هروب الطائر من القفص
يستقيم لنا أن نعتبر اعترافات الشاعر اللبناني أنسي الحاج المنشورة في العدد الـ49 من مجلة “الجديد”، كتابة سيرذاتية بأتمّ معنى الكلمة، وإن جاءت مختزلة جدا ولم تندرج في سياق مشروع سيرذاتي واضح. بيد أنها اعتراف وشهادة. والشهادة والاعتراف ضربان من ضروب السيرة الذاتية، وهما على قصرهما قد يفيدان القارئ بما تعجز أطول السير الذاتية أن تفيده به، وقد يقيمان الحقيقة بما لا تجرؤ أكمل السير الذاتية على أن تقيمه. فما أكثر ما وضع الكتّاب العرب سيرا ذاتية لا تزيد على أن تكون تمارين في الإنشاء واستظهارا للبطولات الجوفاء، وكان المسكوت فيها أبلغ من المعلن وأنصع حضورا، ولم تكن صفحاتها الطوال إلا أقنعة يتناضد بعضها فوق بعض، تدفن في آبار الكلمات البعيدة الغور هشاشةَ الروح وضعف الكيان وتستبدل بهما صورة متصنّعة يشتهي الكاتب أن تكون، ويعرف قبل غيره أنها صورة كاذبة لا يمكن أن تكون.
في هذه الاعترافات تحدّث أنسي الحاج عن شبابه الأول وهو ما يزال على مقاعد الدرس يخطّ شعرا لا يعرف أنه شعر، وتكلّم عن ظروف التحاقه بالهيئة المؤسسة لمجلة “شعر”، وأفصح عن حقيقة تأثره بالشعر الغربي، وحدّد أسماء الشعراء الذين تأثر بهم حقا، وبيّن في مناسبات كثيرة وجوها من تصوره المعقّد لقصيدة النثر. وفي هذه الاعترافات نزع أنسي قناع الشاعر والصحفي المشهور المحترم جدا من القراء والنقاد ومتابعي الحياة الثقافية في لبنان والعالم العربي، وكشف عن جوانب خفيّة من شخصيته قد يسيء بعضها لتلك الصورة النمطية ويفضح بعضها الآخر ما يعمر روح الشاعر من ضعف وهشاشة وما يسكن عقله ووجدانه من تناقض وتنافر وتردّد بين ثنائيات متطرفة ذات اليمين وذات الشمال، لا يجمع بينها إلا من حكم عليه بالجلوس فوق أسنّة الرماح.
سيرة للذات وسيرة لغير الذات
هي سيرة للذات وللمجموعة، سيرة لما تحقق ولما لم يتحقق، سيرة للقراءة والكتابة، وسيرة للمشاعر المخبوءة الغامضة المتناقضة، سيرة للانطباعات والهواجس، سيرة للكتب والصفحات التي صبغها الزمن باللون الأصفر الكابي لكنها ما زالت خضراء نضرة في حدائق الذاكرة.
وهي ليست سيرة للذات بالمعنى المتداول لها، ذاك الذي حدّده الناقد الفرنسي فيليب لوجون تحديدا علميا دقيقا وافيا حين قال “السيرة الذاتية قصة ارتدادية نثريّة يروي فيها شخص واقعي وجوده الخاص مركزا حديثه في حياته الفردية وبوجه خاص في تاريخ شخصيته”. فصاحب هذه الاعترافات لا يروي قصة حياته، بل يصنعها وهو يقدّم شهادته واعترافاته. إنه لا يعود إلى ماضيه الذي استقر واتضحت ملابساته وحفظت أحداثه في خانات السنوات المغلّقة، فيتخيّر منها ما يناسبه هو لا القارئ، من مرويات.
صاحب هذه الاعترافات شخص واحد معلوم هو الشاعر أنسي الحاج، أما المتكلم في هذه السطور الذي يقول أنا ويراوح بين الماضي والحاضر ويتحدث عن الأدب والحياة، فهو أكثر من شخص وأكثر من قائل. إنه جمع من الأصوات وضفائر من الهويات المتداخلة المتصارعة.
بل نشعر أنه يسير في أرض مجهولة ليس على يقين بأنه سيظفر فيها بما ينشده. لقد أخذ في التصريح بهذه الاعترافات وهو خالي الذهن نسيّ لما فرّط فيه، فإذا بالكتابة تجود عليه بما فرط فيه من جديد، وإذا بالحياة تولد من رحم الكتابة في مخالفة تامة للمشروع السيرذاتي التقليدي إذ تجيء فيه الكتابة لتقتل الحياة وهي تتوهم وتوهم أنها تخلّدها. ذلك ما يفسّر لنا كيف نبعت هذه الاعترافات من شهادة أدبية عن ولادة قصيدة النثر العربية، فإذا بها تنتهي عن علاقة الشاعر بالشياطين. ليست الذات هنا هي التي تكتب سيرتها بل السيرة هي التي تكتب ذاتها، فتنتقل بها دون أن تشعر من السطح إلى العمق وتقيم لها الدليل أنّ القصيدة والحياة كلّ واحد متلاحم لا انفصام بين حامله ومحموله. لم يكن في نيّة الشاعر اللبناني وهو يدلي بشهادته الأدبية أن يكتب سيرة ذاتية، فإذا به يسترسل في اعترافات شخصية. لقد انطلق يتكلّم من موقع الشاعر المجدّد والصحفي المرموق والمثقف المحبوب، فإذا به يطرد هؤلاء جميعا ويبحث عن المراهق البعيد الطالب المغرم بالأدب. لقد انفلت من الحاج وهرب إلى أنسي.
رفض الأبوة
صاحب هذه الاعترافات شخص واحد معلوم هو الشاعر أنسي الحاج، أما المتكلم في هذه السطور الذي يقول أنا ويراوح بين الماضي والحاضر ويتحدث عن الأدب والحياة، فهو أكثر من شخص وأكثر من قائل. إنه جمع من الأصوات وضفائر من الهويات المتداخلة المتصارعة.
لقد أراد، نوري الجراح وأمجد ناصر، أن يفتكا من أنسي الحاج وثيقة تفيد بحث أربعة شعراء هم نوري الجراح وأمجد ناصر وسركون بولص وصلاح فائق انشغلوا معا، وخلال أكثر من لقاء في لندن أواسط الثمانينات في البحث عن جذور قصيدة النثر العربية، فحرّضاه سنة 1988 على الإدلاء بهذه الشهادة الأدبية. ولم يكن اختيارهما هذا من باب الصدفة. ففي المقدمة التي وضعها نوري الجراح لشهادة الشاعر ما يبيّن أن الجراح وناصر ذهبا إليه عندما ظفرا فيه بخصال أهّلته ليكون منارة شعرية. يقول نوري الجراح “أنسي الحاج شاعر مؤسس وصاحب تجربة فاتحة في الكتابة الشعرية العربية الحديثة. فهو منذ أن أصدر ديوانه الأول ‘لن’ في سنة 1961 بعد عام واحد من صدور الديوان الأول لمحمد الماغوط ‘حزن في ضوء القمر’ كرّس اسمه في طليعة كتّاب القصيدة الجديدة، وتحول إلى الشاعر الأكثر راديكالية وطليعية في العربية. وبالتالي بات لاحقا، مع أواخر السبعينات خصوصا، الأكثر إغراء بالنسبة إلى شعراء قصيدة النثر العرب الذين أخذوا يفتشون عن أسلاف متمردين في اللغة وعلى اللغة، وصولا إلى ‘نص مضاد’ على حد تعبير بعض النقد”.
فثمة إذن عاملان كبيران يحتوي كلّ منهما عوامل فرعية، دفعا بالشعراء الشباب إلى التوجه نحو أنسي الحاج. العامل الأول موضوعي يتمثل في تميّز تجربة أنسي الحاج في كتابة قصيدة النثر، والتمرد على اللغة، والمكانة التي حازها في مدار الحركة الشعرية الطلائعية العربية. أما العامل الثاني فذاتي يتصل بحاجة الفتيان وهم يخوضون المعركة التي لم تنته ضد القدامة، إلى سند من “الأسلاف” الأحياء، كما يتصل هذا العامل بأهواء الفتيان وبما لا يمكن تفسيره من مشاعر الانجذاب الخاص نحو هذا الشاعر تحديدا وربما دون أسلاف آخرين، وهذا ما عبّر عنه الجراح تعبيرا انطباعيا غامضا في وصفه أنسي الحاج بأنه “الأكثر إغراء بالنسبة إلى شعراء قصيدة النثر العرب”. ولعلّ تفسير هذا الانجذاب كامن في طبع أنسي الحاج الصموت الزاهد في الصخب والمنطوي على نفسه، فلا يحرص على أن يكون قائدا ولا يغريه أن تكون له سلطة مّا على الآخرين. فحدس الشعراء الشباب بأنّ أنسي يمكن أن يكون أبا، لكنه أب سمح ديمقراطي رفيق. ذلك أنّه كان بإمكانهم أن يصطفوا أبا غير أنسي الحاج، ومتزعّمو حركة الحداثة الشعرية العربية كثر، وعرّابو قصيدة النثر جمع. لكنهم آنسوا أنّ صاحب ديوان “لن” هو الأب الأنسب، إذ يمكن أن يشاركهم بكارة أحلامهم دون أن يركنها خلف أحلامه في آخر العربة، ويمكن أن يترك لهم مجالا فسيحا لتعلو أصواتهم إلى جانب صوته. كانت خشيتهم أن يتّخذوا أبا ينصّب نفسه جنرالا عسكريا عليهم ويجعلهم مجرّد مجنّدين في فيلقه.
تعليل هذا “التنصل” من زعامة قصيدة النثر لا يعود إلى تعال من الشاعر ولا إلى تخلّيه عن مبادئه التي قادته وهو ينشر ديوان “لن”
بيد أنّ أنسي الحاج رفض أن يكون أبا، وعمل طيلة شهادته على أن يهرب بجسده من التمثال الذي قد يهيّأ له. فالناظر في الشهادة يلمس عودته في مناسبات كثيرة إلى الحديث عن كتابته ما سيسمّى لاحقا “قصيدة النثر” وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، وعدم توقعه أن يكون ما يكتبه شعرا بأتم معنى الكلمة، ورفضه أن يكون رأس مدرسة ينضم إليها آخرون يجعلهم “حواريين” له، وظهوره في مظهر المتواضع الذي يحاول أن يخفّض من منسوب الامتداح الذي اعتاد النقاد أن يغدقوه على كتاباته لاسيما ديوان “لن”، وسعيه إلى أن يبرز فضل الانتماء إلى الجماعة الأدبية على نجاح الفرد.
ليس هذا وحسب بل نجد هذه الرغبة لدى أنسي الحاج في التنصل من الأبوة الرمزية تضرب بسهامها بعيدا في صميم الجوانب الأدبية والفنية المميزة لقصيدة النثر نفسها أو على الأقل ما ساد عنها من مسلمات لدى عامة القراء. ففي الشهادة آراء نقدية تصدم القارئ للوهلة الأولى، ونخص بالذكر هنا دفاع الشاعر عن حضور الإيقاع في قصيدة النثر “أنا أحب الإيقاع ولم أكتب قصيدة واحدة إلا وفيها إيقاع″، ويذهب إلى أبعد من ذلك حين لا يرى مندوحة من قيام قصيدة النثر على الوزن “أستطيع القول إنّ قصائدي تنطوي على أوزان وليس على إيقاعات فحسب، فالإيقاع موجود في أيّ كلام نثري مثل الخطب والمقالات”. وبعد أن يقيم فرقا واضحا بين أوزانه وأوزان الخليل نازعا إلى تسمية أوزان قصائده بـ”الأوزان الشخصية”، يعود ليؤكد بحماس وجزم أن لا تناقض بين قصيدة النثر والطابع الموسيقي بل إنه خاصية لازمة فيها “إنني أبالغ قليلا لأؤكّد أنّ كتابتي لهذا النوع من الشعر لم تكن خارج الإيقاع الموسيقي تماما، ولا هي عزوف نهائي عن الموسيقى، ولا هي ثورة تجهز على الموسيقى، وإنما هي موسيقى أخرى أسميناها في ذلك الوقت الموسيقى الداخلية. ربما كان ينبغي أن نستدرك في تسميتها ما تتوافر عليه من الموسيقى الخارجية، أيضا. فالحقيقة أنّ هناك إيقاعا خارجيا في هذه القصيدة، قد يكون أحيانا منسرحا كثيرا ويشبه السرد، وأحيانا شديد الانضباط ويشبه نظام البيت، إنما من دون تفعيلة متكررة. كانت هناك دائما بنية إيقاعية لديها هاجس موسيقي يتمثل، على الأقل، في موسيقى الكلمة المفردة، إذا لم يكن يتمثل في موسيقى العبارة، أو البيت، أما شكل هذه الموسيقى وتفاصيلها فلذلك بحث آخر. لكن الثابت أنّ كتابة ‘قصيدة النثر’ بالنسبة إليّ ترمي إلى تقديم إيقاع موسيقي جديد”.
وفي هذا السياق نفسه يأتي تأكيد أنسي الحاج عدم سعيه إلى مصادمة الذوق الأدبي السائد ولا إلى تخريب اللغة “لم أكتب هذه النصوص لأصرع الأدب العربي أو لأدمّر التراث أو لأخرّب اللغة، بل كتبتها لأعبّر عن حبّ، وبكل بساطة لتنشر في جريدة يومية، أي إنها بعيدة كل البعد عن القصد الأدبي”. وفي مناسبة أخرى يلحّ على عدم إيلائه قضية اللغة في الشعر منزلة مخصوصة “ليس الشعر مسألة لغة فحسب. اللغة تأتي تاليا، تأتي لبوسا للداخل. أنا لا أبحث عن اللغة، في البدء، فالتجربة الشخصية تفرض مستلزماتها التعبيرية الأخرى”.
إنّ هذين الموقفين النقديين الفنيين المتعلقين بعنصرين فارقين في شعرية قصيدة النثر (الموقف من الوزن والموسيقى، والموقف من اللغة) يبيّنان حرص أنسي الحاج على أن يعلّم باللون الأحمر الخطوط التي تفصله عن بعض رواد قصيدة النثر العربية ومنظّريها وكثير من كتابها اللاحقين ممّن بالغوا في نفي كل صلة لها بالإيقاع والوزن والموسيقى، وجعلوا قطب الرحى في مشروعها الإبداعي تحطيم اللغة الشعرية السائدة وابتداع لغة جديدة. لكنّ هذا لا يحجب عنّا أيضا الرغبة الأصل لدى الشاعر، الرغبة في الحيلولة دون أن يلبس عباءة المؤسس لقصيدة النثر العربية. صحيح أنّه قد أقرّ بعد مواربة ومخاتلة أنه أول من أطلق مصطلح قصيدة النثر على ديوان شعري، وصحيح أنّ الكلام قد أخذه بعيدا في التنظير لقصيدة النثر إلى حدّ أن نصّب نفسه حارسا لها يحدّد صحبة أدونيس شروطها و”يصعّب” في هذه الشروط، ولكنه مع ذلك يرفض أن تصير له سجنا تنغلق على شعره، إذ يرى أنّ الشعر أوسع من التسمية، وما كان إطلاقه هذه التسمية على نصوصه إلا اصطلاحا يخوّل لها أن توجد ولكنّ وجودها ليس أبديا “لا أخفيك أنني لم أسرّ كثيرا بتصنيف هذه القصيدة في ما بعد، ولكني مشيت في هذا الموضوع على أمل أنّ هذا التصنيف (أقصد مصطلح قصيدة النثر) ليس نهائيا. ويمكن أن أحيل القارئ إلى مقدمة ديواني الأول ‘لن’ حيث أوضحت أنّ هذا الإطار ليس نهائيا. ولا شيء نهائي في الشعر”.
الحرية الحبيبة الأجمل
إنّ تعليل هذا “التنصل” من زعامة قصيدة النثر لا يعود إلى تعال من الشاعر ولا إلى تخلّيه عن مبادئه التي قادته وهو ينشر ديوان “لن”، بل إنّ تفسير ذلك كامن في مبدأ جوهر يظهر أنه يوجه أنسي الحاج في كل مواقفه وتجاربه وعلاقاته وهيمن على اعترافاته وقام خيطا ناظما لما جاء منها متناثرا شتاتا، وهو مبدأ الكفر بكلّ أسر مهما كان والضيق بكل لافتة تصنيفية مهما رصعت أطرها بالذهب البراق وحمّلت حروفها الفخمة بالمجد والجاه. وذلك هو في رأينا العصب الحي لهذه الشهادة والتعريف الأوفى الذي يقدمه الشاعر لذاته. إن الصورة التي تضافرت هذه الاعترافات على رسمها للشاعر هي صورة طائر لطيف رقيق ولكنه قويّ العزم على أن لا يقع في شباك الصيادين، حريص الحذر من أن يلج أيّ قفص يغريه بالراحة والدعة والزهو “وهكذا فأنا أهرب من أيّ أسر كان، وخصوصا أسر الإعجاب بعمل سبق وكتبته. وأبعد من ذلك أقول إذا اكتشفت أنني لا أستطيع أن أتغيّر وبقيت أسير ما كتبت سأفضل الاعتزال على الاستمرار في أسر إعجاب الماضي”.
إنه مجاز غريب من الأدب إلى الوجود، إذ يغدو التجديد الذاتي في التصورات الأدبية وطرائق الكتابة طريقَ المرء إلى الحرية. وإنه لوفاء دائم من الكهل للطفل البعيد، إذ يحكم الطفل الملول دائما النفور من السكون المشتاق إلى عيش التوتر في كل شيء، على الكهل بأن لا يستكين إلى أيّ تحقق أدبي يتمّ له.. إنّ الكتابة هي رحلة طويلة لا محطات لها في طريق معانقة الحبيبة الأجمل، الحرية، ووقود هذه الرحلة هو التغير الدائم والانسلاخ عن كل هوية أدبية تنزع إلى الاستقرار والدوران حول رقبة الشاعر طوقا من حرير.
وعلى هذا النحو كانت شهادة أنسي الحاج، كل شهادته إعلانا عن معاقل الأسر التي نصبت في طريقه ورفضها، واستتبع ذلك نزعه الأقنعة التي وجدها تقدّم له في مسيرته الأدبية أوراق اعتماد للأدوار التي لعبها.
السجون الثلاثة
الأسر الأول هو مؤسسة النقد الأدبي، وتقبّل النقاد العرب للتجربة الشعرية الجديدة عليهم المستفزة لما استقر لديهم من معايير ومواضعات للقصيدة. وقد وجّه الشاعر سهام نقده لثلاثة أوجه من تعامل النقاد معه. الوجه الأول يتعلق بقراءتهم منجزه انطلاقا من زاوية التأثر بالشعر الغربي. فقد اختزلت تجربة أنسي الحاج في نزوعه حصرا إلى استدعاء الرافد الشعري الغربي والفرنسي منه تحديدا، إلى القصيدة العربية. وبذلك عمل النقاد المتبنّين هذا الحكم على سلب الرجل كل إبداع وأصالة ذاتيين. ولم يكن أنسي الحاج أول ضحية لهذا القراءة الاختزالية الاتهامية، فكل المجددين بدءا من جبران إلى اليوم واجههم النقد العربي الكسول في فهم النزعات التجديدية بمثل هذه التهمة. وقد أقام الشاعر الحجة تلو الحجة على خطأ هذه القراءة، من ذلك ذكره أنه كان يكتب قصيدة النثر قبل أن تسمّى بهذا الاسم وقبل أن يقرأ أيّ قصيدة باللغة الأجنبية وقبل صدور كتاب سوزان برنار. لكنّ ما يلفت النظر في إجابته هو تحويله مدار التأثر من الشعر الغربي إلى الشعر العربي المعاصر وتحديدا بعض الكتاب الذين لم تلمع أسماؤهم في صفحات النقد ولم ينسب إليهم فضل في إرساء معالم الحداثة، من أمثال فؤاد سليمان وإلياس خليل زخريا اللذين أقرّ أنسي الحاج باستفادته من كتاباتهما. أما الوجه الثاني فيتصل بمحاولة النقاد سجنَ الشاعر ومنجزه كله في حدود ديوان “لن” جاعلين من المبالغة في امتداح هذا الأثر سورا عاليا يحول دون نفاذ القراء إلى أعمال الشاعر اللاحقة. وأما الوجه الثالث فهو السجن الناعم الخلاب الذي أرسى دعائمه النقاد المحبون للشاعر المتحمسون لمنجزه، لكنهم لم يروا من تجربته إلا الجانب التقني الشكلي. فطفقوا يولون هذا الجانب كل عنايتهم وأهملوا في المقابل ما يسمّيه أنسي الحاج “التجربة الإنسانية”، وبذلك قتلوا الذات المبدعة وما تختزنه من سياقات أنطولوجية ووجودية واجتماعية وتاريخية حمل النص أصداء جدلية منها، وخلقوا من الشكل غولا يلتهم كل مقوم حسيّ إحاليّ، من داخل النص وحوله.
صاحب هذه الاعترافات لا يروي قصة حياته، بل يصنعها وهو يقدّم شهادته واعترافاته. إنه لا يعود إلى ماضيه الذي استقر واتضحت ملابساته وحفظت أحداثه في خانات السنوات المغلّقة، فيتخيّر منها ما يناسبه هو لا القارئ
الأسر الثاني الذي يعلن أنسي الحاج في هذه الشهادة التحرر منه هو ديوانه الأول “لن”. فلا يخفى على قراء هذه الشهادة تمزق الشاعر بين أن ينطلق في الحديث عن شعره وتجربته من روسم بارز ومعلم شامخ لا محيد عنه هو ديوانه الأول “لن”، فيساير بذلك رغما عنه النقاد الذي حبسوه في هذا الديوان وغضّوا النظر عن أعماله اللاحقة، وبين أن يتناسى هذا الديوان ويرغم النقاد على أن يقيموا منجزه الشعري آخذين بعين الاعتبار دواوينه اللاحقة لبكر أعماله، فيحرم شهادته خلفيةً أدبية متينة ودالة لا يوفرها عمل آخر من أعماله كما يفعل “لن”. لذلك ألفينا بعض التردد والتناقض شابا حديث أنسي الحاج عن هذا الديوان وتقييمه لمنزلته المخصوصة في مسيرته خاصة، وفي مسيرة قصيدة النثر العربية عامة. فراوح بين التقليل الصريح من قيمة هذا الأثر حينا، وإبراز أهميته وخطورته حينا آخر. لكنه مال في آخر حديثه إلى التحرر التام من الهيمنة المرجعية لهذا الديوان، وكسر بذلك صنما آخر من الأصنام الذي أهداه إياها النقد العربي “إنّ وصف المرحلة اللاحقة على ‘لن’ بأنها مرحلة انكسار شعري هو بمثابة خطأ قرائي. أريد أن أقول إنها ليست انكسارا شعريا بل العكس، فكتاباتي اللاحقة أكثر شعرية مما قدمته في ‘لن’ وأهم من ذلك فالشخص الذي كتب ‘لن’ هارب من كوابيسه، لا يريد من أحد أن يذكّره بها. فقد وضعها في كتاب لينتهي منها ووضع مع هذه الكوابيس لغة الكوابيس أيضا. لعل من الأشياء القليلة التي بقيت من ‘لن’ هي العبث. ولعله أصبح أكثر من السابق، غير أنه عبث بلغة أخرى، لغة أكثر نعومة”.
لقد صيّر النقد الكتابَ الأول كتابا أخيرا، بل اتخذه الكتاب الوحيد، ومعه جعل الشاعر مجرد آلة لتكرار ما قاله ذات يوم وانتهى من قوله. وما أشدّ بؤس هذا الوضع فعلا! وما أشدّ قسوة النقاد على الشاعر جين يفرضون عليه وهم به مشيدون، أن يظلّ تقدّمه حركة عكسية إلى الماضي دوما يلزمونه بأن لا يحيد عنه! فهذا التمرد على ديوان “لن” إذن هو في جوهره انتصار للمبدأ الأكبر الذي يعتبره أنسي الحاج بوصلة الكتابة عنده، مبدأ التغير المستمر استعارةً أدبيةً للمبدأ الوجودي الأول، مبدأ الحرية.
السجن الثالث الذي استغلّ أنسي الحاج هذه الاعترافات للتحرر منه هو الصورة الإنسانية الأخلاقية النمطية التي كرّسها عنه أصدقاؤه وزملاؤه الصحفيون ومحبّوه من القراء، صورة المهذب الأنيق اللطيف الذي يكاد يخلو من الأخطاء والعيوب، تلك الصورة التي لخصها أدونيس حين خاطبه قائلا “أنت أنقانا”. فنراه في هذه الاعترافات حريصا على أن يشوّش هذه الصورة الصافية ويرمي على اللوحة البيضاء قطرات من حبر أسود. فيعترف في مناسبة أولى بممارسته فعلا يأنف من ممارسته أبسط الصحفيين، ونعني بذلك نشره في جريدة النهار وفي مدة طويلة قصائد كتبها بنفسه، لكنه مهرها باسم امرأة “ليلى”. وقد علل ذلك قائلا “لم تكن لدى جريدة ‘النهار’ آنذاك محررة لشؤون المرأة فكنت أحرّر هذه الصفحة من جملة أشياء أخرى، وكان ينبغي لهذه الزاوية، الصغيرة الموجهة للمرأة أن تكتبها امرأة!”، ثم أردف في شجاعة وأسف “هذه اعترافات تبدو مذلّة لكنها هي الحقيقة”. وقد أضاف إلى هذا الاعتراف اعترافا آخر بأنّ الحب بإحباطاته وأفراحه هو كل عالمه، وهو العامل الأول المحدد لما كتب قبل “لن” وبعده. فـ”لن” كان نقلا لكوابيس استبدت بالذات عندما كانت المرأة شخصية تخييلية لا وجود لها في الواقع، أما بعد “لن” فقد حضرت المرأة في حياة الشاعر فتغيرت الكتابة “وإذا كان هناك من تغير فمرد ذلك إلى أمرين: علاقتي بالمرأة التي انتقلت من المونولوج إلى الحوار. أي محاولة إيجاد الشخص الآخر. (قبل ذلك كان الشخص الآخر هو اختراع خيالي، ثم أصبح له وجود). فمن قبل كانت المرأة، أو الوسيط، لتخفيف وطأة العالم الخارجي والكوابيس الداخلية. لم أكن قد تمكنت من إقامة علاقة ناجحة بيني وبين الوسيط الذي هو المرأة، في ما بعد اقتحمني هذا الوسيط مثل قطعة ضوء وقفت بيني وبين شلال من الظلام. بالضبط هذا هو الفرق الذي يلاحظ في الكتابة والتعبير. وليس استراحة للمحارب كما قالت خالدة سعيد. الحب يغيّر، وأنا في البدء وفي الختام شاعر حب”.
ألفينا الشاعر في آخر اعترافاته يجري وراء تشكيل تعريف بذاته ينعتق من “الإنسان ذي البعد الواحد” مكسّرا الرؤية الخارجية الاختزالية الصنمية، متبنّيا رؤية أخرى جدلية
الاعتراف والإيغال في صدق التعري يجعلان الأمور المعقدة لدى النقاد والدارسين، معادلات في منتهى البساطة والوضوح.. أنا شاعر الحب.. الحب المستحيل وغياب المرأة أثمرا ديوان “لن”.. حضور المرأة وغنى الوجدان أثمرا كتابات ما بعد “لن”..
ولئن كان هذا الاعتراف لا يسيء إلى الصورة الأخلاقية الشائعة لأنسي الحاج، فإنه يكسر الصورة الأدبية النمطية التي تتأكد فيها معاني الزعامة الأدبية والريادة والثورة الأدبية إلى حدّ استلاب الشاعر من إنسانيته وتحويله إلى كيان تجريدي يكاد يختزل فيه الشخص الحيّ في الوظيفة الأدبية، وظيفة التحول بالقصيدة العربية من طور إلى طور. وبذلك يغدو الشاعر شكلا أكثر منه مضمونا. إنّ اعتراف أنسي الحاج بهذه الخفايا البسيطة لدوافع الكتابة عنده ومحرك التطور الفني في مسيرته، يقتص من الهوية الصنمية التي سجنه فيها النقد الأدبي، وينتصر للإنساني، ويكشف ما يكتنف طبعه من ضعف ونقصان تناساهما الناس وهم يصوغون له صورة يتمازج فيها الرمزي بالديني بالأدبي، فتهاطلت عليه ألقاب تقتله إذ تمجده، وتشيّئه إذ تبتهل بذكر خصاله، فمن قائل هو الأنقى، إلى قائل هو نبيل القصيدة، وآخر يصفه في خشوع بأنه ناسك الشعر العربي… في وجه هذه المدائح الطعنات، يرتفع صوت الشاعر صارخا: أنا شاعر حب.. أنا إنسان.
البحث المستحيل عن تعريف للذات
لذلك ألفينا الشاعر في آخر اعترافاته يجري وراء تشكيل تعريف بذاته ينعتق من “الإنسان ذي البعد الواحد” مكسّرا الرؤية الخارجية الاختزالية الصنمية، متبنّيا رؤية أخرى جدلية تقرّ بأن الإنسان أبعاد متداخلة متناقضة متشابكة وعدد من الثنائيات لا حصر لها “وأريد أن أشير هنا إلى أنّ خلاصي ليس ذا بعد واحد. فعندما تلمس جانبا ميتافيزيقيا لديّ فليس معنى ذلك أنني إنسان مكرس للصلاة. فأنا إنسان غير مؤمن ومؤمن في اللحظة نفسها، شريف وأزعر، عميق وسطحي، شفاف وكثيف، غامض وواضح، بسيط ومعقد، لا أدعي بذلك شمولية، ولكن هذه تركيبة الإنسان”.
كان يمكن لأنسي الحاج أن يستمر في استعراض هذه الثنائيات إلى ما لا نهاية، فلن يشفي ظمأه إلى التعريف بذاته حدّ، وذلك لأنّ الذات التي يعرّف بها ليست ذات الفرد التاريخي الذي حوته الأرض في يوم من الأيام وكانت له بالبشر علاقات ومصالح وتنقّل هنا وهناك. إنّ الكيان الذي تتجمّع هذه الثنائيات لترسم له لوحة تعريفية مفتوحة هو مزيج لا انفصام له من الفرد التاريخي والكيان الأدبي الشعري التجريدي. والشاعر هو سماء مرصعة بالتناقضات في ليل الأبدية، فكيف السبيل إلى حصر هذه الثنائيات ونقلها في قائمة محدودة؟ وكيف السبيل أبدا إلى تعريف الذات تعريفا وافيا شاملا؟ ومن هو هذا الأنا الذي يتكلم بثقة ووضوح وإصرار؟ أيّ محل يملأ؟ وبصوت من ينطق؟ وهل الأنا هو وحدة صمدية أم أنوات متشظية متضافرة؟
لذلك هرب الشاعر من سيل هذه الثنائيات الجارف واستدعى ثنائية الشيطان والمبدع المتفرّعة عن أمّ الثنائيات ومنبع المعاني في الفلسفة والدين والسياسة والقانون: ثنائية الخير والشر “أسعى منذ البداية إلى خلق توازن بين الشر والخير، لا أريد أن أتنازل عن أحدهما، لست من دعاة الخير لوحده أو الشر لوحده، فهذه الثنائية من طبيعة الإنسان، أريد الشيطان والمبدع، أريد أن أكون الشيطان والمبدع، أو بتعبير آخر أريد أن أكون”.
الشاعر حسب أنسي الحاج شيطان ومبدع في وقت واحد. ولم يقل “شيطان وملاك”، فقد أراد أن يجعل الجدل قائما في كينونة الشاعر بين إبليس والإله، بين المتمرد المنشق وبين الخالق الموجب للوجود
إنّ الشاعر حسب أنسي الحاج شيطان ومبدع في وقت واحد. ولم يقل “شيطان وملاك”، فقد أراد أن يجعل الجدل قائما في كينونة الشاعر بين إبليس والإله، بين المتمرد المنشق وبين الخالق الموجب للوجود، بين الساخر الملعون والمتعالي القادر على كل شيء، بين المورد إلى الهلاك وواهب الحياة وصانع الجمال. ولعله ليس من تعريف للشاعر أبلغ من هذا التعريف. ففي كل الأزمنة كان الشعراء أمواجا من القلق والشك تفسد على العالم سكينته وتذهب بطمأنينيته، ولكنهم ما إن يحدثوا ذلك حتى يلتفتوا يصوغون للعالم وجها جديدا ويودعونه زورقا من كلمات يحمله إلى شاطئ بكر لم يعرفه من قبل.
رغم ذلك لم تستطع استعارة الشيطان/المبدع أن تقنع تماما الباحث عن تعريف لذاته ووجد أنّها تظل قاصرة عن احتواء هويته، فمال إلى غلق هذا التعريف بالانفتاح على مطلق الكينونة “أريد أن أكون”. وتصلح هذه الجملة الختامية من اعترافات أنسي الحاج أن تكون تعريفا لكل مشروع سيرذاتي يقدّم عليه شاعر مّا ودليلا على أنّ السيرة الذاتية التي يكتبها الشاعر مشروع منذور للفشل. فهو سينتهي حتما إلى اليأس من الظفر بتعريف واضح ثابت للذات، ولن يلبث أن يكتشف أنّ الكتابة والحياة عالم واحد لا يفصل بين حافتيه إلا خيط من سراب. وليس تعريف الذات وحده غير ممكن خارج الفعل الإبداعي، بل إنّ الوجود نفسه والحياة الحسية ذاتها لا تحقق لهما خارج الكتابة. بالشعر يبدع الشاعر وفي الشعر يكون، وكل ما هو خارج الشعر بكمة وعماء. وعلى هذا النحو يتولد أمامنا سؤال عن هوية الشاعر من يكون؟ وهل هو من بني البشر حقا كما يتوهم البشر؟
فهذا أنسي الحاج استجاب للفتية لأسئلة الفتوة فقبل أن يقدّم لشاعرين من الجيل الشعري اللاحق عليه شهادة عن الجانب الأهم في مسيرته الشعرية، ماضيه الموثق مواقف وكتابة، فانتهت به اعترافاته ليرحل من الشعر إلى الذات، وأخذ يبحث عن تعريف لذاته فوجد نفسه يعود إلى الشعر والكتابة ولكن بعيدا في المستقبل المطلق، لا الحاضر ولا الماضي. أفليس في ذلك دليل قاطع على أنّ هوية الشاعر هي ما لم يكنه بعد، لا ما كانه؟ ألا يعني ذلك كلّه أنّ الشاعر هو دوما افتراض لم يتحقق بعد؟ هو لحظة من الآتي لم تجئ، ولعلها لن تجيء؟ وذلك الجسد الذي يتحرك أمامنا ويعيش هل هو جسد بشر أم ورقة كبيرة منقوشة عليها نصوص مؤقتة لم تعتمد اعتمادا نهائيا؟ هل جسد الشاعر نص أم مجرد مسودّة نص؟ وهل يمكن للشاعر أن يكون يوما مّا وهو ما يزال يسعى إلى أن يكتب نصه؟ أي هل يمكن للشاعر أن يوجد وأن يكون قبل أن يموت؟