الرواية البوليسية الجديدة
نعوتٌ عدة تتبادر إلى الذهن ما إن يُلقى مُصطلح “الأدب البوليسي”، يتركزّ جلها في كونه نمطًا أدبيًا هامشيًا ذا قيمة ضئيلة، لا يُكتب سوى للمراهقين المُتطلعين لكتابات تشويقية سريعة، وجباتٌ أدبية خفيفة ومُسليّة وحكاياتٌ هامشية لا تُعنى بالقضايا الكُبرى أو الهامّة على أقل تقدير، كتابات من الدرجة الثانية سواء على مستوى التلقّي أو على مستوى الكتابة.
تلك النظرة والمفهوم المُترسخ والمُتسرع في آن ليسا مُقتصرين فقط على تصورات جماهيرية تفتقر إلى الدقة المنهجية، بل من المُلاحظ أنها مفاهيم راسخة لدى المؤسسات النقدية التي لا تولي هذا النمط من الكتابة الاهتمام الكافي لأنه أدب هامشي ومن الدرجة الثانية في نظر كثير من النقاد، بل إنه على مستوى الكُتّاب أنفسهم باتت تلك النظرة مُهيمنة ومُتحكّمة إلى الحد الذي جعل كثيرًا منهم ينأون عن كتابة هذا النمط في مقابل الانصراف نحو أنماط من الكتابة التاريخية أو تلك المعنيّة بمُجريات الواقع أو غير ذلك كي لا توصم أعمالهم قبل أن تُقرأ بوصمة الأدب الخفيف أو غير المهمّ.
يُمكن أن يكون شيوع تلك النظرة وتغلغلها عاملًا رئيسيًا في ندرة الكتابات العربية التي يُمكن أن تدرج بشكل واضح تحت مُسمى “الرواية البوليسية“، فهناك بالطبع كثير من الكتابات التي وظّفت تقنيات الكتابة البوليسية أو بعض الثيمات، ولكن قلة من الأعمال يمكن أن تكون مُنتمية بشكل كامل إلى هذا النمط كما هو الحال في الكتابات الأدبية الغربيّة التي أفرزت أسماء وأعمالًا هامة ورائدة لا يزال العثور على مثيل لها في الأدب العربي محلّ استشكال على صعيد النقد العربي.
حاولت بعض الكتابات لجيل من شباب الأدباء العرب الإفلات من قبضة تلك النظرة وهيمنتها، ومن ثم ظهرت أعمال أدبية بوليسية في إطار التعريفات والمُحددات النقدية المُلتبسة بالفعل لهذا المفهوم، كما أن كثيرًا من هذه الكتابات حظي بتنويعات مُتعددة في الثيمات والأفكار البوليسية، وحاول كل كاتب أن يأخذها إلى منطقته الأثيرة ليُقدِّم أدبه البوليسي المُتعانِق مع تجربته الإبداعية، فنحت بعض الأعمال منحى بوليسيًا نفسيًا، وأعمالٌ أخرى عمدت إلى البوليسية الرومانسية، وآخرون تركّز اهتمامهم على البوليسية كتجلّ لرواية الجريمة، فيما اختار آخرون أن توظف أبرز التقنيات البوليسية وكذلك الأجواء العامة في إطار أعمال أدبية لا تتخذ من الجريمة فقط موضوعًا لها، وإنما تتعانق مع قضايا سياسية أو تاريخية أو حتى اجتماعية في إطار بوليسي يتكئ بشكل رئيسي على التشويق والإثارة والمغامرة.
“الجديد” ترصد لتجارب بعض شباب الأدباء في كتابة ذلك النمط الأدبي المنبوذ من قِبل أجيال سابقة له في محاولة للتعرّف على نوعية الكتابات الجديدة لهذا اللون الأدبي المزدهر غربيًا والمغبون عربيًا.
الخلفية الشعرية
الكاتبة الجزائرية أمل بوشارب والتي كتبت رواية بوليسية بعنوان “سكرات نجمة” تتحدّث عن تجربتها قائلة: الرواية البوليسية هي المحك الحقيقي لاختبار قدرات الكاتب السردية. وبالنسبة إليّ روايتي “سكرات نجمة” كانت هي ورقة الاعتماد التي قدمتها للقارئ في هذا الصّدد. والحقيقة أنني اخترت في تجربتي السردية التواصل مع القارئ، لا تكريس القطيعة، وذلك من خلال عبور المسالك الشعبية في الأدب المعاصر على غرار “الثريلر” وروايات التشويق بأنواعها من أدب بوليسي إلى أدب الخيال العلمي وغيرها، والتي تمثّل برأيي القناة الأنسب لخلق حوارية فاعلة بين الشعبي والنخبوي، وهو ما من شأنه ترميم الشرخ الحاصل بين المثقف والقارئ، من حيث أنها لا تشعر الأوّل بأنه يخاطَب من عل، وتدرّب الثاني على فكرة عدم مركزيته المطلقة.
المقاربة ليست شكلية على الإطلاق فهي لا تقتصر على محاولة صنع إطار شعبي محبّب لأفكار نخبوية متعالية بقدر ما تسعى لتفكيك ثنائية الكاتب/القارئ، في محاولة للخروج بوصفات سردية يتناغم فيها صوت العقل المبدع وكلّ ما يحمله من زخم وعمق وتميز مع خلفية إيقاعات شعبية متجانسة وكل ما تنطوي عليه من دفء ونكهة جامعة.
تعتقد بوشارب بأن الإنتاج الروائي البوليسي في العالم العربي ليس بالغزارة إلى الحدّ الذي يدفعنا لتحميله تقسيمات فرعية على غرار رواية بوليسية تكتبها المرأة وأخرى يكتبها الرجل، فليس ثمة سبب واحد وإنما جملة من الأسباب تقف وراء الشحّ في النتاج الروائي البوليسي في بلداننا. قد يكون أهمها الخلفية الشعرية للكاتب العربي عموما والتي تجعله يرى في الرواية منفذا من منافذ التعبير اللغوي ومساحة رحبة للتدفق الذاتي والوجداني لتتحول الرّواية معه إلى ميدان مفتوح لصنع الاستعارات ورصف المجازات، حيث تغدو اللغة هي البطلة المطلقة للعمل ومحرّكه الأول، أما الحبكة فهي صاحبة الدور الثاني أو ربما الثالث وقد تسقط في بعض الأعمال إلى رتبة الكومبارس. في حين أن الرواية البوليسية رواية تستدعي مهارة عالية في الحبك، عقلية رياضية منضبطة وتنفيذ متقن للحركات الثلاث في الفعل الدرامي وهو ما يتطلّب إحاطة كاملة بتقنيات السّرد وقدرة بالغة على ضبط إيقاع الأحداث من دون الشطط في هواء اللغة الطلق، والأهمّ من كل هذا وذاك الإتيان بفكرة خلاقة لتكون هي العمود الفقري للعمل، بالإضافة إلى براعة كبيرة في صنع شخصيات متمايزة قادرة على تحريك الأحداث وتحويل مجرياتها، وهذا ما لا يمكن تحققه عندما يكون الروائي سجين ذاته الشعرية التي عادة ما تتناسل عنها شخصيات تكاد تكون متطابقة في كل أعماله الروائية.
من ناحية أخرى، وإن لم يكن شاعرا، نجد أن الكاتب العربي يميل إلى فعل التنظير أثناء الكتابة فنجده في رواياته وكأنه يقف على المصطبة على غرار معلمي القرن الذي مضى، يبشر بكيت وكيت من المذاهب الفكرية، وأحيانا كثيرة يتمّ ذلك على نحو فجّ وصريح دون أيّ مراعاة لمتطلبات “الرهافة” في فعل الإبداع. هذا النوع من الكتاب يرى نفسه -وإن لا شعورياـ المفكّر البارز والمثقف الوازن الذي يتوقع من القارئ أن ينصت له كتلميذ مجتهد يهفو لتحصيل العلم منه باعتباره سلطة فكرية متعالية. وبطبيعة الحال، هذه الصورة المتسامية عن الذات الكاتبة، لا يمكن أن ينتج عنها رواية بوليسية قائمة بالأساس على فكرة الاستثمار في ذكاء القارئ، وليس في دونيّته الفكرية. ذلك أن كتابة رواية بوليسية هي اعتراف للقارئ بقدرته على مجاراتك الفكرية وهو ما يخلق ديناميكية تشاركية في صناعة العمل من خلال فعلي الكتابة والقراءة بالتساوي، الأمر الذي لا يمكن لروائي يكتب من برجه العاجي تمثله لأنه من شأنه إفقاده ما يتصور أنه مكانته الأرفع على حساب القارئ في معادلة صناعة الفكر.
ترى بوشارب أنه ليس علينا أن نُسلّم بضرورة استنساخ التجارب الإبداعية وتوزيعها بالعدل على أقطار العالم. أجاثا كريستي كاتبة ذات تجربة فريدة من نوعها، من الجميل أيضا أن نفكر بأنها لن تكرر، ونستمتع باكتشاف تجارب إبداعية فريدة أخرى دون محاولة عقد مقارنات بينها.
وتوضح: بتقديري الإحجام عن خوض الكتابة البوليسية في العالم العربي مردّه ميل الكاتب العربي عموما لعدم الإصغاء لصوت المجتمع وتحوّلاته لأنه يعتبر أن صوته يفترض أن يعلو على كل شيء. وفي المقابل نلاحظ تبعيته الشديدة للنقد الذي توقفت عقاربه لدينا في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن العشرين حيث كان يعتقد فيها أن الأدب البوليسي أدب من الدرجة الثانية، وذلك طبعا قبل أن يقلب المعادلة أمبرتو إيكو برواية “اسم الوردة”، وتتغير بعدها نظرة النقد الغربي لأدب الجريمة و”الثريلر” بصفة عامة، وحيث تمكنت في السنوات الأخيرة روايات مصنفة على أنها بوليسية من افتكاك جوائز عريقة كالغونكور في فرنسا وبوكر العالمية. في حين يبدو وكأن الكاتب العربي لا يزال “يُطلب” منه أن يعيش خارج ديناميكية الإبداع العالمية. فنجد المرأة مُصرّة على طرح مواضيعها النسوية من زوايا عفا عليها الزمن، وكذلك هو الكاتب الرجل الذي لا يزال يتباكى فيها على حال المجتمع من خلال سرديات مكرّرة، وذلك ربما لأنه يرى في قدرته على إضجار القارئ دليل على عدم الخضوع له. والأرجح أن فكرة الإمتاع البحتة التي تنطوي عليها الكتابة البوليسية والخوف من صنع لذة القارئ بهذا الشكل الصريح قد تكون وحدها كافية لإبعاد الكاتب العربي عن هذا الجنس الأدبي. فالكاتب العربي مقتنع أن مهمته الأساسية هي أن “يصدمك” و”يعرّيك” و”يزجرك”، لا أن يصنع متعتك الفكرية. وهذا برأيي أحد أكبر تجليات القطيعة التي نعيشها في العالم العربي بين المثقف ومجتمعه.
مسايرة السوق
عمرو الجندي، روائي مصري شاب من مواليد 1983، نجحت أعماله الروائية في أن تنال اهتمام قطاع جماهيري كبير وفي اعتلاء رفوف “الأكثر مبيعًا”، يؤمن أنه لا ينبغي أن توجد أيّ محاذير لأيّ نوع من أنواع الكتابة، فالمحاذير تفقد الكتابة رونقها، وأيّ محاولة لتحجيم الكاتب أو الالتفاف حول ما يودّ قوله ستعمل على إفساد العمل.
يرى الجندي أن الأدب البوليسي يحتاج لعقل واع وأسلوب متفرد ورسم أكثر من سيناريو على الورق الذي من خلاله يتم تقديم العمل، فالأدب البوليسي ليس مجرد حكاية بحث عن القاتل، بل يمكن اعتباره غطاء لمناقشة العديد من القضايا، وهو ما يتبين بوضوح من خلال أعمال دان براون التي يناقش من خلالها عالم الرموز والعقائد المركب على سبيل المثال.
الرواية البوليسية رواية تستدعي مهارة عالية في الحبك، عقلية رياضية منضبطة وتنفيذ متقن للحركات الثلاث في الفعل الدرامي وهو ما يتطلّب إحاطة كاملة بتقنيات السّرد وقدرة بالغة على ضبط إيقاع الأحداث من دون الشطط في هواء اللغة الطلق
ويتابع: دائما ما تنطوي الرواية الكلاسيكية على الجانب العقلي والأخلاقي الذي يتقيّد به أدباؤه ونستطيع أن نقول بأن مصطلح الرواية الكلاسيكية قد تم إطلاقه في الأساس ليكون مضاد للرواية أو الأدب الشعبي، بينما الرواية البوليسية لا تتقيد بهذا النوع ولكن على جانب آخر سنجد أن بعض الأدباء استطاعوا أن يخرجوا لنا أدبا جمع بين الكلاسيكية والبوليسية مثل أجاثا كريستي التي كانت تتمتع بحرفية لا يضاهيها أيّ قلم حتّى الآن، بينما على جانب آخر نجد أن الرواية البوليسية تحتاج لفنيات معقدة في التحليل والكتابة والتكنيك وغيرها من الأمور لأنها تعتمد بشكل كامل على عنصر التشويق الذي اختلف شكله بل صارت له مدارس مختلفة.
يشير الجندي إلى أن قلة هذا اللون الأدبي في الكتابات العربية ترجع إلى صعوبة إتقانه، كما أن السوق أحيانًا ما يتحكّم في تطلعات الكتاب وخصوصا الشباب منهم، بما أنه لا يوجد كاتب عربي تميز بهذا النوع ليتخذوه مثلا قدوة أو منارة لهم في هذا النوع فقد اكتفوا بالالتفاف حول السوق ومسايرته، كما أن القارئ العربي ما زالت لديه عقدة “الخواجة”، فيطلق على كل من يرتبط بهذا النوع من الأدباء العرب بأنه مثلا المحقق كونان وهذا أمر يدعو للسخرية والإحباط بشكل كبير.
ويستطرد: رغم ذلك أكاد أجزم بأن هناك من سيبرهن على وجود هذا النوع من خلال تنوّع فروع الآداب الذي نراه في الوقت الحاضر، أما عن تجربتي فقد كانت مغايرة تقريبا لكل ما قُدِم من الآداب حيث قرنته بالأدب النفسي في رواية “313” وحققت نجاحًا كبيرًا، وكان ذلك النمط ما قامت عليه رواية “مسيا”، بينما رواية المحقق السري التي قدمتها في “الغرباء” فهي مستمرة مع القارئ حيث سيصدر الجزء الثاني والثالث منها خلال هذا العام.
هيمنة السُلطات
الروائي الفلسطيني الشاب محمد هاني أبوزياد، من مواليد 1993، قدّم رواية “المأدبة الحمراء” التي تعدّ الرواية البوليسية الأولى في فلسطين برأيه، ورواية “الوشاح الأسود” التي تقترب من عالم الجريمة بشكل واضح، ويرى أن الرواية الكلاسيكية صارت مبتذلة بأفكارها وعناوينها ومواضيعها وكل ما تحتويه تقريبًا، والسبب في هذا هو توجه النسبة الأكبر من الكتاب لكتابتها، مما صنع فرقًا شاسعًا بين هذين التوجهين الأدبيين، كما أن التميز والإبداع اختفى من الرواية الكلاسيكية بعكس الرواية البوليسية، والسبب هو أن الأفكار في الكلاسيكية مستهلكة ومتكررة مما يمكّن القارئ من التنبؤ بمجريات وتسلسل الرواية الكلاسيكية بعكس غيرها من التوجهات الأدبية.
ويعزو أبوزياد قلة الكتابات في جنس الرواية البوليسية لعدة أسباب؛ فالروائي العاقل والأديب المتقن لعمله يدرك بأنه سيترك أثرًا في روايته على قارئها مما يجعله يخشى كتابة الأدب البوليسي. كما أنه في العالم العربي قلّ ما نرى الجرائم بحبكتها الكاملة، ناهيك عن الجهل بمعالم الأدب البوليسي وتقسيماته إلى أدب جريمة وأدب غموض، وعدم وجود معرفة ووفرة كافية في المعلومات التي تمكّن الكاتب من الخوض في عالم هذا الأدب، فضلًا عن الطبيعة الاجتماعية والخلق الديني لدى العرب بشكل عام وبنسبة كبيرة تميل للاستقرار الاجتماعي والنفسي ممّا يُمكن الشخص من التفكير بمنطقية عند الوقوع بالمشاكل فيجد حلًا لها خيرًا من اقترافه لها مناقضًا له فقدان السيطرة والخروج عن الوعي لدى العرب مما يؤدي لإبطال الحبكة فتصبح مجرد جريمة واضحة المعالم يختص بها القانون.
يشير أبوزياد إلى أن هناك حذرًا قد يستدعي صرف النظر عن كتابة هذا الجنس من الأدب وهي السلطات الحاكمة في الدول العربية خاصة والعالمية عمومًا فحتى القضاء يحق له استجواب الكاتب إذا ما كانت روايته مقتبسة عن حقيقةٍ ما، وكذلك رجال الدين الذين قد يحاربونه. كما أن من يحق له كتابة هذا النوع من الأدب لا بد له من فهم الشخصيات البشرية والنفسية التي تتحكم بالعقل الذي سيقوم بإعطاء الأوامر للجوارح ليفسّر الفعل وردّة الفعل البشرية، وهذا أمرٌ معقدُ جدًا لا يتقنه الكثيرون.
مشاكل النشر
الكاتب المصري الشاب رائد يونس، صدرت له رواية “مقتل طفل جدة” و”لغز الجريمة الغامضة”، وهو عضو جمعية كُتاب الجريمة البريطانية، يعتقد بأن القارئ العربي يُفضِّل قراءة الروايات المترجمة عن الروايات العربية ويتحمّل النقاد الجزء الأكبر من قلة تلك الأعمال؛ فهم يرون أن الرواية البوليسية من أدب التسلية ولا ترقى بالأدب مع أن للرواية البوليسية دورًا مهمًا في تربيه النشء، كما أن نشأة ذلك النوع في إنكلترا والطّريقة التي يعمل بها المحققون على غرار شارلوك هولمز وهيركول بوارو يرى القارئ أنها من المستحيل أن تتم في عالمنا العربي .
لا يؤمن يونس بوجود اختلاف كبير بين الرواية الكلاسيكية والبوليسية، فكاتب الروايات البوليسية يجب أن يكون مُلمّاً بطرق التحقيقات الجنائية وعلم النفس الجنائي كما يجب أن يكون على دراية بعلوم الإجرام باختلاف مجالاتها برأيه، أما الرواية الكلاسيكية فلها أسلوبها المتميز في السرد وحبك الجمل فيما تعتمد الرواية البوليسية بشكل كبير على التشويق ما بين السطور .
وعن تجربته في كتابة الرواية البوليسية يقول: واجهت مشكلة كبيرة في قبول دار نشر لروايتي الأولى “مقتل طفل جدة”، وكان الجواب واحد عند الجميع وهو الخوف من تقديم ذلك النوع من الأدب لكونه جديدًا على عالمنا العربي مع أن روايات الكُتاب البوليسيين العالمين من الكتب الأكثر مبيعًا، إلا أنني عرضت روايتي الأولى مع مركز الأدب العربي، وبعدها تشجعت لروايتي الثانية مع “الدار العربية للعلوم” اللبنانية ووجدتهم متفهمين جدًا لذلك النوع من الأدب ومتحمسين لتقديمه، والآن أنا بصدد إصدار روايتي الثالثة “جريمة في أرض الجولف” معهم ؛ أحببت أن أكوّن شخصية أسطورية لمحقق عربي وهو بطل رواياتي الثلاث “المحقق فهد صالح” من النيابة العامة السعودية، وقد وضعته على شاكلة شارلوك هولمز وهيركول بوارو ولكن بمواصفات عربية أصيلة.
بصمة خاصة
الكاتب المصري أمير عاطف، من مواليد 1984، أصدر عددًا من الروايات مثل “طارئ”، “لا شيء مما سبق”، “لوغاريتم”، “لا تبدأ القتل”، يرى أن الأدب البوليسي يحتاج إلى عقلية لها مواصفات خاصة؛ عقلية تستطيع نسج حبكة معقدة وقصة شيقة ومثيرة فيخدع القارئ “بمنطقية” في النهاية. وليس كل الكُتّاب يملكون تلك العقلية. لأنها برأيه في حوالي 20 بالمئة فقط من الكتّاب.
علينا أن نُسلّم بضرورة استنساخ التجارب الإبداعية وتوزيعها بالعدل على أقطار العالم. أجاثا كريستي كاتبة ذات تجربة فريدة من نوعها، من الجميل أيضا أن نفكر بأنها لن تكرر، ونستمتع باكتشاف تجارب إبداعية فريدة أخرى دون محاولة عقد مقارنات بينها
يشير عاطف إلى أن الرواية الكلاسيكية يغلب عليها طابع الحكي، الحكي الهادئ، سرد مشاعر الشخوص وتفاعلاتهم فيما بينهم، مجرد قصة يرويها الكاتب على لسان الراوي. ومع ذلك توجد روايات كلاسيكية كثيرة تغلب عليها الإثارة والتشويق. بينما الرواية البوليسية تعتمد على قصة شيقة وعقدة تبدو للقارئ أنها لن تحلّ، وفي النهاية تتفكك تلك الخيوط بسلاسة ومنطقية أمام القارئ الذي ظل يفكر طوال قراءة الرواية في الحلول، وفي النهاية يتفاجأ أن كل ما فكر فيه لم يحدث، بل حدث شيء آخر تمامًا، حينها يكون الكاتب قد نجح.
يقول عاطف: من الخطأ أن يسعى أيّ كاتب إلى أن يطلق عليه القارئ أنه شبيه بكاتبٍ ما، لأن الهدف الأكبر لأيّ كاتب هو أن يكون هو، ببصمته الخاصة. وأنا أرى أن هناك كُتَّابا عربا كُثُرا رائعين في كتابة روايات بوليسية. منذ أن وعيتُ على القراءة كنت أتمنّى أن أكتب رواية مثل رواية “الواجهة” للدكتور يوسف عزالدين عيسى، رواية حبست أنفاسي من الصفحة الأولى إلى أن وصلت إلى كلمة تمّت. وروايات معاصرة مثل روايات غيوم ميسو، دان براون، جي كي رولينج.
بعدها انبهرت بالأفلام التي تحمل طابع الإثارة والتشويق وسألت نفسي هل أستطيع نسج حبكات كهذه؟ هل أستطيع أن أكتب رواية أجعل كل من يقرأها تٌحبس أنفاسه ويتجمد الدم في عروقه؟ … من السهل أن أشاهد فيلما رائعا مغمورا وأكتبه كرواية. ولكن من الصعب جدًا أن يخلق الكاتب رواية بوليسية بها إثارة وغموض وتشويق من داخل دماغه، من بنات أفكاره، إنه أمر صعب ومرهق ومتعب جدًا. والمتعب أكثر أن يكتب الكاتب رواية وتنجح، فينتظر منه القارئ رواية أخرى ليرى هل سيستطيع الكاتب خداعه وإبهاره أم لا، وهنا عليه أن يكتب رواية أروع، بشكل ما. كل ما فعلته هو أنني وقفت في غرفتي، أمام سبورتي البيضاء، وكتبت جملة واحدة لنفسي “مطلوب منك كتابة رواية بوليسية لا تشوبها ثغرة لتبهر ذلك القارئ وتخدعه” بعدها.. افعل.
شيطان الجريمة
الروائي السوداني عماد البليك يتحدث عن تجربته قائلًا: لا يمكن لي أن اسمّي نفسي كاتبًا بوليسيًا، لكن أحاول أن أوظّف أو أستفيد من الحبكة البوليسية في بعض أعمالي وليس كلها. اشتغلت على ذلك في رواية “دماء في الخرطوم” التي قامت على جريمة قتل، لكن من البدء كان معلومًا من قتل، وربما لماذا؟ وهذا يخالف قاعدة الرواية البوليسية، لهذا فإن الجريمة هنا مجرد كاشف للبنيات الاجتماعية والتعقيدات النفسية في الشخوص، أي أنها إطار بنائي للتحايل على الواقع ومحاولة فهمه. من الممكن لي، وقد جربت بعض الكتابات عن فضاءات غير عربية بحتة تدور فيها جرائم ومن ثم تعالج بالشكل البوليسي، أن أقول إنه يمكن لي أن أكتب رواية بوليسية وكثيرًا ما فكّرت في ذلك سواء برواية أو سلسلة في هذا الباب، لكن السؤال هنا هل سيكون ذلك أدبًا له أولوية، وهل سينظر القارئ إليه بجدية أم سيراه نسخة أخرى من الرواية المترجمة؟.. هناك إشكاليات يصعب الحديث عنها في مساحة مختصرة تتعلق بالتجريب والكتابة -عمومًا- ماذا نريد منها أو تريد منا؟ وأمور تتعلق بالوعي العام بفكرة النص الأدبي سواء كان بوليسيًا أو كلاسيكيًا، نحن في مساحات من الحسرة والظنون. إننا لازلنا نتخبط.
يرجع البليك قلة الأعمال الأدبية البوليسية إلى عدد من الأسباب على رأسها السياق العام للمجتمعات العربية التي لم تتخلص بعد من معالجة الإشكاليات اليومية على الأقل، فأغلب النصوص الروائية العربية تشتغل على التجارب الذاتية والمُعاش، وهي تدور في فلك الأسئلة السياسية والمجتمعية، حيث أننا لا نزال مجتمعات لم تحل بعد مشاكلها الاعتيادية. أيضا فإن هذا النوع الروائي يتطلب تقنيات ومعرفة محددة لا تتوفر للكاتب العربي الذي يجنح إلى السهولة في أكثر الأحيان ولا يريد التجريب أو المغامرة، وهناك ما هو أبعد من ذلك في قراءة الظاهرة حيث أن نمط الثقافة العربية كما يرى الكاتب الكبير رؤوف مسعد يقوم على ربط فكرة الجريمة بالشيطان وأن هندسة الثقافة العربية تقوم على تأجيل العقاب على الشرّ بخلاف ما يحصل في الثقافة الغربية التي هي أرضية ومنطقية لا تتداخل فيها شروط الغيب. باختصار يمكن القول إن الموضوع يتعلق بجملة من الأسباب الهيكلية منها ما يتعلق بالمناخ الثقافي العام، وهناك ما يرتبط بثقافة الكاتب وطبيعة المجتمع حتى في تعاطيه مع الشر وأخيرًا تقنيات الكتابة والأدوات الفنية.
الحديث عن كاتب متخصص سواء في الأدب البوليسي أو الخيال العلمي أو التاريخي أو غيره لا يزال ربما أمرا بعيد التحقق في الوقت الراهن، وهذا أيضا يرجع إلى طبيعة الذهن العربي في التعاطي مع الإبداع بوصفه حرفة وعملًا مؤسسيًا، للأسف هذا غير قائم في بلداننا
ويرى أن هناك محاذير تتعلق بالرؤية الكلية للحياة والوجود، كيف تنظر الثقافة العربية إلى مفاهيم كالخير والشر، هذا من إطار واسع. ومن إطار ثانٍ هل توجد ثقافة المخبر الحقيقي داخل السياق الجنائي العربي، هل لدينا أساسًا داخل المجتمعات العربية هذه التجربة الحقيقية لكتابة هذا الجنس الأدبي، فنحن حتى في التعامل مع تفكيك فكر الجريمة ضعفاء جدًا، فالمافيا التي توجد في الغرب مثلًا ليس لها وجود عندنا بالمعنى المعقد، كذلك حتى أسلوب القتل قد يكون بدائيًا لم يغادر فكرة الذهنية العربية البسيطة التي تقوم على تفريغ الغلّ والضغائن والثأر، ويحدث ذلك حتى على مستوى أجهزة القمع التي تنتجها الدولة وتحرس السلطة. ومن المحاذير الأخرى الخوف القابع، ذلك الرقيب الذي يسكن الكاتب العربي ويبعده عن المغامرات الكبيرة في اختراق الوصايا في فعل الكتابة الإبداعية.
ويتابع: هناك اختلافات مركزية وأساسية ما بين الأدب الكلاسيكي والرواية البوليسية، فالأدب التقليدي عبارة عن رواية ذات طابع إنشائي لغوي، وتحفر في المشاعر الإنسانية وتهتم بالبناء النفسي والأمكنة والأزمنة وغيرها من الأفكار المتعلقة بتقنيات كتابة الرواية كما هو معروف. أما في الرواية البوليسية فهناك شروط تتعلق بالحبكة البنائية التي تقوم على خيوط محدّدة مترابطة بحيث يبدأ الأمر بلغز معيّن إلى تفكيك ذلك اللغز في النهاية والعثور على القاتل مثلًا من خلال الاستقراءات والدلائل التي يجمعها المخبر، وهذا يعني أن اللغة هنا وظيفية أكثر منة كونها ذات بعد يتعلق بالعواطف والتأثير، حتى لو أن البعض قد يخرق هذه الفكرة. أيضا فالمساحة العامة للنص لا تسمح بالثرثرة أو الفراغات التي تحتملها الرواية الكلاسيكية، كما أن هناك أمورًا تتطلب دربة كبيرة في المعرفة بها من المسائل القانونية والتشريعات وحتى ثقافة أن تقتل! كل ذلك يجعلنا أمام عمل محكم وله بعد علمي ومعرفي من حيث التحضير أكثر من الاستناد على مجرد التخييل والذاكرة كما في الأدب الإنساني والرواية المعروفة بشكلها العام.
الأسباب التي ذكرت أعلاه تشير إلى ذلك، ما يتعلق ببنى الثقافة العربية، طبيعة المجتمعات والذهنية الجمعية، أيضا فكرة الكاتب وتعريفه وهل الكتابة نفسها فعل له مردود حقيقي بحيث يتفرغ كاتب لهذا النوع من الأدب لو افترضنا أنه أزاح المحاذير والقيود المذكورة. نحن نعيش في واقع سياسي واجتماعي متقلّب وتصعب السيطرة عليه، ونحن أسرى الخوف في بلداننا ويصعب علينا أن نتحرّر بسهولة لنكتب ما نريد. فالحديث عن كاتب متخصص سواء في الأدب البوليسي أو الخيال العلمي أو التاريخي أو غيره لا يزال ربما أمرا بعيد التحقق في الوقت الراهن، وهذا أيضا يرجع إلى طبيعة الذهن العربي في التعاطي مع الإبداع بوصفه حرفة وعملًا مؤسسيًا، للأسف هذا غير قائم في بلداننا. وهنا نقطة جديرة بالنظر فيها هي ثقة القارئ العربي نفسه في الكاتب العربي، أنه يمكن أن يقدم هذا النوع الأدبي، نحن نفتقد للتشجيع والعقلية البنائية والداعمة ما يجعل كثيرا من المغامرات تجهض قبل أن تبدأ حتى بين قبيلة الكتّاب أنفسهم الذي يدمرون بعضهم البعض، فمجرد الفكرة إذا طرحت من قبل أحدهم على الآخر تعني سخرية منه وقتلا للمعنويات قبل الشروع في البدء.