الشاشة بديلاً من لوحة القماش
واحدة من الظواهر الفنيّة التي ترافقت مع التطور التكنولوجي الهائل مرتبطة بالشاشات وتطبيقات عرض الصور وتعديلها، وأشهرها الأنستغرام، الذي شكلّ مساحة افتراضيّة لا فقط لاستعرض الذات، بل لاستعراض المنتجات البصريّة، بوصف حساب الأنستغرام مساحة للتسويق الذاتي وإنتاج أشكال فنيّة مُخصصة لكي تستعرض على الشاشة فقط، وكأننا أمام صالات عرض بديلة يستفيد منها لا فقط “الفنان” بل أيضاً شركات الإعلان والتسويق، كون هناك البعض ممن يمتلكون ملايين المتابعين والفاعلين الذي يتاح لكل واحد منهم أن يترك أثره/ تعليقه على ما يراه.
هذه المساحة البصريّة الجماهيريّة التي يتحكم الفرد بصورة كاملة بما تحويه تسللت للمتاحف العالميّة ومساحات العرض العامة، بوصف ما يظهر ذو جماليات خاصة إطارها البرنامج ذاته، ينتجها الأفراد ذاتياً في الكثير من الأحيان، وهذا وما نراه في معرض أقامه الفنان الأميركي ريتشارد برينس بعنوان “بورتريهات جديدة”، إذ قام بجمع عدد من صور الأنستغرام التي التقطها أشخاص عشوائيون لأنفسهم، وعرضها في معرض فرايز في نيويورك، وأثار حوله الكثير من الانتقادات إذ اتهم بأنه لصّ وهناك من يسعى لمقاضاته ممن عرضت صورهم.
ما يثير الاهتمام هو المفارقات التي يثيرها عرض هذه الصور حول ملكيتها ومقدار الجهد الفنيّ الذي بذله الفنّان لتكوينها، إلا أن تأثير تقنية الظهور على الشاشة، امتد إلى داخل القطاع الفني، وأصبح شرعياً نوعا ما، كتقنية السيلفي تبناها مثلاً الصيني أي وي ويو وأنتج واحدة من أشهر “السيلفيات” مازجاً التقنيّة الجديدة مع الاعتراف الفنيّ.
ساهم الأنستغرام والمساحة التي يوفرها بإعادة تعريف القواعد الفنيّة، وجعل اللعب أمام الشاشة احتمالاً جمالياً جديداً، يخالف ما هو تقليديّ وشرعيّ، ولا نتحدث هنا فقط عن الأنستغرام كمساحة للعرض، بل أيضاً كإطار ذو خصائص تؤثر في الصورة أو اللوحة والعلاقات الداخليّة بين عناصرها.
هذه الظاهرة المرتبطة بالأنستغرام نادرة الوجود في العالم العربي، خصوصاً أن فنانيها أو بصورة أدق، ممارسيها، لا ينالون الاعتراف الكامل، بل ينظر إلى أعمالهم بوصفها هاوية أو مبتذلة، إلا أن هناك بعض التجارب المثيرة للاهتمام، والتي توظف الأنستغرام كوسيلة للتعبير الفنيّ، كالمهندسة المدنيّة دانا داوود التي تمارس هذا النشاط “الجماليّ” منذ حوالي العام، ناشرة “لوحاتها” على الأنستغرام، وحين سؤالها عن هذه التجربة، تجيبنا أولاً بأنها حاولت أن تأخذ ما تنتجه من “فن” على محمل الجدّ، إلا أن العامل الأول مرتبط بمدى نشاطها على العالم الرقميّ، أي ببساطة عدد أصدقائها، وتقول إن “الفن” برأيها مرتبط بمجموعة من العوامل والممارسات التي تحتاج مشاركة الكثيرين كي “يظهر” العمل الفنيّ، إلى جانب التأثير الذي يمتلكه الفرد وتفاعله مع الآخرين، وذلك كي ينال شرعيّة ما، ولو ضمن العالم الرقمي، وفي ذات الوقت ترى أن “قيمة” ما تنتجه، مُرتبط بشخصها أو حياتها الرقميّة، كونها تنشر على حسابها الشخصيّ، ما يجعله نظرياً انعكاساً لما تشعر به ولوضعيتها الاجتماعيّة، وهنا ترى أنّ ما تنتجه في الكثير من الأحيان منفيّ.
ولا يعتبر فناً في الكثير من الأحيان، خصوصاً أن الأعمال الفنيّة ضمن مساحة الأنستغرام لن تصل إلى الكثيرين، أي أنها ليست مساحة مناسبة لبدأ مسيرة فنيّة من نوع ما، في حين أنّها مساحة ملائمة للترويج للفنانين المعروفين وذوي الشرعيّة، لتكون أشبه بتقنيّة تسويقيّة، تساعدها بخلق الوهم بأنّ الفنّان متّصل مع الجمهور وقريب منهم ، بل ويتفاعل مع آرائهم ،وهذا ما لا ينطبق مع حالتها كونها مهمّشة ولا تمتلك الاعتراف الفنيّ، والآراء التي تصلها هي من أصدقائها الذين يكتفون بالتشجيع، إلا أن القليلين وجدوا أعمالها “مؤثرة”، وهذا ما خلق لديها الانطباع بأهمية ما تقوم به، إلا أن الأنستغرام كمنصة قائمة على التصفح لا المشاهدة، يشتت انتباه المشاهد، إذ تكفي حركة بسيطة حتى يتلاشى “عملها” من أمام أعين المشاهد نحو صورة أخرى.
بالرغم من الصعوبات والخصائص التي يحتويها الأنستغرام نفسه كمنصة، هناك بعض العوامل الجمالية المرتبطة به كساحة للعبير، إذ ترى دانا أن المحاولات الدائمة لخلق “فن” للأنستغرام تجعل من الفرد نفسه مقيّدا بشروطه، فمثلاً لا يمكن نشر صور أو لوحات تحوي الكثير من التفاصيل، أيضاً هناك الميل لأن تكون الأعمال تصغيريّة، في ذات الوقت “جميلة”، أي تلفت الانتباه وقادرة على ترك أثر آني، خصوصاً أنها في ذات المساحة التي تظهر فيها صور عارضات الأزياء والمشاهير، وبالتالي لا بد من الانصياع لزمن التلقيّ وأسلوبه على الأنستغرام.
يشكل الأنستغرام أيضاً مساحة لتلقي الفنون الرقميّة، تلك التي لا يمكن أن نراها إلى على الشاشة، كما في حالة الفنانة الرقميّة السوريّة سلافة حجازي، التي يشكّل الأنستغرام مساحة لتقديم جزء أو لقطة واحدة من أعمالها المتحرّكة والتي تنتمي كليّا للشاشة، بحيث يكون الأنستغرام وسيطاً للاطّلاع على العمل الفنيّ ومفهومه دون تلقيه بشكل كامل، أو أحياناً مشاهدته بأكمله، وهذا ما لا توفره الوسائط التقليديّة للعرض أو حتى الصورة الثابتة سواء كانت رقميّة أو واقعيّة، وحتى الصور المطبوعة لا تشكّل كامل التجربة، كونها جزءا (frame) واحدا من إيقاع العمل الفنيّ ضمن الزمن.