ملوك وعبيد: السود في التراث الإسلامي
بعده يأتي ابن المرزبان (ت 309 هـ)، صاحب كتابي “ذم الثُّقلاء” و”تفضيل الكلاب على كثيرٍ ممّن لبس الثِّياب”، وهما مطبوعان، ويُعلق السَّيوطي على عنوان كتاب ابن المرزبان “السُّودان وفضلهم على البيضان” معترضاً على الكاتب والكِتاب: “ولا أستكثر هذا عليه، فقد ألف كتاب: تفضيل الكلاب على كثير ممّن لبس الثِّياب، فإذا فضل الكلاب على بني آدم، لم يُكثر عليه أن يُفضَّل السُّودان على البيضان” (نزهة العمر).
ثم تأتي رسالة أبي العباس عبد الله بن محمد النَّاشئ (ت 293 هـ) “تفضيل السُّود على البيض”، على أنه ألفها بسبب خصومة بين أسود وأبيض رسالة في “تفضيل السُّود على البيض”. لكنَّ الرِّسالتين الأخيرتين ما زالتا مِن المفقودات. ثم يأتي كتاب أبي الفرج عبد الرَّحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) “تنوير الغبش في فضل السُّودان والحبش”، وكتب عديدة أعقبته، وكان الهدف، حسب المقدمات دفاعاً عنهم، لما لهم مِن دور في الدَّعوة الإسلامية والأدب الإسلامي.
الجيوش والأسواق
مَن يقرأ فترة صدر الإسلام، وما ورد فيها مِن آيات وأحاديث وأحكام وممارسات، سيجد أن الأسود ما إن يشهر إسلامه حتى يصبح حراً وليس هناك عائق يحول دونه والسِّيادة، فقد أصبحوا صحابة والنِّساء صحابيات، ومِن بينهم المؤذن الأول في الإسلام، وفقهاء وقادة جيش، كأسامة بن زيد بن حارثة. لكن بعد صدر الإسلام، وتحول الخلافة إلى مُلك، في الدَّولة الأموية والعباسية، اختلف الموقف تجاه السُّود، بعض الشيء، وذلك لظهور الملكيات أو الإقطاعيات والقصور الفخمة والجيوش الجرارة والأسواق وتوسع التجارة فيها، فظهرت الحاجة لوجود عبيد، مع أننا لو نظرنا في النصوص القرآنية لوجدنا الميل إلى العتق بارزاً فيها، فعتق رقبة يُقدم لإزالة أبسط الذنوب.
برز بين السُّود شعراء نازعوا كبار شعراء عصرهم البيض كهمام بن غالب الفرزدق (ت 101 هـ)، وجرير الغطفي (ت 110 هـ)، واقتحموا مجالس الخلفاء والملوك والسلاطين بقصائدهم، مع أن العديد منهم ظل يذبُ بشعره عن لونه، ففي تلك العصور، وما زال الأمر قائماً، أن البياض للسادة والسَّواد للعبيد، فلون الجنة أبيض ولون النار أسود، ويملأ هذا التصور كتب التراث الديني.
خطيئة حام
ما قبل الإسلام، ومثلما ورد في كتاب “التَّوراة”، أن العبودية ومِن ثمة اللَّون الأسود ارتبط بخطيئة، فعلها حام بن نوح، فجاء دعاء والده عليه بعبوديته وعبودية ذريته لأخويه سام ويافث وذريتهما. حام الذي وجدنا في نص ينقله ياقوت الحموي (ت 626 هـ) في “معجم البلدان” بأنه مدفون في صخور شاطئ أصيلة بأقصى بلاد المغرب.
فهذا الشَّاعر جعفر بن عبد الله بن قبيصة المعروف بابن عُقاب، وهي أمّه السَّوداء قال شاكياً مما حمله جنسه بأثر تلك الأسطورة. قال متوجعاً لأّمّه (الثعالبي، الشكوى والعتاب، والزَّمخشري، ربيع الأبرار)، ولم نجد له تجرمة غير اسمه وهاتين البيتين:
وضمّتني العُقاب إلى حشاها
وخير الطَّير قد علموا العُقاب
فتاة مِن بني حام بن نوح
سبتها الخيل غصباً والرِّكاب
مع ذلك واجه كُتاب الإسلام ومؤرخوه ومفكروه تلك الأسطورة بالنَّقد، والبداية على حد اطلاعنا جاءت مِن قِبل جماعة إخوان الصَّفا في رسائلهم، على أن السَّواد انعكاس للبيئة ليس له علاقة بخطيئة حام في رؤية عورة أبيه. لقد سادت العبودية، ونقصد بسبب اللَّون، العالم المتقدم الشرقي والغربي المتأخر، حتى جاء الثَّورات ضدها وأزيلت التجارة بالرقيق السُّود، وبطبيعة الحال العبودية للبيض والسُّود على حدٍّ سواء، لكن بعد العتق ينتهي التَّمييز العنصري ضد البيض ويبقى قائماً ضد السُّود بسبب اللَّون، فما بين إلغاء تجارة الرِّق والعبودية (1865) ثم التمييز العنصري (1962) ضدهم نحو مئة عام.
ولأن العبودية نظام عالمي، لا يمكن تجاوزه في حال مِن الأحوال، بعد نضوج الظروف الموضوعية لذلك، فلم يتمكن دعاة الحرية والعتق الجماعي أن يلغوها قبل القرن السابع عشر الميلادي، ولكثرة العتق في الإسلام وسرعته قال عبد الرَّحمن الكواكبي (ت 1902)، في رسالة خاصة بالرِّق: “إنه إزالة العبودية التدريجي” (الأعمال الكاملة).
من يقرأ فترة صدر الإسلام، وما ورد فيها من آيات وأحاديث وأحكام وممارسات، سيجد أن الأسود ما أن يشهر إسلامه حتى يصبح حراً وليس هناك عائق يحول دونه والسّيادة
السيد والعبد
هناك مفارقة كبرى بشأن هؤلاء السُّود، في ظلّ الدول الإسلامية، لقد تراوحت منزلاتهم بين الملوكية والعبودية، لكن هؤلاء الملوك والوزراء السُّود عندما جلسوا على عروش الحكم صاروا يقتنون عبيدا، وحتى الثُّوار السُّود، الذين ثاروا بالبصرة، وأكبرها كان العام 255 هـ)، ومِن قَبل بالمدينة (145 هـ) أثناء خلافة أبي جعفر المنصور (ت 158 هـ)، لم يرفعوا شعار الحرية أو العتق، إنما هي طبيعة الحكم في ذلك العصر، وهل كان عبيد ملوك أفريقيا السّوداء مِن غير السُّود؟
كان مثال كافور الأخشيدي (ت 357 هـ) بارزاً في أسطورة العبيد السُّود، وعدم وجود موانع تحول بينهم وبين سدة الحكم، لكن بعد إثبات الذات، والتقدم في الإدارة، فصار هذا القائد قبلة أكبر شعراء العربية كأبي الطَّيب المتنبي (اغتيل 354 هـ)، وقال فيه ما لم يقله بغيره، ومنه:
عَدُوُّكَ مَذْمُومٌ بِكُلّ لِسَان
وَلَوْ كانَ مِنْ أعدائِكَ القَمَرَانِ
لَوِ الفَلَكَ الدّوّارَ أبغَضْتَ سَعْيَهُ
لَعَوّقَهُ شَيْءٌ عَنِ الدّوَرَانِ.
إلا أنه لم ينس عبوديته ولونه، عندما انشق عليه الشَّاعر فقال فيه بما سارت به الرّكبان. مع أن قرب المتنبي مِن كافور قبل أن يصبح الأخير ملك مصر والشَّام، إنما كان وصياً على عرش الأخشيديين.
هذا ولم يكن مثال كافور الوحيد في ملوكية السُّود على عروش البيض، إنما بعده بحوالي قرن مِن الزمان ظهرت أسرة آل نجاح (القرن الخامس الهجري)، وصاروا ملوكاً على اليمن لزمن طويل، وكان وصولهم عن طريق العبودية ثم العتق فتحمل المهام التي تصاعدت رويداً رويداً حتى صاروا من المحظيين عند وزراء آل زياد، ومِن هناك استولوا على الحكم، وكان الأصل في هذا كله وزير أسود يُدعى ابن سلامة، وكان مِن خيرة الوزراء في دولة آل زياد باليمن.
تراث ثريّ
إن قراءة تراث السُّود في الحضارة الإسلامية يُطلعك على أُناس عذبتهم العبودية؛ وواجهوا ذلها، ودفعتهم في الوقت نفسه إلى إبراز ذواتهم في الشعر أو الأدب أو القيادة. بطبيعة الحال أن التفوق بالنِّسبة إلى الأسود ليس باليسير فأي إخفاق منه يُحسب على لونه، وأيّ نجاح ينظر إليه باستغراب، فكم يحتاج الأسود من موهبة شعرية أو موسيقية أو غنائية أو إدارية كي يخترق مجلس خليفة أو ملك أو سلطان وينال إعجابه.
تجد في هذا التراث عذابات تُصيب الأكبر وتُصيب الأصغر، وردّ الحيقطان على جرير الخطفي وهو يتناول الزِّنج أو السُّود في هجاء آخرين، عندما قال:
لا تَطْلُبَنّ خُؤولَةً مِنْ تَغْلِبٍ
فَالزّنْج أَكْرَمُ مِنْهُمُ أَخْوالا.
ذلك البيت الذي أثار روعة شاعرية الشُّعراء السود ليقولوا القصائد التي منها استل الجاحظ الأسماء ليكنزها في رسالته المهمة “فخر السُّودان على البيضان”. لقد اضطروا، دفاعاً عن لونهم ووجودهم، بالمفاخرة بأبرهة الحبشي، مع علمهم بما هو موقف أسيادهم مِن تراث هذا الرَّجل وما فعله إزاء الكعبة. إلا أنهم لم ينسوا ملك ملوكهم النَّجاشي، وما كرّمه به التراث الإسلامي الديني والتَّاريخي. إنه تراث يتراوح بين ملوك وعبيد، وما بينهما مِن حوادث كان السُّود جزءا منها.