ماذا قال الشعر ماذا يريد الشعر أن يقول
المعنى الآخر
تحاول قصائد الشاعر صلاح فائق أن تحافظ على تفرد لغتها وخصوصية عالمها الشعري، النابعة من الرغبة في رؤية ما وراء الأشياء والمألوف. هذا التفرد الذي يمنحه خصوصية الحضور ودهشته، يستمد مقوّماته من هذا اللعب الجميل والمفارق والطريف والمدهش باللغة والصور التي تتشكل منها مشهديات بالغة التكثيف، توحي أكثر مما تقول وتومئ أكثر مما تحدد بلغة لا تخلو من السخرية والطرافة والمفارقة المدهشة التي تكسر نمو السرد الخطي في القصيدة بصورة تلغي معه أفق التوقع عند القارئ، تنفتح معه مخيلة المتلقي على غير المألوف والعادي، من خلال جملة من الانزياحات اللغوية والاستعارية على مستوى العلاقة بين الصفة والموصوف أو الواقع والخيال.
تتميز قصائد الشاعر إلى جانب استخدامها المكثّف للسرد والوصف بتكثيف لغتها العالي، فهي تتوزع على مقاطع قصيرة محكمة البناء، يميزها تنوع صيغها التعبيرية وصيغ أفعالها التي تحدد شكل العلاقة في هذه التجربة بين الزمان والمكان، وإن كانت صيغة الفعل المضارع هي الطاغية بصورة تضفي فيه على المشهد طابع الحركة وحرارتها. ويقابل صيغة السارد/الشاعر في هذه النصوص تعدّد في صيغ جملة الاستهلال التي تشكل عتبة قرائية تهيئ القارئ لدخول عالم النص، فهي تارة جملة خبرية وتارة جملة وصفية وأخرى استفهامية، على ما بينها من تنوع أسلوبي في صيغ الخطاب.
تقوم العلاقة بين مقاطع القصيدة على التجاور، أكثر مما تقوم على وحدة الموضوع نظرا لاتساع حدود المخيلة وقدرتها على توليد الصور وبناء مشهديّة مفتوحة على الرغم من توظيفها للكثير من معطيات التجربة الحسية، التي تندغم فيها مستويات مختلفة من الزمان(ماضيا وحاضرا) والمكان (المنفى الاختياري والعراق) في إطار وحدة التجربة الوجودية، والوعي الجمالي الذي يعيد بناء هذه الصور شعريا.
يعتمد صلاح في قصائده على الصورة كأداة للتعبير عن التجربة أو الحالة المراد التعبير عنها، ولذلك نجد حشدا واضحا منها في قصائده يدل على مخيلة ثرية وخصبة، يضفي عليها استخدام الفعل المضارع طابعا من الحركة والحيوية، كما في قصيدته الأخيرة التي يستخدم فيها الفعل المضارع إحدى وعشرين مرة، بينما يظهر التقابل بين صيغتي الماضي والحاضر للتعبير عن المفارقة التي تنطوي عليه تجربته في الحياة (من الموتى تعلمت ألا أشكو ولا أعاتب/ومن الأحياء لم أتعلم حكمة بعد).
تظهر وظيفة الصورة وما تنطوي عليه من مفارقة وغرابة في خلق الإيحاء المعبّر عن جانب من جوانب تجربة الإنسان وليس بغرض إضفاء طابع الطرافة والتغريب عليها.
علامات فارقة
تستوقفنا قصائد العدد أمام جملة من القضايا الإشكالية التي باتت تطرحها قصيدة النثر، سواء على مستوى التشابه وطرائق التعبير وسوريالية الحالة بحثا عن الغرابة والتجريد، أو نثرية اللغة وبنية الجملة الشعرية ووظيفة الانزياح، وهي إشكاليات تسم واقع تجربة هذه القصيدة بصورة كبيرة، ربما بسبب غياب المرجعيات النظرية والنقدية التي تعمل على تعميق مفهوم هذه القصيدة وتطويره. لذلك سيجد القارئ للنصوص الأربعة التالية نفسه أمام أسئلة قديمة- جديدة تتعلق بمفهوم قصيدة النثر.
يستدعي أحمد عبدالحسين في قصيدته “غسل العار” الأسطورة القديمة حول العلاقة بين السماء والأرض لكنه يعيد بناءها على نحو مفارق لمنحها دلالات معاصرة تعبر عن تجربة الواقع الراهن، فتغدو السماء هي أرملة الأرض للدلالة على انقطاع العلاقة الطبيعية بينهما بعد أن سيطرت الاتجاهات التكفيرية على المجال السياسي والاجتماعي والروحي، ما جعل خطاب الشاعر موجها إلى ضمير جمع المخاطب المذكر/أنتم بلغة تنطوي على شحنة عالية من الغضب والإدانة، ساهمت في تكريس البنية الخطابية وإلغاء تنامي البعد الإيحائي والجمالي الذي كان يمكن أن يوسّع من مجال توظيف مدلولات الأسطورة في القصيدة وجمالياتها، نتيجة سيطرة الحالة الانفعالية على الشاعر، والرغبة في إدانة هذه الظاهرة، ما جعل نهاية القصيدة تأتي جوابا على جملة الاستهلال التي ابتدأها بها.
عواء إخوتي
قصائد وليد التليلي (عواء أخوتي) تميّزت بتكثفيها اللغوي الواضح وبنيتها الاستعارية ذات الطابع الغنائي الرعوي والكثافة الحسية والوجدانية، إضافة إلى رؤيتها القائمة على وحدة الوجود، والتي تعبّر عن التناغم الحيّ بين كائناتها، من خلال ما تتسم به قصائده من بعد استعاري موح وشفيف (كل ليلة حين أنام/أرى رعاة يدخّنون عند رأسي/ وماعزا يرعى ما كتبته). ولمنح المشهد الشعري في قصائده طابع الحركة وحرارتها، يستخدم صيغة الفعل المضارع بكثافة واضحة. تتألف قصائده من جمل قصيرة تتميز باقتصادها اللغوي وتكثيفها الحسي وانزياحات بنيتها الاستعارية التي تعبّر عن هذه الوحدة الوجودية تارة، وعن انتظارات الحب الحزينة والحسّ الإنساني تارة أخرى . كذلك يلاحظ استخدام التراكم المركب الذي يدل على طغيان صور العالم الرعوي (القرية) الملحّة عند الشاعر، مقابل صورة المدينة التي تدل على الضياع والخيبة.
وتنحو قصيدتا “حمادي الهاشمي” من حيث التكثيف اللغوي الشديد في بناء الجملة الشعرية واستخدام صيغة الاستفهام التي يفتتح بها قصيدته الأولى عن التعبير عن حالة الحيرة والقلق الوجودي، لكنها الحيرة التي توحي بالإجابة المضمرة على هذا السؤال الوجودي بشيء من اللوعة والمرارة، بينما تدل قصيدته الثانية على حالة الخيبة والانفصال التي يعيشها مع الآخر-المرأة ما يزيد من فجيعة الذات وغربتها في هذا العالم.
شهوات أقل
ويضعنا زهير أبو شايب منذ العنوان (شهوات أقل) وتاليا في صورة (امرأة بكامل وردها..) أو في التراسل الدلالي بين رمزية المرأة والبحر وبيروت، في فضاء التأثير الذي تمارسه تجربة الشاعر محمود درويش على الشعر الفلسطيني. يستغرق موضوع المرأة قصائد الشاعر الخمس كحلم ومحور للشهوة الجارحة، لكن مشكلة الشاعر تتمثل في النثرية والرؤية الرومانسية كما في قصيدته الثانية، وفي محدودية مساحة التخييل التي تجعله يكرر استخدام رمزية الذئب بصيغة المفرد والجمع مرات عديدة وكلمة الورد أيضا، ما يجعل التكرار يُفقد القصيدة غناها اللغوي، خاصة وأن لغة الشاعر تتسم بالمباشرة، لا سيما في حواراته مع المرأة، في حين يتراجع حضور الصورة الشعرية الموحي، ويبرز الجانب الغنائي الذاتي ( استخدام تكرار الاستهلال مقترنا بضمير المتكلم وصيغة الفعل المضارع) في تعبيره عن حاجته إلى المرأة وفي رؤيته إليها.
تستوقفنا قصائد العدد أمام جملة من القضايا الاشكالية التي باتت تطرحها قصيدة النثر، على مستوى التشابه وطرائق التعبير بحثا عن الغرابة والتجريد
جبل الكهرباء
يشكّل العنوان الرئيس في قصيدة الشاعر مبارك(جبل الكهرباء) تكثيفا واختزالا على المستوى الدلالي واللغوي لتجربته، فالعنوان الذي يحمل دلالة مكانية لا يحمل أي بعد إيحائي. هذه العتبة المفتاح تكشف عن مستوى اللغة والصورة الشعريتين عن علاقة التخييل بالواقع أو الحقيقة مع المجاز، وعن مدى فاعلية هذا التخييل على صعيد المدلولات في خلق الإيحاء بالحالة المراد التعبير عنها، وتجسيدها عبر هذا اللغة السوريالية، التي تبحث عن الغرابة والتجريد، باعتبارها تمثل عند الشاعر العلامة التي تميز قصيدة النثر. هذه الرؤية الموغلة في غرائبيّتها وتجريدها وانزياحاتها تركز على الجانب الشكلاني على حساب الموضوع (أنا حديقتي قدمي، وأظفارها أزهارها- النمال التي تشكو من الأرق- رغوة الضحك).
وكأغلب قصائد العدد يلاحظ الاستخدام المكثف لصيغة الفعل المضارع التي تضفي الطابع الحركي والحيوية على المشهد الشعري (استخدم تسع عشرة مرة في قصيدته الأخيرة). كذلك تتميز قصيدته بتعدد ضمائر المتكلم والمخاطب إذ تكون تارة بصيغة المفرد، وتارة أخرى بصيغة الجمع أو صيغة المذكر أو صيغة المؤنث، إلا أن ذلك لم يؤد إلى تنامٍ في بنية السرد أو تطور القصيدة. تضعنا جملة الاستهلال في قصيدته الأولى، والتي تتألف من جملة خبرية في أفق لغتها التقريرية ذات الطابع النثري، التي سيتكثف استخدامها في هذه القصيدة وفي قصائده الأخرى (إذ يذكرنا ذلك بلعبة البلياردو الكهربائي- لكن كوني متيقنة – كائنة جسمها من معدن..).إن هذه اللغة رغم محاولة إسباغ مظهر سوريالي على بعض صور القصيدة لم تستطع أن تتخلص من نثريتها وبنيتها التقريرية، كاشفة عن محدودية واضحة في فاعلية المخيلة، وعن مجانية الصورة الباحثة عن الغرابة أو القول، دون أن تستطيع – رغم استخدامها السرد- تحقيق تنامي القصيدة بسبب الارتباك في استخدام صيغ الأفعال والانتقال بين صيغ مختلفة (ونمضي نحو بيتنا(..) وكلّما سكرت تحت سقفه وقتها) ما يدل على ضعف واضح في بنية القصيدة سببه البحث عن الغرابة في التعبير والصورة.
إن إشكالية أغلب هذه التجارب تتمثل في محدودية معجمها اللغوي وضعف التخييل وأحيانا البحث عن الغرابة باعتبارها سمة من سمات قصائد النثر كما يرى البعض، لكن الملاحظة الأبرز تتمثل في غياب التنوع في اللغة وفي أشكال الوعي الجمالي وأدوات التعبير، وهو ناجم عن غياب قوة المخيلة التي تكشف عن فاعلية حضورها عبر الانزياح البلاغي القائم على المحو والإضمار والتبديل والتغيير وخرق قواعد اللغة بما يحقق الانزياح الدلالي، دون أن تتحول اللغة أو الصورة الشعرية إلى لعب مجاني عن الغرائبية والصدمة والإثارة.
هذه الملاحظات لا تلغي الجوانب الإيجابية في بعض التجارب لكنها تطمح إلى إثارتها وتحفيز شعرائها لتعميق تجاربهم مبنى ومعنى وجمالية في اللغة والتعبير.