ظنّوا أنّي ممسوس
بداية، الأداء فناً، هو ابتكار غربيّ تقنياً، أما بالنسبة إليّ فهو فضاء معرفي يتجاوز التجنيس، هو مساحة للتفكير في اللحظة المعاشة آنيّاً. في البداية، بلغ التوتر النفسي أشدّه لحظة المجزرة التي حصلت في معسكر سبايكر عام 2014، حيث تم قتل آلاف الجنود على ضفة نهر دجلة في مدينة تكريت، وكان الحدث قد أرهب المجتمع كله، لدرجة أن الناس فكروا جديًا بالهروب الجماعي من العراق، وفي عام 2015 أنجزت عملي الأول المسمى “غيمة على دكة الماء”، وكان لحظة تغير كاملة في الرؤية والتقنية شعريا وثقافيا. حينها أيضاً كتبت مقالا تنظيريا بعنوان “من عطل اللغة إلى بلاغة الجسد”.
تلك الانعطافة الحاسمة في مشروعي الشعري ساهمت في تغيير لغتي وتفكيري بالكامل، لأن ما يحدث على أرض الواقع يتفوق كثيراً على النمط الأدبي والسياق العام، ليس في العراق فقط، إنما في العالم العربي النائم والغافل عن حجم المأساة التي يعيشها. كما أن مرحلة رواد شعراء قصيدة النثر قد انتهت، خصوصاً أنهم تأثروا بالنتاج الفرنسي على المستوى التقني للغة والتصور والخيال الفضفاض، ما شكل لحظة عزلة عن كيان مجتمع لا يهتم أو يتابع ما يقوله الشعراء من هذيانات بائدة وسطحية، وأقصد هنا كلاّ من أنسي الحاج وأدونيس في الشام وخزعل الماجدي في العراق مع جل احترامي لمنجزهم الشعري.
كان هذا الأداء بمثابة صرخة في سواد المحنة والمجازر، حيث لم تعد اللغة قادرة على توصيل ما أريد وكان الانفعال الذي يقدمه الجسد هو الوحيد القادر على بث لغته الخاصة إلى كل العالم دون استخدام أيّ كلمة.
لأول مرة في العراق والوطن العربي كان الجسد له الحضور الأول في بث خطابه على مستوى فن الشعر. لقد كان خطابا ضد الخطر الذي يمسخ الأجساد العراقية، لقد حوّل الإرهاب والحروب المستمرة الجسد إلى مساحة للحكي والخطابات السياسية، وأيّ خلاف سياسي بين المتصارعين، ستكون نهايته التقطيع والتمثيل بالأجساد العراقية حتى إذا كان العدوّ أجنبيا، وهذا ما حدث منذ عام 2004 وحتى 2014 تقريبا. وهذا الواقع يتيح لي أن أختلف مع الفكرة التي تقول إن تعريض الجسد للخطر في ظل التهديد بالموت يفقد الأداء معناه النقدي، لأن تكريس الحدث يتيح للمشاهد التعامل معه بصفته إعلانا مدفوع الثمن، وهو جوهر الفعل النقدي الذي يقدم لنا موقفا أخلاقيا ضد الواقع في ضوء تحويله إلى قناع قابل للتغيير في ظل سيولة المعلومة واستخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو أكبر انتصار حققه الشعر عندما غادر المؤسسات الحكومية والتبعية للسلطة، واختار الحرية في بث خطابه وإعلان الحقيقة بصورة مؤلمة وقبيحة أحيانا، عاكساً قبحنا الذي لا نراه إلا في عيون الغرباء. من هنا، كان الأداء هو الرد الوحيد للوصول إلى قيمة المواجهة بالفعل وليس اللغة المكتوبة. بمعنى أن التحول الكبير يترك كل الإرث اللغوي من فردينان دي سوسير إلى التفكيك، هو إرث يتعامل مع اللغة حصراً، أو بالأحرى مع النص المكتوب، ليكون الجسد مساحة البلاغة الأكثر حضورا في بث الخطابات اليوم.
تحوي أشكال الأداء التي شاركت فيها وأنجزتها مزيجاً من المسرحة والشعر والسرد، وهذا ليست مستحدثاً لمن عمل ودرس الفنون، فقد درست المسرح كما درست الفن التشكيلي وتخصصت به، وقدمت أيام الدراسة الأكاديمية في التسعينات من القرن العشرين عدة أعمال مسرحية وشاركت في عروض منتدى المسرح في بغداد وقدمت عام 2005 فلماً من بطولتي بعنوان “يوم الاثنين الدامي” من إخراج الفنان محمد موسى، وكان عن تفجير مستوصف في مركز مدينة الحلة وهي المدينة التي أعيش فيها، راح ضحيته مئات الناس، وكان منفذ العملية الإرهابية اسمه محمد البنا من الأردن، وقتها احتفل أهل الإرهابي بمقتل الناس الأبرياء في العراق، وشكل رد فعل كبير من الغضب والكراهية لدى الشعب العراقي.
ترافقت علاقتي مع الجمهور بأحداث الواقع التي تغير قناعاتنا دوما، في الوقت الذي تربينا فيه على الانتماء للقومية العربية طيلة فترة حكم البعث البائد، اكتشفنا عهر النظام وسخافة ما نسميه القومية العربية، كل ما كنا نعرفه ونؤمن به أصبح مجرد وهم وضحك على الذقون. لأول مرة اكتشفنا أن أميركا قد خلعت ملابسنا وأصبحنا عراة بالكامل، لا نملك فكرا ولا ثقافة ولا حضارة ولا مدينة، رغم مرور 100 عام على النهضة العربية والتحديث الاجتماعي والتعليمي تقريبا، إلا أننا لأول مرة نكتشف أنفسنا على حقيقتها، وأعني هنا الشعور الجمعي للمجتمع بالانهيار الكامل أمام الغرب مجددا، ففي الوقت الذي كانت المدارس تربينا على قدرة الشعب على الثورة ومواجهة الغرب، كانت الحقيقة أن كل ذلك كان مجرد هراء، لأن من كان يحكمنا ومعه كل رؤساء الوطن العربي مجرد آلات بيد الغرب والإرادة السياسية العالمية.
هذا الشعور بالإحباط كان سبب مواجهتي للمجتمع كله بحقيقة ما يحدث وأمام الجميع، وأفضل مكان لمواجهة الناس هو الأسواق وساحات تواجدهم المعيشي. كان السؤال الذي يلح عليّ وقتها “لمن أكتب الشعر؟ لي أم للناس؟”. وكنت حريصا على مواجهة نفسي في التجريب قبل أي شخص. وكانت ردود أفعال الناس هي كالتالي:1ـ الاستغراب 2ـ التوجس 3ـ الشك 4ـ الحكم بالجنون 5ـ التعاطف مع الموضوع، والرد الأخير هو ما أبحث عنه، فقد بكى بعض الناس لأنهم فهموا رسالة النص، وتفاعلوا مع الانفعال العالي لرفض الخراب والانهيار الذي نعيشه. أما البعض الآخر فقد سخر من كل شيء لأنهم يائسون جدا من الواقع العراقي وإمكانية تغييره.
بالنسبة إليّ كان الدرس الأكثر عمقا على المستوى الشعري فنيا وتقنيا، هو أن الخلل يكمن في الشاعر وليس في المتلقي أو الناس عامة، لأن كل فرد يملك نفس المشاعر والأحاسيس التي يملكها الشاعر، أما الشاعر فكثيرا ما يلبس قناع الثعلب ويعتقد أنه أذكى من الناس وهو الفخ الكبير الذي يقع فيه شعراء العربية المعاصرون.
في التجربة الثانية التي قدمتها في شارع المكتبات بالتزامن مع الشاعرة الفرنسية كاثرين سير (Catherine Serre) من مدينتها ليون، وأنا من مدينة الحلة في وقت واحد، وجدت التفاعل الإيجابي أكثر من المرة السابقة، لأنهم عرفوا من هو الشاعر الذي يتحدث، وعرفوا عدم انتمائي لأي حزب او جهة سياسية،فاطمئن المتلقي لسلامة صاحب الرسالة وهو الأهم بالنسبة إلى الجميع. إذ لا حقيقة لمن ينتمي ولا تفاعل لمن ينافق، والناس هم المختبر والمحيط الذي ينمو فيه الخطاب ويتجذر في النفوس، ولو كان معي شاعر واحد يعمل بنفس الطريقة لتغير المجتمع وتغيرت الإرادة الجماعية بالتواصل والاستمرار والضغط.
ما فعلته السلطات المتناحرة أو من يملكون قوة السيطرة على الأجساد، يشابه طقساً دينياً شكّل الجسد العراقي فيه الأضحية أو القربان، وفكك المنظومة الاجتماعية وحوّلها إلى كيان عشائري في ضوء عنوان “الطائفة”، وهو كيان وهمي، القصد منه أن يلوذ الجسد داخله لينعم بالأمن الافتراضي في الوقت الذي يؤهله هذا الحصن ليكون أضحية مستعدة للنحر في أيما وقت تريده السلطة الدينية. وفي الأداء المعنون “بانتظار الضوء” كان جسدي معلقا مع بقية اللحوم المعروضة للسلخ في محل القصاب أو المسلخ، والألم هنا لا يخص الجسد وحده بل الفرد في معنى وقيمة حياته. ذلك الاستسلام البغيض للعدم، وأنت على حافة كل شيء بين التعايش مع الألم أو مقاومته، أن تكون مشهدا يتوارثه المحيط الاجتماعي بصفته قدرا سياسيا، بمعنى الإحساس الجمعي للقبول بالمهانة المتوارثة على يد الطغاة والاستعمارات المتوالية عبر التاريخ، وهي ظاهرة يفهمها الإنسان العراقي وحده، حيث يصبح العذاب والألم جوهرا متلازماً وجمعياً.
الإحساس بالألم أصبح جمعيا، وهو ما أعطى جسدي الشخصي حضوراً سياسياً، بصفته خطابا مضادا لظاهرة التدمير اليومي للأجساد العراقية، وهنا أستطيع أن أقول أن الأداء امتد إلى كل مفاصل حياتي اليومية، ولم أشعر أنني أفصل بين الأداء بصفته فناً يتم التحضير له كأيّ عمل مسرحي وبين مجريات حياتي التي أمارسها كنظام علاماتي باث لخطابات مختلفة، لذلك كانت آلية “العزل” أحد مخرجات الاختلاف على المستوى الاجتماعي والسياسي، لأن ما أفعله لا يمكن فهمه من قبل الآخرين، كان البعض يعتقد أنني أعاني من حالات نفسية أو أنني ممسوس، في ظل مجتمع مغلق وغير واع بمجريات التغيرات السوسيو-ثقافيّة الحاصلة بعد الدخول الأميركي، ليس في العراق وحسب، وإنما في منطقة الشرق الأوسط كله.
المساحات الخالية والأثرية هي غربة الشاعر في العالم، بدأت الفكرة مع القراءة الشعريّة الأولى في المقابر عام 2015، حيث فكرت في أن جمهور الشاعر ميت، ولا أحد يستقبل خطابه، الشاعر في الوطن العربي يفقد أهم حلقة في مفهوم المثلث السيميائي (المؤلف-النص-المتلقي) المعادلة ناقصة دائما في الشرق. ليس هناك متلقّ كما هو الحال في الغرب أو أيّ مكان في العالم الحديث. المرجعيات والخطوط الأساسية للخطاب ليست فردية، بل إنها ما زالت تنتمي للماضي، حيث لا حاضر ولا مستقبل، لأن الجميع يؤمن أن الحقيقة تكمن في الماضي ولا شيء مستحدثا ذو قيمة.
الشاعر في الشرق فقد القيمة الاجتماعية للأدب. بمعنى أنك لا تستطيع أن تقنع ابنك أو ابنتك بقيمة الأدب والشعر مقابل الطبيب أو السياسي أو المجرم أو الحرامي أو الانتهازي.. الخ. على المستوى الفني تصبح المساحات الفارغة علامة لتأويل ما يحدث. الصراخ والقول واللغة لا تعني شيئا إلا في حدود متلق خاص ومتابع، ومنه إلى كل من يملك تلك الخصوصية في الإحساس. وهنا يكون الجسد مرة أخرى هو الحل في تمثيل ما لا تستطيع اللغة قوله أو إيصاله إلى الآخر المختلف. وهو ما حصل في مشروع “قرص الحواس″ فالجسد لا يتصل بالعالم إلا في ضوء حواسه التي تقدم له المعرفة بالمحيط المادي والثقافي والحسي.
هل يكفي هذا لوصف الواقع؟ أعتقد لا.. لكنني هنا أتناغم مع انفعالي فقط، لأقول ما لم أستطع قوله في الأعمال السابقة. لكن المكان المعزول والأثري خاصة، مثل بابل وبور سيبا وغيرها من الأماكن، تستدعي الهوية والثقافة الأولى، في مقابل ما حصل ويحصل دائما. العراق بصفته مكان التنوع الثقافي والإثني والاختلاف عبر التاريخ منذ البدء وحتى الآن، لا يمكن اختزاله إلى نمطين ثقافيين هما (شيعي-سني) وتفريغ محتواه من التأصيل والمحو المستمر لكينونته الأولى والفعلية، كونه الحاضنة الأساسية لانطلاق حركة التاريخ والمنجزات البشرية الأولى، شئنا ذلك أم أبينا، هذا المكان لا يموت ما دامت الشواخص الأولى موجودة وفاعلة ومازالت تلك الأماكن تملك طاقة عالية على التأثير في المحيط. وهو ما فعله تنظيم داعش الإرهابي عندما حطم آثار الموصل من أجل تفتيت المكان ومحوه.
يتعامل الفنانون مع الأداء بصفته جزءا من العرض المسرحي أو أنه فن مسرحي خالص، لذلك غالبا ما صُنّفتْ أعمالنا على أنها مسرح شارع. والحقيقة فإن الوسط الثقافي مشغول بمسألة التصنيف، وهذه أحد مشاكل التنافر بيني وبينهم. الأداء حر في التعامل مع كل الفنون وبالتالي فهو متنافذ وضد الحدود المدرسية للتصنيف. ليس الشكل هو ما يهمني في العمل بقدر اهتمامي بالرسالة التي ينتجها النص الشعري، فأنا قبل كل شيء شاعر أدائي وهذا الفعل مختلف وجديد كليا على الساحة العربية، لدرجة أنني انتهكت كل الأعراف والأنماط لصورة الشاعر الراسخة في العقل العربي.
في الغالب يظهر الشاعر بملابس رسمية مع منبر عال ومايكرفون في قاعة تضج بالمدعوين من جهة رسمية أو منظمة ثقافية ذات سياق مؤدلج ومعروف مسبقا، لكن أن يظهر شاعر عار وسط سيارة مفخخة أو وسط حقل ألغام، فهو اختراق لكل تلك الأعراف وشطط جنوني لا يقبل الشك. إنه أعلى مراحل الاختلاف والريادة في تهجين الفنون، لقد رأيت هذا في عيون الآخرين وردود أفعالهم الرافضة بخجل أحيانا أو بشكل معلن، ولم يكن هذا من أجل لفت النظر أو جلب الاهتمام الإعلامي، فقد تجاهلنا الإعلام الثقافي منذ البداية وما زال. لسبب جوهري هو أن أعمالنا همشت المركز ودمرت تقاليده التي أصبحت الآن مجرد مشاهد مضحكة تمارسها المؤسسات البائدة مثل اتحاد الأدباء ونقابات الفنانين النمطية حد الغثيان.
برأيي الشخصي، ليست هناك فنون هامشية أو أشخاص هامشيون، بل هناك تجارب عظيمة وتجارب فاشلة. ما يحدث هو أن الأغلبية يمارسون السهل من الأشياء في الفنون التعبيرية بشكل عام لذلك يبقون في الهامش. وهذا ما يحثني على تقديم المستحيل دوماً، ما لا يفكر به أحد حتى في الحلم. لا أعتقد أن هناك شاعرا يقرأ نصه في مكان فارغ. لأن التقليد هو أمام الجمهور فقط، لكن مبدأ القوة هو ما يجعل الآخرين يتابعون الخطاب ويتداولونه، فنحن نيتشويون في الجوهر.
تبدو قوة الأداء قرينة بقوة الإرادة في الكشف. ما فعلته في الأداءات الخاصة بمناطق العنف مثل “حقل الألغام/المفخخات/الطائرات الحربية/البيوت المهدمة/المفاعل النووي في بغداد/ طريق بغداد – حلة أو ما يسمى بمثلث الموت. وغيرها”، إنما هو كشف لحجم آليات العنف المستخدمة لتدمير المجتمع العراقي، سواء من قبل القوى الحاكمة أو الدخول الأميركي والدول المجاورة على حد سواء.
لحم المؤدي هنا يساهم في عرض العلامة، كل منطقة يدخلها ذلك اللحم، يقدم لنا رغبة مازوخية لجلد الذات واللذة في قلب أوراقها، المكان صفة ملازمة لتشكل نوع اللحم المراد كشفه، ففي المفخخات كان لحمي عاريا ومحروقا بصفته الرمزية لاكتواء اللحم بالنار. في حين يساهم لحم المؤدي في الانهزامية والسكون السلبي في حقل الألغام وهو يحاول الضغط على لغم قديم قابل للانفجار في أيّ لحظة. إن ممارسة الرغبة الجارفة في وضع اللحم في مسار يتماثل مع الإرث الجمعي لنوع العنف المراد كشفه في سياق الحروب والقصف والتشويه الحاصل لذلك اللحم في سيارات الإسعاف مثلا، يقدم النص بصيغة التجسد الاستعادي، فنحن الأضحية السياسية دوما. هذا ما تعلمناه من تاريخ الحروب.
المنطقة العربية تكاد تكون خالية من فعالية الأداء. لسبب جوهري يكمن في الاختلاف الثقافي بين الغرب والشرق، الفضاء الاحتفالي والاستعراضي للأداء غير مسموح به في الشرق بصفته نزعة فردية تقف بالضد من العرف الديني والاجتماعي وحتى الإبداعي، وذلك لأن النسق الحاكم لذائقة الناس والدولة والفرد ذات بعد تقليدي ديني متناغم مع العرف السائد، حتى بالنسبة إلى من هم مختلفون. والأسباب هي كما أراها:
أـ الجسد عورة: وهو الأداء والقيمة الاعتبارية لفن الأداء. فيما يكون التواصل عبر اللغة المحكية والمكتوبة هي النسق التقليدي سواء على مستوى الإبداع أو التواصل. بمعنى أن الجسد بصفته لغة تعبيرية محذوف من المدرك العقلي إلا في حدود الجنس الذي يتيحه جسد المرأة.
ب ـ الإعلان بصفته أداة للاعتراض والتظاهر: وهو محرم ما دام ضد ولي الأمر، وأقصد هنا الفارق الواقعي بين زمنين يعيشهما المواطن العربي الإسلامي وهما “زمن الحداثة والمدرسة التي صدرها لنا الاستعمار الأوروبي” و”الزمن المقدس لحضور الدولة الإسلامية في العقل العربي”. وأنا أفرّق هنا بين الإسلام كدين والإسلام كدولة، فأنا أؤمن بأن الإسلام ليس دينا بل دولة.
هذان العنصران هما جناحا فن الأداء إذا جاز لي التعبير، وهما غير مقبولين في الوطن العربي إلا في حدود الشطط الذي أعيشه شخصيا. هذا الاختلاف غير مقبول، لأن الفنان والأديب مازال حتى الآن في الوطن العربي لا يمثل سوى نظام الدولة وأيديولوجيتها السياسية. إنه بوق ليس إلاّ، مع بعض الاختلافات الثقافية.
في حادث تسميم الأنهار في العراق وقتل آلاف الأسماك، كنت أحمل الأسماك بخيوط وسط السوق في المدينة وأقرأ نصا شعريا حول موتنا جميعا، وأتحدث عن قتل الطبيعة والمدن والإنسان في العراق، وكان الناس يتساءلون عما حدث، أحدهم سألني بعد انتهاء الأداء “شكو؟.. شنو إلّي صار؟.. شبيك أنت؟”، وكأن موت الطبيعة وتجفيف الأنهار وتسميم الأسماك لا يعنيهم. الإنسان العراقي أصبح بليدا إلى حد أنه لا يستطيع أن يرى المحيط. إنه منفصل عن كل شيء سوى احتياجاته المعيشية فقط.
الأداء لحظة قرع الأجراس وعلى الجميع أن يستمعوا لصوت الضمير الجمعي، الشاعر يتكلم أيها الناس.
تضحكني عبارة “المؤسسة الرسمية” وبالنسبة إليّ هي تعني نظام الحكم الأيديولوجي، وأنا وقفت ضد كل المؤسسات الرسمية بعد 2003، أي بعد سقوط الطاغية صدام حسين، لأننا لأول مرة نعيش الحرية الأميركية والديمقراطية الأميركية، قد يكون كلامي هذا مثيراً للتعجب، لأني أقول ما لم يخطر على البال، لكن الحقيقة أن العراقي لأول مرة، يستطيع أن يتحدث ويتظاهر بأعلى صوته ضد النظام بعد دخول الجيش الأميركيّ، فالعراقي من بغداد إلى البصرة كان مجرد عبد كما كان يقول الرائد الركن “مقدام جابر” وهو من أبناء تكريت في الجيش “لكْ قندرة أنت مجرد عبد عدنه.. لا تتصور نفسك مواطن”، هذه النظرة كانت محور رؤية الدولة الحاكمة “للكائنات” التي تعيش وسط وجنوب العراق، وهو ما جعل الانهيار سريعا، لأن الجيش قد هرب مسرعا لحظة المواجهة مع قوات التحالف أيام 2003 وما بعدها.
العلاقة مع المؤسسات الفنية والأدبية مثل اتحاد الأدباء ونقابة الفنانين وجمعية التشكيليين محض هراء وظيفي لا يمتّ إلى الإبداع بصلة، إنهم مجاميع من الانتهازيين يقومون بتقديم أنفسهم على أنهم ممثلين للوسط الثقافي والفني لاستدراج المال والمهرجانات والعلاقات المشبوهة، وبالتالي فإننا نفقد واحدة من أهم مسارات العمل الإبداعي في البلد، ومنه إلى باقي الدول العربية التي تعاني من نفس المأساة حسب ما أسمع واتصل بأصدقائي في العالم العربي كله. الواقع واحد في كل مكان من الشرق الأوسط العربي.
في العراق ما زالت هذه المؤسسات تقدس الأسماء السابقة التي أحاطها النظام السابق بالرعاية والاهتمام، لسبب جوهري يكمن في أن هذه الأسماء ما زالت تسيطر على منظومة التواصل مع تجّار الفن وسماسرة الأعمال الفنية والآثار المسروقة من العراق طيلة الفترة الماضية منذ عام 2003 وحتى الآن.
بعد ذلك أستطيع أن أقول إن فن الأداء لا وجود له في هذه المؤسسات إلا في حضوري مع بعض الأصدقاء المختلفين في التفكير والإبداع مثل محمد عبدالوصي والشاعر كاظم خنجر وعلي ذرب وآخرين تأثروا بنا.