الأدب البوليسي بين التمرد والاستهلاك
إنَّ رحابة سماء الخيال تُبنى على ما أُنجز على الأرض، وكلّما شطّ الخيال بصاحبه وحاول التفلُّت من القيود التي تكبحه رفضه الواقع بعنف.
تنشأ الكتابة الأدبية من القارئ وليس من المؤلف، فالذائقة العامة التي دجّنتها ثقافة الاستهلاك وسَطَت على جمالياتها نجحت في السيطرة على مقدّرات الناس حتى طالت أخيلتهم، وهذه ليست ظاهرة عربيّة؛ بل عالميّة، وتعني العالم الغربي الأكثر حضارة وتمدُّناً.
لقد أضحت الكتابة ردّ فعل لهذه الذائقة (المسخ)، وليست فعلاً يبدأ من عند المؤلف. الإشكاليّة تكمن في أننا من الممكن أن نجد أدباً بوليسيّاً في منتجنا العربي الإبداعي، لكنه يكون مُتضمَناً في الشكل والنص وليس متخصِّصاً، وهذه مسألة طبيعية فما زال ديدن الكاتب العربي هو محاكاة الواقع الاجتماعي الذي ينتسب إليه، فالقارئ العربي هو المكمِّل بالتوجُّهات الفكريّة للمؤلف العربي، وهو على انخفاض نسبته مقارنة بعدد العرب يميل مثل المؤلف لقراءة ما يعني وجوده وما يستثير فيه الرغبة في المعرفة وكتابته.
إنَّ طباعة ملايين النسخ من رواية في أميركا ودول أوروبا، وما يلاحظه الزائر لبلدان هذا العالم من انكباب الناس على القراءة في وسائل النقل، والحدائق العامة، والمكتبات الواسعة الانتشار، لا يعكس كمّ القراءة هذه في وعي الناس هناك.
من هنا يمكن لنا أن نفصل بين أدب الاستهلاك وأدب التمرُّد. في النوع الاستهلاكي يصبح البطل البوليسي شخصيّة قادرة على حل المشكلات الصعبة والمستعصية بقدرات خارقة، ويصبح أكثر أهمية من شخصيات يكتبها روائي متمرِّد بواقعية اجتماعية مفصّلة نفسياً وطبقيّاً وفكريّاً، على الرغم ممّا تحتويه من جماليات الإبداع الفني والإنساني.
لقد حوّلت المجتمعات الرأسمالية شكل الثقافة الإنساني إلى صورة ذاتيّة منغلقة، كما أنها أوغلت في صناعة أدب وفن تكمن قيمته في الإثارة والتشويق، وليس في إعمال الفكر أو البحث في الوجود بكليّته، أو بخصوصيّة المجتمعات التي يُنتج منها. أمّا الروايات التي يصل أصحابها لجائزة نوبل فهم أدباء خارجون عن النص العام، ولا تحقِّق مبيعات كتبهم مهما ارتفعت ما تحققه رواية بوليسيّة تمّ الترويج لها.
قد أنحو صوب تفسير متطرف لسبب غياب الأدب البوليسي العربي إن أضفت بأنّ مفهوم العيب والحرام يشارك في لجم هذا النوع من الأدب وإسكاته. لأنّ هذه العملية ليست مشروطة بوعي الكاتب وحسب، بل بالوعي الجمعي للشخصية العربية. فالأدب البوليسي يتكئ عامة على الجريمة التي هي فعل لا أخلاقي بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة. ففي حال مَلَكَ الكاتب العربي مواد جريمة حقيقيّة مثيرة ومشوّقة فإنه لن يكون من السهل عليه أن يمتلك الجرأة لكشفها من خلال النص، فهو يُدفع دفعاً للترميز والتورية لكي لا يقع في مأزق التعدي على التابوهات لكي ينقذ نصه من التهشُّم، وهذا ما يُفقد النص القيمة الأهم في الكتابة البوليسيّة؛ التشويق.
تظلّ العقدة الأكبر قابعة في مخيّلة الكاتب والقارئ العربي، فعند الحديث عن جريمة بشعة واقعيّة نجد أنّ مخيال القارئ العربي لا يصدِّقها أو هو من باب تنزيه الشخصية العربية لا يرغب في أن يصدقها. إضافة إلى أنَّ ما وصلت إليه حال الإنسان العربي من التردّي لم يكُن إلا بسبب الجرائم العظيمة التي تُرتكب بحقه، دون محاولة البحث في أسبابها بغير ما يمليه عليه الإعلام والتي يسهل عليها تحويل قاتل سادي إلى ضحيّة بريئة أو أن نصنع من الضحيّة مجرماً؛ لأنَّنا أمة سماعيّة وليست قرائية.