أدب الخلاص الجمعي
الصراع سمة إنسانية، ولها تجليات شتى، على مدار التاريخ، والتاريخ الحربي للإنسان هو الأقدر على كشف الحقائق وفضح النقائض، وبه تنجلي ملامح وأهداف الأمم وصراع الشعوب، والسعي لحياة أفضل. ولكن ألا يبدو غريباً تغافل جل مدوني التاريخ القديم عن رصد رؤى الشعوب وأمانيها واكتفائهم بتمجيد الملوك والقياصرة والأباطرة!
إن عمر الحرب يكاد يناهز عمر الإنسان على الأرض، منذ قابيل وهابيل وحتى الحرب العالمية الثانية، وما استتبعها من حروب إقليمية تكاد تغطّي سطح الكرة الأرضية. وربما نضيف الآن الحرب ضد الإرهاب، ولا يبدو زوال أسباب الحروب أو الصراع بكل أشكاله في المستقبل.
إن الفنون التي ابتدعها الإنسان من جانبه، ما كانت لولا الحاجة اليومية لبث روح المقاومة من أجل الخلاص الجمعي في صراعه مع القوى الأخرى التي تهدده. ما كانت النار، الأعاصير، الحيوانات المفترسة، الفيضانات، إلا دافعا للخلاص الجمعي بالعبادات والطقوس العقائدية القديمة، فعرفت التمائم والقرابين.. وعرف الفن بكل أشكاله.
منذ تلك الأيام البعيدة حرص الإنسان على تسجيل انفعالاته وأفكاره على جدران الكهوف، والتراث الشفهي للشعوب أصدق من سجل تلك الوقفات الهامة في التاريخ الحربي للشعوب. ولولا الحاجة الفطرية أو غير المباشرة التي يستشعرها الإنسان في حياته ما بقيت على مدار الأيام.
وكان القلم والإبداع أصدق وأكثر تعبيرا عن رؤى الشعوب وأحلامها قبل وأثناء الحروب وبعدها.. بالتالي لنا أن ندّعي أن التاريخ (تاريخ الشعوب) لم يسجل، لولا كم غير قليل من الإبداعات الشعرية والنثرية، على مدار التاريخ الحربي للإنسان، لبقيت فكرة الخلاص الفردي رائجة ووحيدة في ذهنية الشعوب والقادة معا! فبعد أن حرص الحكام قديما على تاريخهم الشخصي وحفروا على جدران المعابد، ونقشوا أسماءهم على كل ما أمكنهم أن يسجلوا عليه من فخار وجلود وغيرها، تزكية لقدرتهم على النصر المبين. بينما رصد التاريخ الحربي نمطا من الإبداع المعبّر عن طموحات العامة من الناس، ومناصرة الجندي المحارب، ثم بالاحتفال الصادق على الانجاز والنصر، وحتى في حالات الهزيمة تبقى القرائح والأقلام ملهمة للجميع من أجل الخلاص.
قديما كانت تلك الحكايات التي مازجت ما بين الطبيعة تحت سطوة الهندي الأحمر وسلطانه. كما كانت الطقوس الحربية مثيرة وشائقة إلى حدّ الطرافة. الطريف أن بقيت طقوس الحرب وإلى اليوم ببعض البلدان أو الأمم ذات دلالة خاصة، ومنها “اليابان”، حيث كان الطيارون الموكول إليهم العمليات الانتحارية في الحرب العالمية الثانية، يرتدون الملابس اليابانية البيضاء وفى مناخ طقسي خاص يتسلمون “المرمدة” -ذاك الصندوق الأسود الصغير المخصص لحفظ رماد جثث الموتى بعد حرقها- ثم يبدأون رحلة التدريب على العمليات الخاصة! وهو ما يعنى أن تلك الثقافات الحربية جزء لا ينفصل عن وجدان الأفراد والشعوب.. ولم تتخل عن تراثها الحربي.
كل الشواهد تشير إلى خصوصية التجربة الحربية في الأفراد والشعوب. فالسلوك الإنساني نابع عن توتر ما، به يسعى المرء للإقلال من التوتر لإحداث درجات من التكيف النفسي (هذا التوتر إما خارجي أو داخلي).. والتجربة الحربية في هذا الإطار جد معقدة، فهي منبه غير تقليدي، لا هي أحادية ولا هي بسيطة، ومع ذلك لا تكتسب دلالتها إلا بوجود دوافع داخلية، مثل دوافع القيم العامة للمجتمعات، ودوافع الانضباط والخضوع لأوامر الجماعة (من أجل الخلاص الجمعي).
عادة درجة استجابة المرء، إما مباشرة أو غير مباشرة لحدوث اللذة أو الألم، فتكون جملة الانفعالات التي يعانيها المرء، هي التي ستحدّد اتجاهاته وسلوكه. وقد يلجأ إلى “الخيال”، تلك القوة السحرية الساحرة القادرة على إنجاز الفن أو الأدب بأشكاله المختلفة (الحرب: الفكرة-التجربة-الإبداع/ السيد نجم- هيئة الكتاب المصرية-1995م).
ما سبق لا يعنى أن أدب الحرب في جوهره وسيلة للخلاص الفردي، ولكن يعنى قدرة “الصفوة” من الناس الذين خاضوا تجربة الصراع، وقد امتلكوا الخيال والقدرة على التعبير، يحفظون لنا تلك التجربة بكل طزاجتها وخصوصيتها، بحيث تصبح دوما نبراسا للعامة والخاصة وقت الشدائد.
فاحتمال تجدّد التجربة قائم ومستمر، ببقاء الإنسان على الأرض، واستمرار الصراع، وعلى مستويات مختلفة، قد تصل إلى حدّ اشتعال الكرة الأرضية كلها. وهو ما عاشته البشرية لمرتين خلال خمسين سنة فقط من القرن الماضي.. هنا يأتي “الأدب المعبر عن التجربة الحربية” في النهاية للتعبير عن هول التجربة ذاتها: ويكفى القول بأن النفس البشرية جبلت على حب الحياة، بينما يخوض الأفراد التجربة الحربية مدفوعا بأمر الجماعة (المجتمع) وبناء على رغبتهم، بل ويباركون موته. فالتجربة الحربية ليست ذاتية بالكامل، وتحمل بين طياتها التناقض، فالمقاتل يسعى لإثبات الوجود وتحقيق الأهداف السامية، بينما الواقع المعيش، حيث يعبّر عن الخلاص الجماعي.. فالصراع باق.. والأفراد الموهوبون لتسجيل التجربة (المبدعون) فرصتنا كي تقف مؤشرات الزمن عند تلك اللحظات أو الأزمنة الخاصة لتصبح عونا لنا مستقبلا. فضلا عن أهمية تلك الأعمال في تغطية الجانب النفسي والتربوي الضروري للأجيال الجديدة، حتى تصمد أمام تحدياتها الآتية يوما ما.
وعلى النقيض.. قد يصبح بنى البشر يوما ما قادرين على كبح جماح غوائل أنفسهم، ويصبح للصراع شكلا بديلا عن “الحروب”. إن “أدب التجربة الحربية” الحقيقي هو أدب إنساني، يرفع من قيمته وشأنه، ويزكّى القيم العليا في النفوس.. إنه أدب الدفاع عن الحياة، والمتأمل قد يجد أن أجود الأعمال الحربية (الإبداعية) هي التي دافعت عن الحياة، ولم تزكي القتل والعدوان.
كما أن الحرية شرط أولى للإبداع، ويعد الإبداع شرطا لكي تصبح أفعالنا ذات طابع حر.. فالتاريخ يجسد أفعال الإنسانية في سعيها نحو التحقق، وإن بدت الحرية السياسية أكثر أشكال الحرية شيوعا. وهو ما يبرر الصراع من أجل الحرية في الغرب في مواجهة الكنيسة والسلطة خلال القرون الأربعة السابقة.
ارتبط معنى الحرية بالسعي إلى امتلاك القوة، والقوة الجديدة هي “العلم” للسيطرة على الطبيعة. وبهذا المعنى تكون الحرية اجتماعية وأيضا ليست فردية، وهو ما يبرر ارتباط الحرية بالضرورة، والتحرك في حدود الممكن، أي في حدود القدرة الذاتية على العمل وفقا لمقتضيات العقل.
الحرية إذن معرفة وسيطرة، وعلى الإنسان القيام بعملية إبداعية مستمرة، هي عملية التحرر، ولن يبلغ الإنسان مرحلة الوعي والحرية، إلا إذا عمل على إضفاء الطابع الإنساني على الطبيعة، وذلك بالسيطرة عليها.
الحرية متداخلة مع الإبداع ، وتناول الإبداع منفردا لا ينفصل عن الحرية. وإن بدا اصطلاحيا أقرب إلى علم الجمال الذي يناقش الخبرة الجمالية، أي تحليل موقف الإنسان من العمل الفني.
وهناك يقينا جملة من القوالب أو المنظومات تعطي لعالم الفن بنيته مستخدمة الأسطورة واللغة والعلم والفن كأدوات لبناء معرفي عام. والخروج عليها يعني تمردا نظرا لتراكمها الزمني والبعد الاجتماعي الهام لثبات الواقع.
لذا حدّد البعض درجة شدة القمع أو البعد عن الحرية الإبداعية بدرجة القرب أو البعد عما هو سائد في المجتمع، وعلى الفنان أو الكاتب المبدع أن ينتبه إلى هذا البعد الهام ﻹنتاج العمل المتفاعل والمنتج مع القارئ العادي قبل المتخصص وهو الغالبية من المستقبلين للفنون المختلفة مع ذلك فالسؤال الواجب مراعاة الإجابة عليه.. هل يمكن مواجهة تغييب الهوية؟
المعرفة هي سلاح المواجهة الأول، وجوهر الأشياء والمقصود هو التساؤل حول القوى التي تمتلك المعرفة. قال نيتشه أن إرادة المعرفة هي إرادة القوة، وأن المعرفة قوة وتسلط.. هي التي تكشف لنا كيف أصبحت “اللغة” مثلا قوة مسيطرة على المبدع. والتأويل شكل ﻹرادة القوة، وحتى لا يترك المبدع القوى العامة في الواقع هي التي تقوم بالتأويل.. يقوم عنها من خلال عمله الفني/الأدبي، ويضيف قوة جديدة للمتلقي، حتى يمتلك المبدع دوره الريادي في التنبيه إلى ما هو سلبي والإشادة بما هو إيجابي وتعزيزه.
ربما لا يتأتى ذلك إلا بوعي المبدع أن السلطة ليست هي قمة الهرم الاجتماعي، وأنها جوهر صور الحياة الواقعية واليومية.. أو صور الحياة (اليومية).. والتي هي بؤرة الصراع، وهو يجعل القول باختزال السلطة إلى (يمين ويسار) هو اختزال مبتور للسلطة الحقيقية الفاعلة في الفرد والجماعة.
وهو ما يبرر أن علم الجمال المعاصر لم يعد يبحث في قضايا الفن، بشكل مجرد ومنعزل عن المواد التي تجسد هذه الفنون، بل أخذ يدرس العلاقة بين آليات بناء العمل الأدبي وآليات المجتمع الاقتصادية في التبادل، وأنماط الرواية ، ونظرية البطل ، ودورها في استخدام اللغة، وبذلك تخلى العلم عن التناول المجرد للقضايا في الفن والإبداع.
اتجه علم الجمال المعاصر بدراسة الخبرة الجمالية عند المتلقي والمبدع ، والتقائهما معا.. فتجربة القارئ/الناقد تعد إضافة إلى العمل الفني وتمثل تماما إضافة الكاتب/المبدع صاحب العمل.. حيث يقوم كلاهما بتحليل العمل وإعادة تركيبه حينا بعد حين حتى نهاية التجربة. عموما اختلف علماء الجمال حول تحديد طبيعة الخبرة الجمالية وعلاقتها بالحياة اليومية.. وانتهى الأمر على اعتبار الناقد الفني متذوقا.
تداخلت الأدوار إذن.. والحرية هي وإن كانت هدفا فهي الوسيلة التي يتمكن بها الجميع من أداء دوره.. المبدع، المتلقي، الناقد (الإبداع والحرية- د.رمضان البسطويسي- هيئة قصور الثقافة 2007م).
لكل ما سبق فإن أدب الخلاص الجمعي هو الأدب القائم على الحرية، تلك التي تنتج المعرفة التي ترعى اليومي ومعطيات الحياة اليومية، ومراعاة الجماعة.