تأملات في منطق الشر
قدم ديفيد هيوم موضوعات تحت اسم أسئلة أبيقور القديمة وطرح مجموعة أسئلة منها، هل يريد “الله” أن يمنع الشر، لكنه لا يستطيع؟ لو صح ذلك فلن يكون كليّ القدرة، أم أنه يستطيع لكنه لا يريد؟ لو صح ذلك فلن يكون كليّ الخيرية. أم أنه قادر ويريد في آن واحد؟ فمن أين إذن يجيء الشر؟
ويتساءل سامح عودة في مقال بعنوان “إذا كان الإله يحكم الكون فلماذا لا يقضي علي الشر؟”، هذا ما يجيب عنه الباحث سامي عامري في كتابه “مشكلة الشر ووجود الله”، إذ يُرجع الأمر إلى ما هو أعمق من الشر نفسه، فيرى أن الرؤية التي تشكلت في الفكر الغربي في أعقاب الثورة الفرنسية كان لها أبلغ الأثر في صياغة ذلك الإنكار، وهو ما يؤكّده الفيلسوف الكندي تشارلز تيلور، الذي يرى أن إحساس الإنسان بالترتيب الإلهي على خلفية هذا الفكر قد بُهت، وأن الإحساس بقدرتنا على تنسيق النظام الكوني بأنفسنا قد بدأ يبرز، ما أفضى في النهاية إلى الرغبة في عالم بلا مكابدة، وإذا تحدثنا عن الشر الإنساني لا بد أن نبدأ بالطفل ونتساءل هل توجد نزعات للشر لدى الأطفال؟ وهل هي نتاج البيئة أم أنها منحوتة في الحبل الجيني للبشر؟
الأطفال بين غريزة الخير والشر
أجري عالم النفس المشهور بول بلوم (Paul Bloom) تجارب علي الأطفال كان الهدف منها معرفة الأساس الأخلاقي لدى الأطفال في سن مبكر، وهل يولد الطفل بأسس أخلاقية أم أنها تكتسب من البيئة المحيطة له، وكانت من ضمن التجارب “تجربة الأشكال” وهي تتلخص في أن هناك ثلاثة أشكال هندسية “دائرة ومثلث ومربع” والتجربة أن الدائرة تحاول الصعود على منحدر ويساعدها في ذلك المربع ويعيق صعودها علي الجانب الآخر المثلث، ويأتي دور الاختيار فأيّ من الأشكال سوف يختار الطفل منهم المثلث أم المربع وكانت النتائج أن الأطفال في سن ثلاثة شهور 80 بالمئة منهم اختاروا المربع الشكل الذي يقوم بالمساعدة، والأطفال في سن الستة شهور 100 بالمئة منهم اختاروا المربع أيضا وهذا يجعلنا نصل إلي نتيجة مفادها أن الأطفال يولدون خيرين وأن العمليات المعرفية في أدمغتهم تدعو إلي الخير والمساعدة.
وفي تجربة أخري لبيان مدى عدالة الطفل وجد الباحثون أن معظم الأطفال في سن 10 شهور عند توزيع خمس قطع من الشوكولاتة عليهم فإن الطفل يأخذ قطعتين ويعطي قرينه اثنين ويستغني عن القطعة الخامسة، ونستنتج من ذلك عدالة الأطفال.
وفي تجربة أخري تبين للأطفال في هذه التجربة أن هناك دمية تساعد في صعود الدائرة علي سبيل المثال ودمية لا تساعد من خلال خلق مواقف لذلك وكان الأطفال دائما يختارون الدمية التي تساعد ولكن عند وضع شوكولاتة “مفضلة” مع الدمية التي لا تساعد وشوكولاتة “غير مفضلة لدى الطفل” مع الدمية التي تساعد كان الأطفال يختارون الدمية التي لا تساعد تحيزا للشوكولاتة المفضلة ووصل الأمر إلي تعدي الأطفال على الدمية التي تساعد لكن معها شوكولاتة غير مفضله لديهم عن طريق إلقائها على الأرض، ويتبين من هذا أن احتمالية تغير الاتجاه واردة إذا كانت هناك منفعة فمن الممكن أن نرتكب بعض الأخطاء نتيجة المنفعة.
معضلة القطار
إذا كان أمامك عربة قطار مندفعة بسرعة على سكة حديد، ويوجد في طريقها خمسة أشخاص محتجزين على السكة ولا يستطيعون الفرار، ومن حسن الطالع أنه بإمكانك الضغط على زر يقوم بتحويل خط سير العربة عند تفريعة للسكة يبعدها عن الاصطدام بأولئك الأشخاص الخمسة، ولكن لذلك ثمن فهناك شخص آخر محتجز في الجانب الثاني من التفريعة، وسوف تقضى العربة عليه بدلا منهم. فهل تضغط الزر؟
اقترح الفيلسوف تومسون تعديل المشكلة السابقة على غرار ما سبق، تندفع عربة قطار فُقدت السيطرة عليها بسرعة نحو خمسة أشخاص، ولكنك تقف الآن خلف شخص غريب ضخم الجثة على جسر للمشاة فوق السكة، والطريقة الوحيدة لإنقاذ الأشخاص الخمسة هي أن ترمى ذلك الشخص من أعلى الجسر، طبعا سوف يكون مصيره الموت الأكيد، غير أن ضخامة جسمه سوف توقف العربة منقذة حياة الخمسة، هل تقوم بدفعه؟
هنا نحن أمام معضلة حقيقية فمع أن النتيجة واحدة من حيث عدد الذين سوف يفقدون حياتهم، متماثلة في الحالتين (واحد بدلا من خمسة)، إلا أن الدخول في هذه اللعبة يجعلنا أكثر حذرا وتوترا إلى حد ما، فلمَ ذلك؟ الحالة الأولى من الممكن أن تنطوي على ما نسميه معضلة أخلاقية غير شخصية وهى التعاطف البارد أي استدلال منطقي وتفكير عقلاني، أما الحالة الثانية فهي معضلة أخلاقية شخصية وهى دائرة تعاطف حار، وعلى غرار معظم الناس العاديين يحل المعتلون نفسيا -هم أشخاص يعانوا من اضطراب عقلي مزمن وسلوك اجتماعي عنيف- معظم الحالة الأولى سريعا، وخلافا للناس العاديين، حيث يزداد التعقيد والإثارة فإنهم يحلون الحالة الثانية سريعا أيضا. فالمعتلون نفسيا، ودون أن يرف لهم جفن، سوف يكونون في منتهى السعادة وهم يقذفون بالرجل الضخم من أعلى الجسر (نقلا عن العلوم)، مع تظاهرهم بالأسى والألم حيال ذلك وهنا تظهر سمات الشخصية السيكوباتية، لكن يفرض هذا الموقف علينا سؤال مفاده هل هذه الحالة تنطوي علي المعتلين نفسياً فقط أم أن هناك أُناساً أسوياء غير معتلين نفسياً يقوموا بهذا؟
في عام 1973 قام دكتور فيليب زيمباردو (وهو أستاذ محاضر في جامعة ستانفورد) بتجربة سميت بتجربة سجن ستانفورد. كان زيمباردو مهتما بمعرفة ما إذا كانت الوحشية التي يتعامل بها الحراس مع السجناء داخل السجون ناتجة عن اضطرابات نفسية أم أن الشر متجذّر في الإنسان وممارسته تحقق له متعة ونشوة نفسية. قرر زيمباردو دراسة الأدوار التي يلعبها الناس في حالات السجن، ولتجهيز مكان مناسب للتجربة قام بتحويل القبو الموجود في مبنى علم النفس بجامعة ستانفورد إلى سجن صوري، ووضع إعلانا طلبا لمتطوعين للمشاركة في دراسة الآثار النفسية لحياة السجن، تقدم أكثر من 70 شخصا للاشتراك في التجربة وقاموا بمقابلات تشخيصية واختبارات شخصية لاستبعاد المرشحين الذين يعانون من مشاكل نفسية أو إعاقات طبية أو تاريخ من الجريمة أو تعاطي المخدرات، في النهاية تم اختيار 25 طالبا جامعيا للاشتراك في التجربة نظير 15 دولارا في اليوم الواحد للمشاركة في التجربة.
تم توزيع الأدوار على الطلبة بشكل عشوائي، بين سجناء وحراس، و بدأت التجربة بعشرة سجناء وأحد عشر حارسا، تم تقسيم الحراس إلى مجموعات، كل مجموعة تتكون من 3 حراس و يتناوبون العمل كل ثماني ساعات، كما تم وضع السجناء في غرف الحجز مقسمين كل ثلاثة في غرفة، وتم تخصيص غرف كسجن انفرادي في حال أساء أحد السجناء التصرف.
حاول زيمباردو أن يحاكي بيئة السجن الطبيعية قدر المستطاع. تم التعامل مع السجناء كمجرمين حقيقيين، فقد تم ضبطهم والقبض عليهم في منازلهم ودون سابق إنذار، وأخذهم إلى قسم الشرطة وتصويرهم وأخذ بصماتهم وأخذهم معصوبي الأعين إلى السجن، مع أبواب و شبابيك تحميها قضبان حديدية، وجدران صماء وزنازين صغيرة.
كانت الثياب عبارة عن سترة تم تطريز أرقامهم عليها، مع غطاء صغير للرأس (كاب)، أما الحراس، فكانوا يلبسون جميعا زيا موحدا من اللون الكاكي، يحملون صافرة حول عنقهم، وعصا غليظة تم استعارتها من الشرطة، وكانوا يلبسون نظارات شمسية خاصة لمنع التواصل البصري بينهم وبين السجناء، وقد صدرت تعليمات للحراس بفعل ما يرونه ضروريا للحفاظ على القانون والنظام داخل السجن، مع مراعاة احترام السجناء، وعدم السماح بأيّ تجاوزات أو عنف جسدي.
وجاءت النتائج في غضون ساعات من بدء التجربة، بدأ بعض الحراس بمضايقة السجناء، ففي تمام الساعة 2:30 صباحا قاموا بإيقاظ السجناء من النوم بإطلاق الصافرات مرة واحدة تتبعها عدة مرات، تم استخدام عدد الصافرات كنداء لأرقام المساجين، وقد اعتبرت وسيلة تنظيمية للحراس لممارسة السيطرة على السجناء. تعرض السجناء للإهانة باستخدام الشتائم والأوامر المكروهة، ومنحهم مهام مملة لا طائل منها، وقد تمت معاملتهم بشكل غير إنساني بشكل عام. وتم استخدام تمرين الضغط كعقاب بدني للسجناء، وقام أحد الحراس بالمشي فوق ظهر السجناء أثناء قيامهم بالتمرين، وفي مرة أخرى أمر بعض المساجين بالجلوس على ظهر زملائهم أثناء التمرين تغليظا للعقاب.
مرّ اليوم الأول هادئا دون أحداث، ولكن فوجئ الحراس بالتمرد الذي اندلع في صباح اليوم الثاني، حيث خلع السجناء الكاب الذي يغطّي رؤوسهم وقاموا بنزع أرقامهم، وحصنوا أنفسهم داخل الزنازين بوضع الأسرة خلف الأبواب، قام الحراس باستخدام طفايات الحريق التي تطلق ثاني أكسيد الكربون والذي يثلج الجلد، وأجبروا السجناء على الابتعاد عن الأبواب، بعد ذلك اقتحم الحراس الزنازين، وجردوا السجناء من ملابسهم وأخرجوا الأسرّة. تم وضع قادة التمرد في السجون الانفرادية، وبدأ الحراس في مضايقة وترهيب السجناء الآخرين. كان زيمباردو قد خطط أن تستمر التجربة لمدة أسبوعين، ولكن في اليوم السادس تم إنهاؤها بسبب الانتهاكات التي تعرض لها السجناء من قبل الحراس.
والملاحظ في هذه التجربة أن كلا من الحراس والسجناء أُناس عاديون غير مضطربين نفسياً ولم يتعرضوا إلى اضطهاد من قبل وعلي الرغم من هذا كان الشر واضحاً في سلوكيات الحراس تجاه المساجين وظهرت إبداعات الحراس في أساليب تعذيب المساجين وهذا يدل على نزعات الإنسان للشر.
الإنسان إشكالية غير قابلة للمعرفة والتفسير
في مقال عن صورة الإنسان والإله عند دوستويفسكي يخبرنا دوستوفيسكي عبر رواية “مذكرات من القبو”، والتي تصف العوالم الداخلية لإنسان لا يجد لنفسه موطئ قدم في كنف المجتمع الحديث، ما يدفعه إلى صب جام غضبه وحقده -انطلاقاً من مسكنه المعتم الواقع في قبو أرضي- على الطبيعة والبشرية والمدنية الحديثة، يسائل دوستويفسكي الفلسفات الوضعية والبراغماتية المادية التي اختزلت الوجود الإنساني ببعده المادي النفعي وحسب!
“هل يمكن لشيء أن يكون معاصرا أكثر من هذا النقد للعقلانية؟ في وسع المرء تخيل ما كان سيقوله دوستويفسكي عن علم النفس وعلم الاجتماع، والاستبيانات من أيّ نوع” هكذا تساءل الناقد الأميركي دافيد دنبي تعقيباً على رؤية رجل القبو هذه. مكمن الخطأ في مثل هذه الأساليب “العلمية” أنها تقوم بالتعامل مع الإنسان كغرض ما، كشيء مادي خاضع لقوانين سببية ضرورية قابلة للمعرفة؛ ومن ثم بالإمكان التنبؤ بسلوكه، ولكن وعلى العكس من ذلك فقد أخذ رجل القبو يخبرنا أن الإنسان إشكالية غير قابلة للمعرفة والتفسير.
المتنبئون بالسلوك البشري -كما يقول الرجل في القبو- يفترضون بشكل عام “أننا نتصرف وفقاً لما تمليه مصالحنا العليا” ولكن هل يفعل الإنسان هذا الأمر حقا؟ يجيب دوستويفسكي من خلال شخوص رواياته بـ”لا” كبيرة، إن كلا من الأمير ميشكين المندفع نحو قيم الخير والجمال، والمتبرم من كل علاقة نفعية في رواية الأبله، والطالب الجامعي الهادئ راسكولينكوف والذي يرتكب جريمة قتل لدوافع نفسية مبهمة ومركبة، ولا تحوي أيّ دوافع مادية تذكر، والمقامر الذي يبدد كامل ثروته في طاولات القمار، وليس أخيراً صاحبنا رجل القبو الذي لا يفتأ يهين نفسه والآخرين، وينقم على نفسه والبشرية، كل هؤلاء هم شهود دوستويفسكي بأن الإنسان في سلوكياته وأفعاله أبعد ما يكون عن المحددات والمؤثرات النفعية والعقلانية.
لقد ظن راسكولينكوف -بعد أن توهم أنه قد تحرر من الأخلاق “المسيحية البالية” إلى حد يشعر فيه بحريته في قتل امرأة عجوز مرابية- أنه أحد أولئك “الاستثنائيين” الذين بإمكانهم تجاوز “الحدود” والتضحية بما يرونه ضرورياً في سبيل تحقيق نفع البشرية، فوفقا لراسكولينكوف فإن جميع الشخصيات الاستثنائية والمشرعة في تاريخ البشرية من “صولون” وحتى “نابليون”، إنما حققوا أفكارهم فقط عندما “تخطوا الحاجز” واستطاعوا إزهاق الأرواح التي وقفت عثرة في طريقهم دون أن يستدعي هذا منهم حتى مجرد رفة رمش واحدة!
هذا يذكرني بمقال بعنوان إعادة النظر في فكرة تفاهة الشر حيث يعرض لنا أشيل وانبرغ قصة الجندي الألماني “أدولف آيخمان” من خلال كتاب حنا أرندت حيث كان أولف آيخمان مسؤولاً عن الجانب التجهيزي لنفي وإبعاد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1960 ألقي القبض عليه وعُرض للمحاكمة في عام 1962 وحضرت حنا أرندت المحاكمة بوصفها مراسلة مجلة نيويورك تايم، وخلال المحاكمة، لم يكف آيخمان عن التأكيد بأنه كان “ينفذ الأوامر”. إن شهادة هذا الرجل التي تبدو ظاهرها عادية جداً، ولا تتستر وراء الكراهية أو الأيديولوجية تخفي سلوكاً عنيفاً تجاه الأفراد حيث كان يقوم أدولف بتعذيب غير مبرر للأسري دون أوامر صريحة أو مباشرة له تجعلنا نسأل لماذا يفعل هذا؟ وعلي الجانب الآخر إذا كان الهدف هو تنفيذ الأوامر فإن عالم النفس الأميركي ستانلي ميلقرن أجرى تجربة لبيان أن ما بينته حنا أرندت من خلال محاكمة آيخمان تكفي طاعة السلطة لتحويل شخص عادي إلى جلاد. وعلى هذا الأساس وظف ميلقرن أشخاصاً اقتنعوا بأنهم سيشاركون في تجربة علمية. طلب منهم أن يستعملوا صدمات كهربائية على أفراد مقيدين إلى مقاعد إذا لم يجيبوا إجابة صحيحة عن الأسئلة. ومنذ البداية، تعجب من أن المتطوعين ينفذون مهامهم، ولا يترددون في زيادة قوة الصدمات الكهربائية، وهذا يعني أن التجربة تؤكد أنه يمكن اقتراف أفعال عنيفة من دون أن يكون ذلك ناتجاً عن الكراهية. يكفي أن يكون الشخص تحت أوامر، إذن، إن كل واحد منا يمكن أن يصبح جلاداً؟ لكن الملاحظ في هذه التجربة أن الأوامر التي كانت تصدر ليست ملزمة للمتطوعين وكان بإمكانهم رفض هذه الأوامر دون التعرض لأذى شخصي، ومع هذا كان أغلب المتطوعين يمتثلون إلى الأوامر بإرادة حرة وقناعة شخصية.
جاءت إعادة النظر من أعمال المؤرخين وتزايدت الدراسات حول آيخمان في السنوات الأخيرة، فقد أقدم المؤرخ البريطاني ديفيد سيزرني على إعادة كتابة سيرة آيخمان بدقة. وعلى العكس فإن الصورة التي أراد أن يعطيها لنفسه أثناء المحاكمة، أن آيخمان كان من المناهضين المرموقين للسامية، وكان واعياً تماماً بما يقوم به، وقد تقدم بمبادرات تتجاوز مجرد تطبيق أو تنفيذ الأوامر. لم تكن صورة الموظف المجهول إلا حيلة دفاعية أو طريقة دفاعية، وأن حنا أرندت قد وقعت في الفخ أو الخديعة ولعلها تسرعت في القبول بالنتائج، لأنها تسمح لها بصياغة أطروحتها القوية وحجتها المفحمة القائلة “تعيش النظم المتوحشة من سلبية الأفراد العاديين”.
إن إشكالية النفس البشرية وتجاوزات الشر تقع ما بين أُناس معتلين نفسياً أخطرهم السيكوباتيين وهم أُناس لديهم نزعات نحو الشر وإذا تعمقنا في الشخصيات السيكوباتية نجد أن أخطرهم السيكوباتى الأخلاقي وهو شخص يتخذ من الأخلاق سلاحاً لخداع البشر، حيث يُظهر لهم خلاف ما يبطن، ولذلك فهو أكثر خطورة على المجتمع وعادة ما يصل إلى مناصب قيادية، لقدرته على الخداع، حيث يظهر بصورة الملاك الطاهر الطيب الذي يحنو على الأطفال، ويقيم الصلاة، ويعمل الخير مع حب السلطة والقيادة، ولا مانع من التضحية بكل أصدقائه، أو مبادئه، ومازال السؤال يفرض نفسه هل النفس البشرية تميل إلى الشر وأنه جزء منها؟
تعرض رفيدة طه لتجسيد دوستويفسكي لبعث النفس الإنسانية من مواتها كما يقول “ألبيريس” ولكن ليس بالفضيلة؛ بل بالخطيئة، واكتشاف النقص والألم الكامن فيها، إنه يعادي كل ما يبدو مثاليًا وكاملًا، ويعرّي في شخصياته الدوافع الخفية حتى للحظات التعاطف الإنساني مع الضعفاء. قد تبدو لحظات كهذه خيرًا مطلقًا؛ لكنه يكشف تحتها طبقات من التعقيد، مثل الفضول للتعامل مع أشكال الحياة الأخرى، أو المتعة السادية في مشاهدة معاناة بشر معذبين، أو الرغبة في الإحساس بالقوة أو بالتعالي الأخلاقي.
حاول دوستويفسكي في أعماله اكتشاف قدرة البشر على تبرير الخطيئة والتلاعب والخديعة؛ سواء خداع النفس أو الآخرين، في شتى أشكال العلاقات البشرية. في “الزوج الأبدي” يتطرق دوستويفسكي لقدرة المرأة على التلاعب بزوجها. في “حلم رجل مضحك” يحاول أن يسبر أغوار رجل يقنع نفسه بأن الحياة لا معنى لها، وأن العالم مجرد من كل غاية نبيلة؛ ليرى كيف تؤثر هذه الفكرة على نزعات الشر الكامنة فيه.
إن إنسان دوستويفسكي يتقدم دائمًا نحو تناقضات أكثر، إنه مشتت، عاجز وعنيف؛ تمتزج هشاشته بالعنف والانفعال، وطهارته بالوقاحة، وجموحه بالندم والخوف، راسكولينكوف القاتل الملطخ بالدماء، يقابل بوليشكا الفتاة الصغيرة التي تشكره بمحبة، فيطلب منها مرتبكًا أن تصلي من أجله؛ ثم بعد ثانية ينفجر ضاحكًا، ويصيح بحماس: كفى؛ فالحياة هناك تنتظر خلف هذا السراب والفزع؛ هكذا تبحث روايات دوستويفسكي للمرة الأولى في ما وراء الحياة الحقيقية؛ دون أن يعني هذا أنها تتجه إلى مثاليات الحب والتسامي والفضيلة. ونعود لشرور النفس حيث نقل طبيب نفسي إحساس قاتل محترفاً للبشر حيث أبدى هذا القاتل أن أول تجربة له للقتل شعر بعدها أنه ارتكب إثماً شديداً وانتابه شعور بالندم الشديد، ومع مرور الزمن وتكرار القتل تبدل هذا الإحساس تدريجياً حتى شعر هذا الشخص بأنه يمتلك قدرة تفوق قدرة البشر العاديين وأنه أفضل وأقوى منهم بكثير وتحول الشعور إلى شعور بالتلذذ والقوة المفرطة دون إشباع، كما أثبت بحث فسيولوجى على كيمياء المخ أن كثرة ممارسة العنف والقتل تعمل على تغيير كيمياء المخ الداخلية بشكل ملحوظ لدى الأناس العاديين فيتبدل سلوكهم تدريجياً ويشعرون أنهم يملكون قدرة تفوق قدرة البشر.
وبالرجوع إلى دوستويفسكي نجده يحاول تحميل الإنسان بكل ما ليس تعبيرًا اعتياديًا عنه؛ مثل العنف والقتل والجريمة؛ بهذا يصقل شخصياته، ويحاول اكتشاف أقصى احتمالات الشر الكامن فيها. “إن شخصياته ممسوسة دائمًا بعجز أو فزع” كما يشرح كتاب “الاتجاهات الأدبية الحديثة” من غير أن تهتدي لمعنى لحياتها، ولا معاناتها، ولا وجودها غير المكتمل. ورواياته مثل “الإخوة كارامازوف” و”الجريمة والعقاب”، تحاول تعرية المأساة خلف اختيارات الإنسان وحركاته وأقواله، تلك التي لا يدرك لها تفسيرًا؛ لكنه لا يجد نفسه إلا مدفوعًا دفعًا نحوها؛ يرتكب “راسكولينكوف” جريمة حمقاء لا طائل من ورائها، ويغرق “إيفان كارامازوف” في قلقه وهذيانه ومخاوفه؛ دون أن تفلح الحوارات الطويلة في شرح ألمه.
إن هذا ما سينتهي إليه الوجود الإنساني متى ما قرر الإنسان أن يعلن “موت الإله” -كما فعل نيتشه- وأن يحل هو مكانه، في وسع المرء أن يتخيل أي طغيان سيصل إليه الإنسان في حال قرر المضي قدما -وحتى النهاية- في الركون إلى “إنسانيته” وجعلها معياراً وحكماً نهائياً لتدبير شؤونه في هذا الوجود!
وعلى خلفية عصر التنويري للفكر الغربي، نُحِت وجه الحياة في الغرب بعدمية نيتشه، ولا معنى سارتر، وجبرية كامو، وآلَ الأمر في النهاية إلى تآكل الغاية من الوجود، فدفعت تلك المادية الحياة في الاتجاه نفسه، ليغيب عن التصورات أيّ معنى (ديني/غيبي) من وراء دنيانا، ومن ثم “أضحى الشر والألم والمعاناة مظهرًا من مظاهر عبثية الوجود”. الأمر الذي اشتدت الحساسية تجاهه بسبب التحديث المستمر، وتولُّد الفردانية وتفكك البنى المجتمعية، ففقد الشر قيمته “كمبرر لإظهار تلاحم الجماعة وبروز معاني الأخوة والتكافل والرحمة”، واستُبدِل النظام الإلهي بمركزية الإنسان الساعي إلى صياغة عالم جديد لا يحتوي على الألم.