب على قوة الإبداعي، فإن أيّ محاولة للتمرد تتطلب الاشتباك معها، ما يترتب عليه النيل من قيمة الكاتب/ الكاتبة، الأخلاقية والأدبية، الأمر الذي يجعل الكثير من الكتّاب/ الكاتبات يترددون كثيرا قبل خوض هذه المغامرة الصعبة. لقد ساهمت عوامل كثيرة في تكريس غياب هذا النوع من الأدب، منها الرؤية القارة إلى الكاتب في الوعي الجمعي، وهي رؤية في إطارها العام ذات طبيعة مثالية، عمل الكاتب والمجتمع معا على تكريسها، حتى أصبحت الرؤية إلى ذات الكاتب/ الكاتبة بمعزل عن صفته شبه مستحيلة. لذلك فإن الكاتب المحكوم بهذه المحددات والأعراف لم يستطع حتى في حالات التمرد الخروج على هذه الصورة، من خلال الكتابة العارية، التي تقدّم الذات بوصفها ذاتا إنسانية تنطوي تجربتها التي عاشتها على جوانب مختلفة، هي مزيج من الضعف والقوة، الغواية والزهد، والمثالية والنزوع الحسي.
قبل عقود مضت كان الكاتب/ الكاتبة، ينأى بنفسه عن تناول موضوعات الحب والجنس في أعماله الروائية، خوفا من قيام القارئ العربي بعملية مطابقة بين شخصية بطلة الرواية أو ضمير المتكلم في القصيدة، وشخصية الكاتب أو الكاتبة، وتأويلها في ضوء هذه العلاقة، فكيف إذا كان العمل ينطوي على اعترافات صريحة، تخص حياة هذا الكاتب أو الكاتبة؟
أدبية الكتابة
قبل الحديث عن علاقة هذا الأدب بفن السيرة الذاتية أو اليوميات لا بدّ من التوقف عند المصطلح الذي ينطوي على حدّين اثنين؛ هما الأدب والاعتراف. ولعل تقدّم مصطلح الأدب على مفهوم الاعتراف يعني أن هذا العمل يجب أن يحمل قيمة أدبية خاصة به، أو أن قيمة هذا النوع من الكتابة تتأتى من كونه أدبا أولا، ينطوي على قيم فنية وجمالية تمنحه قيمته الأدبية. من هنا فإن أيّ كتابة مهما كانت تمتلك من الشجاعة في الاعتراف والصدق، لا يمكنها أن تندرج ضمن هذا النوع الأدبي لأنها لا تمتلك شروط هذه الكتابة الفنية، ولا تحمل خصائصها الجمالية، التي تجعل منها أدبا. إن تلازم العلاقة بين حدّي هذا المصطلح تفترض من الكاتب/ الكاتبة المحافظة على شروط هذه العلاقة، والانطلاق من إدراك واع بالقيمة الأدبية التي يجب أن تتوافر عليها أيّ مغامرة لخوض هذه التجربة، لكي تكتسب هذه الكتابة قيمتها النابعة من هذه القيمة الأدبية.
إن العلاقة بين أدب الاعتراف وأدب السيرة الذاتية أو اليوميات تجعل من الصعب الحديث عن أحدهما بمعزل عن الآخر، لكن ما حدث في بعض كتابات السيرة الذاتية أو اليوميات أن الكاتب لم يحاول الاقتراب من المنطقة المعتمة من هذه السيرة، ليس بسبب افتقاده إلى الشجاعة الذاتية، وإنما لأسباب موضوعية تتعلق بالمجتمع المحافظ والثقافة المحافظة، التي تتجاوز في تقييمها للعمل قيمته الأدبية إلى الجانب الشخصي، الذي تجري على أساسه محاكمة العمل والكاتب/ الكاتبة، في ضوء طبيعة المفاهيم والتقاليد الاجتماعية السائدة.
وإذا كانت أغلبية كتابات السيرة الذاتية قد عملت على تقديم شخصية الكاتب بصورة إيجابية، هي صورة الكاتب المكافح، صاحب القيم وفكر التنوير، فإن هذه الكتابات لم تستطع أن تخرج عن هذا السياق، وتغامر بمقاربة المسكوت عنه في هذه السيرة، ما جعلنا نتعرف إلى شخصية ناقصة، أو تجربة أراد صاحبها أن يقدمها وفق الاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية، التي تملي عليه الالتزام بقواعدها. لذلك لم تستطع أدبية هذه النصوص أن تجعل كتابة السيرة مساحة للاعتراف بالمعنى الحقيقي لهذا الأدب، نظرا لاختلال العلاقة بين حدّي هذا المصطلح في هذه الكتابات، وغياب الصدق عنها باستثناءات قليلة عرف عن كتّابها الخروج على المواضعات الاجتماعية والحياة خارج المألوف.
الكتابة العارية
شاع أدب الاعتراف في الغرب منذ القرن التاسع عشر وتطوّر حتى أصبح أدبا معروفا له أعلامه ورموزه وتقاليده المعروفة بدءا من جان جاك روسو وحتى سارتر وميلر وغيرهم الكثيرين. لم تكن شجاعة هؤلاء الكتاب وحدها هي التي تقف وراء ظهور هذه الأعمال، فقد كان لمناخ الحرية الذي شاع في الحياة والثقافة الغربيين، في عصر الحداثة دوره الهام في هذا المجال. إن تأثير هذا الأدب على خلاف الأنواع الأدبية الأخرى على الكتّاب العرب ظل محدودا حتى يمكن أن نعدّ الكتاب الذين خاضوا هذه المغامرة على أصابع اليد الواحدة، وفي طليعتهم يأتي الروائي المغربي محمد شكري، في عمله الروائي المعروف “الخبز الحافي”.
والحقيقة أن أدب الاعتراف وما هو مسكوت عنه في هذا الأدب يتجاوز موضوع الجنس والحب إلى السياسة، من خلال علاقة الكتّاب والشعراء العرب بجهات التمويل الدولي، شرقا وغربا، حتى يمكن اعتبار هذا الموضوع من أكثر الموضوعات المسكوت عنها في تاريخ الحركة الأدبية الحديثة ورموزها منذ خمسينات القرن الماضي. إن غياب الشجاعة الأدبية عن العديد من رموز تلك الحقبة جعل صفحات كثيرة من هذا التاريخ تظلّ مجهولة، ولولا بعض الوثائق التي جرى تسريبها عن علاقة شعراء “مجلة شعر” بالمنظمات الثقافية الأميركية المشبوهة، لبقيت هذه العلاقة طي النسيان. وعندما سقط الاتحاد السوفييتي سارع بعض أدباء وشعراء تلك الحقبة إلى التنكر لماضيهم والدور الذي لعبوه في إطار الحركة الشيوعية آنذاك. لقد كان يمكن لاعترافات شعراء تلك الحقبة، التي كانت تشهد عمليات استقطاب حثيثة من قبل المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، في سياق الصراع الدولي أن تكشف عن خفايا كثيرة من هذا التاريخ، وتوضح سلوكيات بعض شعراء تلك المرحلة، لكن غياب الشجاعة الذاتية عند رموز هذه الحقبة جعلت أدب الاعتراف يفتقد إلى كتابات شجاعة، في نقد الذات والتجربة التي عاشوها.
الرواية وأدب السيرة
لجأ العديد من كتّاب/ كاتبات الرواية إلى محاولة الالتفاف على كتابة أدب السيرة الذاتية وأدب الاعتراف عبر السرد الروائي، عندما قاموا باستحضار مراحل من تجارب حياتهم في أعمالهم الروائية. لقد سمحت الرواية بوصفها عملا تخييليا لهؤلاء الكتّاب أن يستعيروا قناع شخصيات أبطال أعمالهم الروائية، وأن يتخفوا وراءها لقول ما عجزوا عن قوله، باعتباره جزءا من تجاربهم التي عاشوها، بل إن بعض الروائيين ومن خلال معرفتي بهم كان لهم أكثر من عمل روائي مستمد من تجاربهم التي عاشوها، سواء على صعيد العلاقة مع المرأة، أو تحولات الواقع وأحداثه الهامة. لقد وجد هؤلاء الكتّاب في الرواية وسيلة للتنكر، ويمكن القول إن كثيرا من الأعمال الروائية الجريئة في مقاربتها للمسكوت عنه في الجنس والعلاقة مع الرجل، كتبتها بعض الروائيات عن تجارب شخصية عشنها، وقد بلغت الجرأة ببعضهن إلى تقديم أكثر من إشارة عن هذه العلاقة، التي كان ظاهرا فيها محاولة المرأة نقد هذه العلاقة وتعريتها في ضوء ازدواجية الرجل، وعجزه عن مطابقة سلوكه إزاءها مع الأفكار التقدمية، التي يطرحها ويدّعي النضال من أجل تحقيقها.
إن الجرأة التي تميزت بها روايات الكاتبة النسوية لم تبلغ الحدّ الذي تدفع بها إلى خوض مغامرة كتابة أدب الاعتراف، فإذا كان الكاتب الرجل ما زال في الغالب عاجزا عن خوض هذه المغامرة، فكيف ننتظر من هذه الكاتبة أن تقدم على هذه الكتابة، خاصة وأنها تجد في الكتابة الروائية فضاء لكتابة ما عجزت عن قوله، في إطار هذا الأدب الذي ما زال يحتاج إلى شجاعة استثنائية.
اشتراطات الكتابة
إن أدب الاعتراف كأيّ نوع آخر من الأدب له خصائصه وجمالياته، النابعة من قيمته الأدبية، لكن أدبية هذا النص لا تكفي لمنحه قيمته الخاصة، إذ لا بدّ لهذا الأدب أن يمتلك قيمته الفكرية والتاريخية والسياسية النابعة، من المكانة أو الدور الذي كانت تلعبه هذه الشخصيات داخل الحركات الأدبية أو السياسية أو الثقافية أو الواقع الاجتماعي. إن قيمة الاعترافات المقدمة في هذا الأدب تنبع من الإضاءات الهامة التي تقدمها، على المستويين الذاتي والموضوعي حول قضايا هامة تخصّ ذلك التاريخ والشخصيات الفاعلة فيه، وعمليات الاستقطاب التي كانت تحدث داخله، وتنعكس على مواقف هذه الشخصيات وأدوارها التي لعبتها. في هذا المستوى يمكن أن نميز بين أدب السيرة وأدب الاعتراف بعد أن سكت كتّاب السيرة عن جوانب وقضايا هامة، من التجربة التي عاشوها، تتعلق بهم أو بالشخصيات التي تشاركوا معها في هذه التجربة، انصياعا للقيم الأخلاقية، التي كان وما زال المجتمع يُعليها على القيمة الإبداعية، والتي جعلت سلطة الرقيب الداخلي عليهم، بمثابة تكريس لسلطة هذه القيم عليهم، والخوف من قول الحقيقة، ما أضاع علينا القيمة الإبداعية والفكرية والتاريخية لهذا النوع من الأدب.