الرواية البوليسية والرواية الكلاسيكية
بداية أنا أتحفظ على كلمة رواية بوليسية، فكل رواية يُمكن أن تكون بوليسية ورومانسية وتاريخية وغير ذلك في آن واحد.
الرواية حياة، أو نقل لجانب من الواقع المزدحم بكل ذلك. لا يمنع أن يكون بطل رواية ما مُجرما ويعيش قصة حب في آن واحد. وأتصور أن الرواية أوسع من أن تُصنف أو تُحصر في إطار.
وفي تصوري يمكن أن تشتمل الرواية على أجواء جريمة أو حادث أو عمل سياسي سري وهو ما يجعل الأمر يبدو مختلفا بشكل ما عن رواية تتناول حياة طبيعية أو إشكاليات اجتماعية أو فكرة فلسفية.
والروايات التي تتناول الجريمة في ظني تتطلب محاولة أكبر من الكاتب كي يبدو حياديا، لا يدين ولا يتهم ولا يحاول أن يبدو واعظا، وهو ما يدفعه أن يبتعد بشكل ما عن فكرة أن يكون الراوي هو البطل، ليستخدم التكنيك الأبسط المعتمد على الراوي العليم غير الموجود ضمن شخوص الرواية، أو أن يستخدم فكرة تعدد الأصوات ليُقدم وجهة نظر مرتكب الجرم، وبنفس القدر يقدم وجهة خصمه أو مَن يدينه.
والاستحضار للكتابة يستلزم إما معايشة واقعية لنوع غريب من البشر قد لا يقابله الكاتب في حياته وهو المجرم، أو قراءة سمات إجرامية لشخص ما ومتابعة علم النفس الخاص بالإجرام بشكل عام.
وأعتقد أن صعوبة اختلاط كثير من الكتاب بمجرمين حقيقيين يُصّعب المهمة، خاصة أن المفترض تعاملهم مع فئة المجرمين بحكم أعمالهم قلما يتجه أحدهم إلى الأدب، ويلاحظ أن جزءا كبيرا من جمال رواية توفيق الحكيم “يوميات نائب في الأرياف” أنه عاش بالفعل جانبا كبيرا منها.
ولمّا كان المجرمون يتغيّرون في سماتهم ويتطورون من زمن إلى آخر، فإن التعرف على سماتهم وعصارة أدمغتهم صار صعباً ويستلزم جهدا مضاعفا من الكاتب، وهو ما يمكن أن يفسّر تراجع الروايات التي تتناول الجريمة في الآونة الأخيرة، وإن كانت كثير من الكتابات الشابة الذائعة التي تستهدف الجمهور بغض النظر عن المتعة الأدبية تحاول تقليد ثيمات غربية معتادة في أفلام هوليوود.
وفي كثير من الأحيان، فإن الكتابات التي تتناول جزءا من ذلك تبدو غير واقعية أو غير منطقية.
ويختلف الأمر كثيرا لو كان التعامل مع الأمر تاريخيا، وهو ما خضت معه تجربة شخصية في رواية “نيتروجلسرين”، فقد كان لزاما عليّ أن أقوم برحلة بحث عن شخصية قاتل حقيقي التقى به البعض وكتب عنه كثيرون، كما كان لزاما عليّ أن أطّلع على نصوص تحقيقات قضيتين تخصانه هما قضية اغتيال أمين عثمان سنة 1946، وقضية تنظيم محاولة قلب نظام الحكم في 1965، ولم يكن الوصول إليهما في معهد الدراسات القضائية صعبا، لأتعرف على نمط إجاباته على الأسئلة وأستنبط جانبا من طريقة تفكيره، فضلا عن قراءة صوت الضمير داخله من خلال ما يقدمه من تبريرات -يعتقد أنها عادلة- لجريمته.
إن جريمة القتل عندما تكون سياسية فإن هناك جانبين لقراءتها أحدهما قد يغفر للمجرم إجرامه، بل وأن يحوّله إلى بطل وضحية، خاصة إذا استطاع حشد كمّ من التّهم والتفسيرات المسيئة لأفعال المجني عليه. لذلك فربما يختلف الأمر كثيرا في التعامل أدبيا مع المجرم أو القاتل المسيّس عن القاتل الجنائي الذي يقتل انتقاماً أو حقدا أو لأيّ سبب آخر.
قراءة تحقيقات النيابة في الجرائم الحقيقية تدفعك أيضا إلى قراءة ما كتب عن جرائم أخرى في نفس الزمن لا علاقة لها بالموضوع لكنها قد تكون مفيدة في تعريف الكاتب بأنواع أسلحة معينة تستخدم في جرائم القتل: ماركات مسدسات، أو بنادق أو غيرها. فضلا عن أفلام وأعمال فنية معاصرة قد تؤثر في خيال القاتل، كُتب وقصص وأغان وخلافه. ذلك تصوري ورأيي الشخصي. ولك مني غاية الاحترام والمحبة.