الاستشراق والاستعراب والسؤال عن البراءة
الاستشراق لم يكن يوما بوجه كلي الظلام والسواد فالعشرات من المستشرقين مازالوا إلى اليوم في الذاكرة الشرقية موقع التكريم والاحترام، أما واقع المسألة فهو محاولة البقية إنكار أن للاستشراق وجهاً سياسياً، بل ووجهاً ثقافياً اجتماعياً عميقاً، وجهاً يحمل في طياته نظرة متعالية على ذاك الشرق التعيس المريض الباحث عن شفائه، فجثة السلطنة العثمانية لم تغب بعد عن مخيلة الباحثين الغربيين رغم أنها تفسخت وباتت صورة غابرة، والإسلام كما وصلهم عبر المستشرقين الموجهين مازال حاضراً في أذهانهم، ولم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث المعمق عن التيارات التي ظهرت في الإسلام التاريخي والحالي.
جلّ ما في الأمر نظرة سطحية لا تدخل أعمق من خمسين سنة مضت فقط وعليها نؤسس، هذا الانطباع الذي تركه حديث المستشرق الهولندي موريس برخر لمجلة “الجديد”، وخاصة عندما قيّم اللحظة الراهنة في العالم الإسلامي، فقال إنه ومنذ أكثر من 40 سنة هناك تياران الأول ديني والثاني ديمقراطي الذي اصطلح عليه بأنه تيار يسعى إلى التحرر وحق تقرير المصير، وكأنما التيار الإسلامي مع الاستعمار وضد حق تقرير المصير، وذهب إلى أن الإسلام تطور ببطء منذ السبعينات من دين شعائري اجتماعي إلى إسلام سياسي، والواقع أن هذا الكلام يظلم الكثير من التجارب السياسية الإسلامية التي نمت في مراحل سابقة، وإن لم تتمكن من الوصول إلى السلطة وهذه لها أسبابها المختلفة عن تطور هذه الحركة أو عدم تطورها. ومن المستغرب أن باحثا وأستاذا جامعيا يتحدث بصيغة “الإسلام تطور”. والواقع أن الحركة الإسلامية تطورت، وبعدها نقيّم إن كان ببطء أو بسرعة. فالإسلام منذ ميلاده يحمل هدفاً وله عمق سياسي واضح، وهذا ليس دفاعا دينيا فإذا اعتبرنا الإسلام كحالة أيديولوجية وثقافية وفكرية ولدت قبل 1400 سنة تقريباً، ومازالت تلك الحالة مصدر الإلهام السياسي لكل الحركات الإسلامية التي ظهرت وستظهر، فنجد أن المرجعية ثابتة وأساليب التعبير تختلف من زمن إلى آخر.
وهذا ما ينقلنا إلى الحديث بأن الخطاب الإسلامي يمكن استثماره براغماتيا لتحقيق أهداف الحركات التحررية، مثل الحركة النسوية التي حققت، برأي برخر، نجاحات باستخدامها الخطاب الإسلامي في كل من مصر وبنغلادش. وفي النهاية، برأيه، الكل يستعمل الخطاب الإسلامي لإحداث تغيير، وبأن الديمقراطية في العالم الإسلامي مؤسسة أيضا على الشريعة. وهنا مفارقة أخرى فكيف تكون الشرعية هي ذاتها الدين، كيف للديمقراطية أن تؤسس على مسائل الحدود والحلال والحرام والمنهيّ عنه والمباح وغيرها من المسائل التشريعية كالميراث والزواج والطلاق. من الواضح أن المقصود أن الديمقراطية في العالم الإسلامي تقوم على مفهوم الرشد والشورى بين الناس، وهذه مسائل تتعلق بالحاكمية الدينية وغيرها من المواضع البعيدة كل البعد عن الشريعة. وإن افترضنا حسن النوايا فإن عبارة “ديمقراطية العالم الإسلامي مؤسسة على الشريعة” ليست ذات دلالة دقيقة لأن الشريعة بوابة للعدالة التي جاء بها هذا الدين بغض النظر عن التوافق أو الاختلاف معها، وهي اليوم تتعرض لجملة واسعة من النقد والبحث والتمحيص والتي لم تجد سبيلاً إلى المستشرقين الذين مازالوا عند كتب الغزالي، على أفضل حال، أو من شرب من مشاربه.
وينقلنا برخر إلى الضفة الأخرى مع التيار الذي يسعى إلى العدالة والحرية، وحق تقرير المصير. والذي، برأيه، بقي محتشماً ومتخبطاً على مدى عقود، وشهد فترات انتكاس وازدهار، ويخلص إلى أن اللحظة الراهنة تشهد تقاطع هذين التيارين، الإسلامي والتحرري، أي أنهما يصطدمان، وإفرازات هذا التقاطع تتمثل في: الربيع العربي، وداعش، اللذان هما وجهان لعملة واحدة برأيه طبعاً، فهما نتيجة حلم شبابي بفكرة العدالة، وهذا التحليل يهمل كل التفاصيل والمعطيات المختلفة من حالة التردي الاقتصادي والثقافي وحالات الذل والإهانة المنظمة التي مارسها الغرب على الشرق والشمال على الجنوب خلال السنوات الطويلة الماضية، ما أنتج ردّات فعل ليست داعش ومن قبلها القاعدة وغيرها من الحركات الأصولية إلا النزر اليسير من ذاك الزرع الذي بات اليوم يثمر في عواصم أوروبا إرهاباً وعنفاً ربما لن يقف عند حدود الهجمات المتفرقة هنا وهناك.
من الواضح أن برخر لم يستمع لنصيحة شيخ المستشرقين المعاصرين برنارد لويس الذي قال موبخاً “اقتحام الباستيل شيء، ومعركة كربلاء شيء آخر تماماً، ولكي نسعى إلى فهم الحركات في حضارات أخرى، يتوجب علينا أن ندركها في سياقها ومصطلحها، وفي علاقتها بتاريخها، وبأعرافها، وبآمالها”، هجاء لويس الذي جاء لمن أسماهم هواة المستشرقين ليس إلا تأكيداً على أن نظرة الغرب لن تخرج عن الإطار الإسلامي لذلك الشرق واعتبار هذا الإسلام مشكلة بكل ما فيه وإن أثنينا عليه مرة هنا وأخرى هناك، فكيف يكون الربيع العربي وداعش وجها لعملة واحدة لولا أن التعامل مع هذا العالم لا يخرج إلا من منظور ديني، هل يمكن لهذا الغرب أن يقول بأنّ هناك عملا إرهابيا اليوم دون أن يبدأ وعلى الفور بالإشارة إلى الإسلام والمسلمين ومن ثمة يقول نحن نفرّق بين هذا وذاك، أولئك حاملو لواء الحرية والعدالة والديمقراطية وإن كانوا قد خرجوا مع داعش من ذات البوتقة.
جميع ما سبق ينقلني إلى حوار مع زميلة صحفية تعيش في فرنسا وقريبة من تيار اليمين الغربي، عندما بدأت كلامها بأنها اليوم تتفهم موقف الغرب من الإسلام فهي لا يمكن لها أن تتقبل وجود رجل ملتح في قطار الأنفاق بباريس، هذا يشعرها بأنها ليست في الغرب، وقبل أن أنتقل إلى النقطة الثانية من الحوار يتبدى واضحا الموقف الظاهري من المسألة الإسلامية وهذا ما يقع فيه معظم المستشرقين اليوم وبالأمس فهم يأخذون ظواهر الحالة الإسلامية وتطوراتها، فبرخر لم ير من الإسلام إلا داعش ولن يرى غيرها واعتبر الحركة الثانية النقيضة لها وإن خرجت من ذات الرحم أنها تحمل ذات الأهداف بأساليب مختلفة، وفي الختام الجميع يريد العدالة، والواقع أن الفرق كبير فالعموم من المسلمين الثائرين اليوم يريدون الحرية قبل العدالة وعليها يؤسسون العدالة المرادة والمطلوبة، هذه الشعوب تفهم الحرية يا سيدي الكريم ويا سيدتي وتتمكن من إدراك الحرية وهذا الهندام واللحية جزء من حريّتهم التي ترونها أنتم خادشة لذوقكم العام وترفضونها على اعتبارها مغايرة للحالة الغربية والذوق الغربي الذي بات هو المقياس الذي يقرر الحسن والبخس من المكونات العالمية الأخرى.
ويستمر النقاش فنصل أنا وزميلتي إلى الأخوين الكوّاشي اللذين هاجما حسب الشرطة الفرنسية مقر صحيفة شارلي إيبدو، ويتمحور النقاش حول أنهما فرنسيان وتلقيا تربيتهما في دار أيتام فرنسية أي أنهما صناعة فرنسية خالصة، فترد بأنهما مسلمان مذ كانا طفلين، فأجيبها كيف لطفل بعمر السبع سنوات أن يكون مسلما فتصر على موقفها مستخلصة بأن كل مسلم مشروع إرهابي بالضرورة، وهذه العقلية هي ذاتها التي تحكم الغرب اليوم، الغرب الذي خرج من رحمه هؤلاء المستشرقون الذين يحاولون أن يلطّفوا المسألة قليلاً كما يفعل برخر بتأكيده أن الغرب عموما يعتقد أن المشكل يكمن في الإسلام، رغم أنه لا يملك تفسيرا واضحا لما يجري على الأرض، وهنا تظهر المسألة جليّة وواضحة أي الحكم الشكلي فإن لم نكن نملك القدرة على فهم ما يجري على الأرض فكيف لنا أن نحكم بأن المشكلة في الإسلام؟ ومن ثمة نخوض في تفسيرات خاطئة حول الواقع العربي وما يجري ونخلط بين داعش والربيع العربي الذين سبق أن اعتبرهما برخر نفسه ذات الشيء تقريباً، وفي الختام يقول إن الغرب ما يزال يفسر كلّ شيء في ضوء الإسلام ويربط بينه وبين أبنائه دون تميّز فلا يوجد مواطن بل هناك مسلمون، وهذا ذاته ما رفضته زميلتي عندما قلت لها لو أن الكوّاشي لم يتلقّ تربية إرهابية في السجن لما كان إرهابياً ولكنها لم تقتنع فهو مسلم وهذا أمر طبيعي أن يكون إرهابياً.
يحق لنا نحن الغرب أن نراقب العالم من برجنا المسيحي ومن بواباتنا القيميّة الخالصة ومواقفنا المسبقة ونقرر أن الإسلام والغرب لم يلتقيا أبدا لا فكريا ولا ثقافياً على مرّ التاريخ، كما فعل برخر، وينسى أن التاريخ الذي وثق اللقاء من عدمه كتبه أجدادُه الذين خاضوا حروبا دينية كانوا يعتقدون أنها حرب مقدسة، كما تظن اليوم داعش، بقتلها للأبرياء، أنها تقود حربا مقدسة. وفي الختام ينظر إلى الإسلام بكونه دين عنف وأن المرأة المسلمة التي حكمت بلاداً في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي وكانت في مراكز العلم والقرار كانت مقهورة ومظلومة ومهانة وهذه النظرة المستمرة إلى اليوم ولّدت ما صدق فيه برخر أي “السلفية الغربية التي لا تقلّ خطراً عن السلفية الإسلامية”.