خطاب الكراهية
كصناعة السيارات والطائرات والملابس والعطور يتم تصنيع الرأي العام والذوق العام. مثلما الثقافة صناعة والسياحة والرفاهية والازدهار صناعة. كذلك هي الكراهية. صناعة الكراهية تتقنها طغمة من الدكتاتوريات والأنظمة الفاسدة والنخب الفكرية والسياسية والثقافية والدينية الكاسدة. يقومون بنشر السموم والأكاذيب وبثّ الأحقاد بصورة يتم فيها التحريض وبناء منظومة الكراهية والعداء الاجتماعية على أساس قومي وعرقي وطائفي ومذهبي أو قبلي أو مناطقي. هذه الصناعة تجد لها أسواقاً تروّجها في الكثير من البلدان، وخاصة في العالم العربي المثقل بالأزمات المركبة. وهي صناعة تحظى برعاية وغطاء من بعض الأنظمة العربية المستبدة، ومن دول إقليمية تمتلك مشاريع جيوستراتيجية تقوم على مبدأ الانقسام في الصف العربي وبث الكراهية والتفرقة بين الشعوب العربية وإحداث صراعات وتناحر بينها كي تتمكن تلك الدول من تحقيق أهدافها.
في ظلّ حالة الجهل التي ما زالت تحكم واقع كثير من المجتمعات العربية تصبح الكراهية ناراً تستعر وتحرق المجتمع وتفكك ترابطه وتثير النعرات والحروب الأهلية وتنهي أيّ تفاهم وتناغم مجتمعي، وتحدث الرغبة في الانتقام وتنشر ثقافة تبرير العدائية والعنف والاعتداء على الآخرين.
الكراهية في المعنى والاصطلاح
في اللغة الكراهية هي القبُح وإثارة الاشمئزاز والبُغض حول شيء ما. أن يكره الإنسان شيئاً هذا يعني مقتَه أي لم يحبّه وأبغضه ونفَر منه. الكراهية هي أيضاً الحقد والغضب والشعور بالضغينة تجاه شخص ما. وفي الأفعال القولية التي تصدر عن دولة أو جماعة أو أفراد وتدعو صراحة إلى الكراهية يطلق عليها “خطاب الكراهية”. في حين أن كافة الجرائم التي تحرّكها الكراهية وتدفع مرتكبيها لفعل جرمي بسبب الكراهية أياً كانت، تسمى “جرائم الكراهية”. هذه الجرائم قد ترتكب ضد أفراد أو جماعات لأسباب الكراهية المتعلقة بالدين أو العرق أو اللغة أو الجنس أو الإعاقة العقلية أو البدنية.
تتنوع جرائم الكراهية ما بين ممارسة العنف ضد الآخر، وظهورها في صورة المضايقات والتهديدات والتسلّط في المدرسة أو أماكن العمل. كما يمكن أن تأخذ الكراهية شكل لوحة أو كتاب أو نص أو ملصق أو أغنية أو فيلم، أو أي إنتاج آخر ينطوي على عناصر مهينة وتهديدية. جرائم الكراهية لا تستهدف فقط الأفراد أو الجماعات، إنما المباني العامة والخاصة أيضاً، وكذلك دور العبادة وممتلكات الأقليات.
رغم أن عدداً من الدول أصبحت دساتيرها وقوانينها العامة تتضمن تعريفات للكراهية وجرائمها والعقوبات التي تفرض على مرتكبيها، إلا أن الكثير من الدول الأخرى، خاصة العربية، لا تزال جرائم الكراهية فيها أحد أكثر المواد القانونية إثارة للجدل والاجتهاد بين مكونات المجتمع. ونظراً للتقاطع والاختلاط الذي يقع فيه البعض بين حرية التعبير كأحد أهم الحقوق الشخصية للفرد وبين خطاب الكراهية تحافظ الدول الديمقراطية على توازن يحمي جميع شرائح المجتمع.
كما أن جرائم الكراهية تسافر خارج الحدود من خلال منع الفرد أو الجماعة المستهدفة من السفر أو العودة إلى الوطن. كل ذلك يشير بوضوح أن الشعور بالكراهية بين الناس يعتبر تهديدا خطيرا على المجتمع برمته.
صناعة الكراهية
صناعة الكراهية أحد أهم الأسلحة المستخدمة في الحروب النفسية وأهم أدوات نظام تفكيك البنى والتماسك الاجتماعي. فالحروب العسكرية تستهدف حياة البشر وممتلكاتهم المادية، فيما الحروب النفسية تستهدف السلوك الاجتماعي من خلال التأثير على أفكارهم وحالتهم المعنوية. وتصنع الكراهية عبر نشر الأكاذيب وتزوير الحقائق واختلاق الأحداث والتلاعب بالعقول والافتراء على الآخرين وتزيين الباطل. وهذا يؤدي إلى توفير البيئة التي ترعى الكراهية والمعاداة ليشتد عود الضغائن، ثم تتحول الكراهية إلى أفكار وعقائد قبل أن تصبح سلوكاً عدوانياً متطرفاً. الكراهية وتغذيتها تشكل الحاضنة الملائمة للعنف والإرهاب.
وللكراهية أوجه متعددة منها ما هو اجتماعي أو ثقافي، كما أن الكراهية الدينية هي الأخطر لأن أثرها يظهر سريعاً ويفتت المجتمعات، بينما تتسبب الأزمات السياسية بكراهية اجتماعية. وتظهر هذه الكراهية في الشعارات والمواقف والخطابات السياسية والدينية المتشددة التي تكون غالباً المصدر الرئيسي لنشر ثقافة الكراهية.
في صناعة الكراهية نجد نماذج ومستويات مختلفة، منها ما يتعلق بإشعال الصراعات والحروب بين الدول والشعوب فيما بينها، ومنها ما يرتبط بصناعة الكراهية داخل الأمة الواحدة بيد بعض الأبناء أو داخل البلد الواحد أو العرق الواحد أو الدين الواحد. فقد عملت بعض الدول الغربية الاستعمارية على تلطيخ صورة الإنسان العربي عبر وسائل الإعلام لدى شعوبها مما أحدث ما يعرف بظاهرة الإسلاموفوبيا.
في البلدان العربية حيث تتشابك المعايير وتمتزج المصطلحات وتفتقد الضوابط اختلط النقد بالشتم، وتصاعدت وتيرة السباب والقذف في الخطابات التي تجد استحساناً لدى شرائح اجتماعية واسعة، حيث تلهب الخطابات الشوفينية المتشددة مشاعرهم وحماسهم. هذه الحدة تعود في أحد أسبابها إلى التناحر والصراع السياسي والأيديولوجي والديني
ثم بعد الأحداث الدامية المرعبة التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تعززت صورة العربي المتطرف القاتل في وسائل الإعلام الغربية. وهناك صناعة الكراهية داخل البلد الواحد والدين الواحد بهدف إثارة العصبيات المذهبية والقبلية لإشعال الفتن والصراعات التي قد تصل إلى حروب أهلية.
أبرز أدوات صناعة الكراهية هي نشر الكذب والافتراءات والتلاعب بالعقول وتزوير الحقائق وتزييف البيانات. وهي سلاح يفتك ببنية المجتمعات وينتمي للجيل الرابع ولا يكلّف الدول مالاَ وجهداً كثيراً.
لا تنمو الكراهية إلا في المجتمعات غير المستقرة والتي تعاني من انقسامات عرقية وطائفية ومذهبية وتغيب عنها ثقافة التنوع وقبول الآخر، ويقاسي فيها الناس من غياب الأطر والضوابط السياسية والقانونية المنظمة. ويمكن لقضية الأقليات العرقية والدينية أن تشكل مدخلاً للتوظيف السياسي لدى بعض الدول بأن تثار كراهية كيانات ضد كيانات أخرى. كما أن للمحسوبيات والمنفعة الخاصة والتهميش والإقصاء الذي تمارسه البطانة دورا في توليد الكراهية والعنف.
خطاب الكراهية
انتشر في الأعوام الماضية خطاب الكراهية والبغض في كثير من الأماكن حول العالم، خاصة في المنطقة العربية التي شاع في كثير من بلدانها مصطلح المجتمعات المنغلقة على الأنا الجمعية، بامتداد المناطق والطوائف والقبائل والأعراق والمذاهب والأيديولوجيات. إن التطور التكنولوجي وفي وسائل الإعلام المتنوعة أسهم بصورة كبيرة في تفشي ظاهرة الكراهية وخطابها في منصّات التواصل الاجتماعي، حيث يتم استقطاب شرائح وأعداد متزايدة للانضمام إلى جيوش الكراهية العصرية، متسلحين بالحقد والأفكار العنصرية والألفاظ الشوفينية لخوض معارك الاقتتال الاجتماعي والمذهبي والعرقي في الفضاء الإلكتروني الواسع. تستغل هذه الأطراف حرية التعبير التي تصونها القوانين الدولية للاعتداء على كل شيء، حتى الأديان والخالق لم يسلم من شر هؤلاء.
جميع وسائل الإعلام تتحمل مسؤولية رئيسية في بث خطاب الكراهية بصورة متواصلة على مدار الساعة للمشاهدين والمستمعين والقرّاء حيث تزايد الإعلام المتخصص بالبغض والكراهية في ظلّ غياب شبه تام للإعلام المهني الذي يقوي الروابط الوطنية للمكونات الشعبية ويواجه الإعلاميين الثرثارين الذين يهتكون النسيج الاجتماعي عبر التحريض الأعمى على العنف والإقصاء.
في البلدان العربية حيث تتشابك المعايير وتمتزج المصطلحات وتفتقد الضوابط اختلط النقد بالشتم، وتصاعدت وتيرة السباب والقذف في الخطابات التي تجد استحساناً لدى شرائح اجتماعية واسعة، حيث تلهب الخطابات الشوفينية المتشددة مشاعرهم وحماسهم. هذه الحدة تعود في أحد أسبابها إلى التناحر والصراع السياسي والأيديولوجي والديني بين مختلف القوى والأحزاب والدول، ويصبح معه إعلام الكراهية سلاحاً لكسب الحرب.
كافة الأطراف التي تدعم وسائل الإعلام القائمة على نشر الكراهية وتمولها وتغذيها، غايتها تخدير الشعوب وتغييب وعيها وإشغالها عن حالة الشقاء والبؤس التي تسم الوضع العربي الراهن. والهدف هنا هو إبقاء الشعوب العربية أحجار شطرنج وبيادق تتقاتل دون أن تغادر الرقعة، ويظل اللاعبون الرئيسيون متحكمين بمصير المنطقة.
حروب الكراهية
أقبح الحروب هي التي تقوم على الكراهية وأكثرها وحشية هي التي ترتكب باسم الدين، وقد شهدت البشرية عدد منها. ولعل ما يعنيني هنا هي المجازر والمذابح التي ارتكبتها الصهيونية وإسرائيل عبر العصابات الإرهابية بدءًا من عصابة “هاشومير” التي تأسست عام 1909 مروراً بعصابة “الهاغاناه” عام 1921 وفرق “المالباخ” عام 1936 و”شتيرن” و”الأرغون” وسواها، بحق الشعب الفلسطيني. ويؤكد التاريخ أن اليهود ارتكبوا في فلسطين حملات مكثفة ومخططة من العنف والإرهاب والكراهية ذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء من النساء والأطفال، وما زالت مستمرة حتى اللحظة.
في القارة الأميركية التي وصلها المستكشف الإسباني كريستوفر كولومبس ارتكب المسيحيون الأوروبيون البيض جرائم إبادة وحشية بحق السكان الأصليين، حيث اعتبرت القوى الأوروبية المستعمرة أن سكان البلاد عبارة عن كائنات منحطة بالوراثة، وأقل منزلة من الإنكليز والإسبان وبقية الأوروبيين. هذه النظرة المشبعة بالكراهية والعنصرية والاستعلاء شكّلت بداية حروب الإبادة التي جرّدت السكان الأصليين من إنسانيتهم وارتكاب المذابح الوحشية ضدهم.
هنا تماماً يكشف زيف قيام أميركا على قيم العدالة والمساواة والحرية، فهي دولة بنيت بواسطة أبشع أنواع الإرهاب، وذلك عن طريق إبادة عشرات الملايين من الهنود الحمر، ولا زال الإرهاب الأميركي يصول ويجول في أماكن متعددة من العالم يبحث عن هنود جدد. هنا تلتقي الولايات المتحدة مع إسرائيل التي قامت على إبادة الشعب الفلسطيني وتواصل ارتكاب المذابح وسرقة أراضي الفلسطينيين. ويذكر قادة الكيان الصهيوني ذات المبررات والذرائع التي ساقها المهاجرون الإنكليز الذين سرقوا أراضي السكان الأصليين لأميركا واستباحوا خيراتهم وأبادوهم.
فشلت جلّ الأنظمة العربية في إنجاز مهام ما بعد التحرر السياسي الشكلي من الاستعمار. لم تتمكن من بناء دول مدنية ولا تحرّرت من التبعية الاقتصادية والسياسية، ولا استطاعت تحقيق تنمية مستدامة. وبالتالي أخفقت بصورة مريعة على كافة المستويات، وبقيت بعيدة جداً عن الحداثة والعصرنة، وظلت شعارات النهوض العربي تتردد منذ قرنين من الزمن دون نجاح يذكر
في وثيقة تضمنت شهادة سجلها كشاهد عيان المطران الإسباني بارتولومي دي لاس كازاس تتعلق بجرائم إبادة ارتكبها المسيحيون الأوروبيون بحق الهنود الحمر جاء فيها “كانوا يدخلون على القرى فلا يتركون طفلا ولا حاملا ولا امرأة تلد إلا ويبقرون بطونهم ويقطعون أوصالهم كما يقطعون الخراف في الحظيرة، وكانوا يراهنون على من يشق رجلا بطعنة سكين، أو يقطع رأسه أو يدلق أحشاءه بضربة سيف، كانوا ينزعون الرضع من أمهاتهم ويمسكونهم من أقدامهم ويربطون رؤوسهم بالصخور، أو يلقون بهم في الأنهار ضاحكين ساخرين”. ألم تكرر إسرائيل الصهيونية هذه الجرائم بحق الفلسطينيين؟ نعم لقد فعلت.
في البوسنة والهرسك ارتكبت القوات الصربية لأسباب دينية وعرقية تتعلق بالكراهية مجزرة ذهب ضحيّتها أكثر من ثمانية آلاف مسلم بوسني مدني في العام 1995. تعتبر هذه المذبحة من أفظع المجازر التي ارتكبت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد حصلت على مرأى من جنود الفرقة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام الأممية.
الحروب الصليبية في القرون الوسطى، والتي خاضتها الدول الأوروبية المسيحية ضد المشرق الإسلامي لدوافع الكراهية الدينية، هي نموذج آخر على خطورة خطاب الكراهية. إذ قامت الحروب بعد أن ناشد البابا أوربان الثاني رجال الدين في الكنائس الأوروبية وأمراء أوروبا بشن حرب على المسلمين بهدف تخليص الأرض المقدسة من سيطرتهم حتى يرضى المسيح لأن يوم القيامة قد اقترب.
أكثر الحروب الدينية بسبب الكراهية شراسة هي الحرب التي استعرت نارها بين الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا خلال القرن السابع عشر واستمرت لمدة ثلاثين عاماً. أبيد في هذه الحرب التي أعلنتها الكنيسة الكاثوليكية وأسمتها الحرب المقدسة حوالي أربعين بالمئة من البروتستانت الأوروبيين. وانتهت هذه الحرب بأوبئة ومجاعات وتدمير شامل، وتغيرت معها خارطة أوروبا السياسية والدينية.
بالرغم من شيوع واقعة إعدام الأرمن في إسطنبول من قبل السلطات التركية في العام 1915، فيما يعرف بمذابح الأرمن، فإن الكثيرين لا يعلمون شيئاً عن مذابح الأرمن ضد الأتراك. لقد ذكر الدكتور أحمد الشرقاوي في كتابه الذي صدر العام 2016 ويحمل عنوان “مذابح الأرمن ضد الأتراك” وتضمن العديد من الوثائق العثمانية والروسية والأميركية أن عدد ضحايا المذابح التي ارتكبها الأرمن بلغ حوالي نصف مليون ضحية من المسلمين المدنيين الأتراك. حيث كان الصراع بين الأتراك والأرمن قد بلغ ذروته خلال الحرب العالمية الأولى وكانت تركيا ضعيفة وتعاني من التدخل الأوروبي ومن الاحتلال الروسي في مناطق الشرق العثماني.
بذور الكراهية
منشطات ومحفزات الكراهية تبدأ من العائلة التي لا تراعي تربية الأبناء على احترام الآخر المختلف. وهناك المجتمعات المنغلقة على ذاتها والتي يسود فيها نمط ثقافي واجتماعي واحد، وتجهل حقيقة الآخرين، تكون عادة فريسة سهلة للتحريض والكراهية، وهي مجتمعات لا تقبل الجديد وتتصادم معه وترفض الاندماج معه. ولا يمكن إغفال المسؤولية التي تضطلع بها المؤسسات التعليمية في تحديد مناهج تعليمية تراعي التنوع والتعدد في مكونات المجتمع، ولا تعتمد على رأي الأغلبية فقط. والمؤسسة الدينية مسؤولة أيضاً عن هذا التدهور الأخلاقي لأنّ الخطاب الديني يستدرّ العواطف لدى الجمهور، فإن كان متشدداً يعمل على إثارة الفوضى والفتنة والتّحريض والكراهية والقتل.
التهميش والإقصاء الذي تقوم به العديد من الأنظمة الاستبدادية بشكل ممنهج ضد أفراد وفئات في المجتمع يشكل المناخ المناسب لتنامي خطاب الكراهية لدى المهمشين وضدهم. وتركيز وسائل الإعلام على رؤية واحدة للأمور يزيد من تسعير وحدة خطاب الكراهية. كما أن الصورة النمطية عن فئة محددة أو بلد معين، والأحكام المسبقة ضدهم نتيجة شيوع أفكار عنهم في البنية الاجتماعية وغياب المعلومات الصحيحة يسهم في نشر الكراهية. المسؤولية هنا تقع على كاهل الدولة بكافة هيئاتها ووسائل الإعلام ومناهج التعليم والمؤسسة الدينية والناس أنفسهم الذين ينحازون لمواقف ويؤمنون بأفكار دون التفكير بها وتمحيصها.
الموروث الاجتماعي والديني والثقافي والحضاري يعتبر قيمة معرفية مهمة للأمم والشعوب، لكن القصور في الفهم السليم للتراث والمقاربات الخاطئة له ومحاولة النقل الميكانيكي للتجارب الماضية يسهم في توريث الكراهية كما تورّث العقارات. أمر آخر يسهم في اتساع رقعة الكراهية هو الصمت وموقف اللامبالاة اللذان تبديهما جهات رسمية وأناس عاديون حول الكراهية، والتغاضي عن خطاب وجرائم الكراهية التي يتم ارتكابها بحق الآخرين، وتستثير مشاعرهم الدينية أو القومية، وتمنحهم الإحساس بالدونية والانتقاص من كرامتهم وإنسانيتهم.
توظيف تبريري للكراهية
فشلت جلّ الأنظمة العربية في إنجاز مهام ما بعد التحرر السياسي الشكلي من الاستعمار. لم تتمكن من بناء دول مدنية ولا تحرّرت من التبعية الاقتصادية والسياسية، ولا استطاعت تحقيق تنمية مستدامة. وبالتالي أخفقت بصورة مريعة على كافة المستويات، وبقيت بعيدة جداً عن الحداثة والعصرنة، وظلت شعارات النهوض العربي تتردد منذ قرنين من الزمن دون نجاح يذكر. بينما الأمم والشعوب الأخرى حققت قفزات في تطورها الاقتصادي والحضاري، أبرزها اليابان، الهند، كوريا، تايوان، سنغافورة، هونغ كونغ، تركيا. يعود هذا الفشل في أحد جوانبه إلى خطاب الكراهية العربي الموجّه للغرب الاستعماري، كراهية حضارته ومعاداتها باعتبارها حضارة صليبية معادية للعرب وللمسلمين. هذا الموقف الضرير الذي يضع كل ما يتعلق بالغرب في سلة الكراهية، امتد ما يقارب قرنا من الزمان حتى طغت على خطاباتنا الفكرية والسياسية والدينية والثقافية.
وفي هذا تتشارك القوى السياسية القومية العربية مع التيار اليساري والجماعات الدينية بموقف واحد يعتمد الكراهية للغرب. وتتم تعبئة الرأي العام أن الغرب هو العدوّ الدائم والأبدي للعرب، الغرب المتآمر على الشعوب العربية، المتربص بهذه الشعوب كي ينقض عليها حين تسنح له الفرصة، الغرب الذي أعاق الإصلاح والنهضة العربية، الغرب الذي يمنع الوحدة والتكامل بين الدول العربية ويهيمن على مقدراتها.
نعم الغرب الاستعماري هو وحش إمبريالي يسعى لفرض سطوته على العالم والتهام موارد الأمم وإقحام العالم في حروب، ويسعى لإضعافنا ولتذويب الهوية العربية وتغريبها. ولكن ما هي مسؤولية الدول والشعوب العربية تجاه هذا التحدي؟ الإجابة ببساطة أن معظم الأنظمة العربية قد أجادت توظيف خطاب الكراهية ضد الغرب لتبرير إخفاقها وفشلها الذريع المتكرر في تحقيق ما تصبو إليه الشعوب العربية من ديمقراطية وعدالة اجتماعية ومساواة وتطور اقتصادي وحياة كريمة. لذلك اعتمد خطاب هذه الأنظمة على الخلط واللبس القصدي بين الغرب الاستعماري والغرب الحضاري الحداثي المتطور، وعلى إثارة الريبة والشك والبغض تجاه الآخر المتفوق.
خطاب الكراهية هذا نحو الغرب هو الذي حال بين العرب وبين الإفادة من العلم والعلوم الغربية، ومن العوامل التي أدّت إلى تقدمه وأسباب قدرته على تحقيق الإنجازات الحضارية والعلمية والمعرفية والتقنية، وكيف تمكّن هذا الغرب من بناء نظام سياسي وإداري وحقوقي ناجح ومتطوّر. لم يتمكن العرب من الاستفادة من هذا الثراء الغربي كما فعلت شعوب وأمم أخرى عانت أكثر منا من الاستعباد الاستعماري.
إن الدول التي تمكنت من تحقيق استقلالها السياسي من الغرب المستعمر وتمكنت من التطور وتحقيق التنمية كانت واعية ومدركة أهمية التفريق بين الاستعمار الغربي بوجهه الدميم وبين غرب الحداثة والتطور.
لا يمكن للعرب تحقيق تقدم ونهوض وحداثة إلا بالاستفادة من عوامل التقدم الغربي والتعاطي الإيجابي مع حضارته، ونقل معارفه وعلومه وتقنياته ونظمه وحتى لغته. وعلينا الكف عن النواح واللطم والانشغال بابتكار مفردات جديدة والتباري بالشعارات المدويّة التي تملأ عقول الشباب بالغضب والكراهية ضد كل الغرب دون تمييز. يجب الانطلاق نحو صناعة نماذج عربية للتنمية والتفوق والحداثة والدخول إلى الأسواق العالمية للمنافسة بصناعات علمية وتقنية ومنتجات عربية تتجاوز صناعة تغليف التمور.
اليابان التي انهزمت أمام قوات الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية 1945 تغلّبت على المستعمر بصناعاتها المتطورة حتى باتت أميركا تخشاها. وهكذا فعلت الهند وكوريا وعدد آخر من الدول، إذ حوّلت مشاعر الكراهية ضد المستعمر إلى قوة جرّ هائلة نحو التقدم العلمي والحضاري. بينما ظلت الدول العربية في الخندق الأول تجترّ انكساراتها وخيباتها، ولا تتوقف عن ترديد “نحن خير أمة أخرجت للناس″.
إن امتلاك أسباب الحداثة الحقيقية يستوجب الخروج من حالة الفصام الأيديولوجي في الحالة العربية التي أسقطت الأمة بين أطراف تتوسل الغرب وتتذيّله، وبين أطراف عربية أخرى تلعن الغرب وترفع كفّيها إلى السماء للدعاء عليه وعلى حضارته بالدمار والهلاك.
ما يمكن فعله مع الكراهية
المسؤولية يتقاسمها الجميع، لا أحد بريء هنا وخالٍ من العيوب. الدولة والهيئات والمجتمع ووسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والمؤسسات الدينية والعائلة والأفراد، كل هؤلاء يتحملون واجب التوعية وغرس مفاهيم احترام الآخرين المختلفين وترسيخ القيم الإنسانية والأخلاقية والحبّ والتواصل الإيجابي والتعايش.
في القطاع التعليمي تبرز ضرورة تطوير المناهج الدراسية لكافة المراحل وتحديثها والتوقف عن نمط التعليم الذي يعتمد على التلقين واستبداله بأشكال عصرية تراعي التفكير الحرّ واستخدام العقل والإصغاء وقبول الرأي الآخر والحث على التفكير الإبداعي وتشجيع الطلاب على ممارسة النقد البناء وفتح نوافذ التعدد والتنوع الثقافي أمامهم. كذلك إعادة تأهيل المدرّسين والمعلمين وإكسابهم الخبرات والمعارف اللازمة للقيام بواجبهم التعليمي على أفضل وجه.
دور وسائل الإعلام الخطير، كون الكثير من الناس يعتمدون في تشكيل فهمهم للعالم ورؤيتهم للأمور على ما يصلهم من معلومات وبيانات ورؤى عبر الخطابات الإعلامية، وبذلك يكون للإعلام الدور الرئيسي في إحداث الانطباعات وبلورة القناعات وتكوين الوعي المعرفي لدى المتلقي. لذلك لا بد أن يكون هدف الرسائل الإعلامية بثّ ثقافة التسامح والحوار والتعايش بين جميع مكونات المجتمع ونبذ الكراهية والعنف والتشدد والعنصرية والإرهاب.
إضافة إلى التوعية تظهر المساءلة القانونية كضرورة هامة لإغلاق الدائرة على خطاب الكراهية. إن التعريفات المحددة المرتبطة بخطاب الكراهية واعتباره جريمة ووضع النصوص والمواد الدستورية وتشريع القوانين الملائمة وتفعليها وتطبيق العقوبات على المخالفين يسهم بصورة فعالة في إيقاف هذا الانحدار الأخلاقي.
دعم وتنشيط وتفعيل منظمات المجتمع المدني والأندية والنقابات والاتحادات والمنظمات الجماهيرية الأخرى كي تتمكن من القيام بدور توعوي وتنموي وتثقيفي مجتمعي هام، وخاصة في أوساط الشباب واستغلال طاقاتهم الخلاقة المبدعة وتوظيفها بما يحقق التنمية والتطور والسلام وتزويدهم بالفكر والمعرفة التي تؤمن بالتعايش والحوار وترفض التشدّد والكراهية.
من المهمّ تشجيع الباحثين والمؤسسات المعنية بهدف القيام بأبحاث ودراسات اجتماعية وفكرية علمية لرصد أفكار الكراهية وخطابها وسلوكها، وتحليل الظاهرة ومقاربتها وإصدار توصيات محددة تتحوّل إلى خطط عمل بهدف محاصرة الكراهية والحيلولة دون استفحالها.
مواجهة خطاب الكراهية لا تتوقف عند حدود نقده، بل تتطلب أيضاً صياغة خطاب بديل طافح بالمحبة والتآخي والتضامن. الخطاب الديني خاصة يحتاج إعادة صياغة. والنقد الموجه للخطاب الديني المتشدّد ليس حرباً على الدين ذاته ولا على المؤسسة الدينية ورجالها، بل هو نقد للكراهية وللقيم التي يتضمنها والتحذير من العواقب الكارثية الناتجة عنه. هو نقد للفهم الديني الخاطئ لدي العديد من الناس ونقد للاجتهاد غير الصائب لدى بعض الأئمة، نقد للتفسير الذي يقوم به بشر قد يصيبون وقد يخطئون، وهؤلاء البشر لديهم رؤيتهم وقناعاتهم ومواقفهم ووجهات نظرهم تجاه العديد من القضايا، وحين يتمّ نقد خطابهم وتفسيرهم فإنما ننتقدهم وننتقد تفكيرهم ولا ننتقد الدين.
الطوفان العظيم
شحن العقول العربية المتعاقبة بثقافة الكراهية منذ عقود طويلة وبصورة متواترة أفرز هذا الحال الكارثي في المشهد العربي، وأنجب أجيالاً تؤمن بالفكر المتشدد والسلوك المتطرف. ونشرت ثقافة الموت والتدمير بدلاً عن قيم الحياة والبناء والعطاء. وحولت المنطقة العربية إلى ما يشبه المسلخ الكبير حيث يتناوب فيه الجزار والضحية الأدوار.
النخبة العربية مطالبة بإجراء حوار ثقافي مفتوح لهذا الانسداد الأخلاقي في الخطاب السياسي والديني الطائفي العنصري ووضع استراتيجية شاملة لاستئصال داء الكراهية القميء. فالإعلام الذي يروّج للكراهية يقوم بتغذية منابع التطرف والإرهاب، ويخلق الوحوش التي سوف تنهش كبد الأمة.
نحن نحتاج إلى ابتكار أساليب للوقاية من هذا الوباء وترشيد الرسالة الإعلامية ومراجعة الخطاب الديني وإلى ملء الفراغ للشباب وتصحيح المفاهيم غير الصائبة واعتماد لغة العقل لا العاطفة وبناء جسور من الحب والإخاء. بخلاف ذلك سنكون مقبلين على موجات متواترة من الكراهية تؤدي إلى طوفان عظيم لن يسلم منه أحد.