النقد السينمائي هل هو وسيط بين السينما والجمهور
الناقد في هذه الحالة لا يقوم فقط بتفكيك العمل بشكل آلي مثل الميكانيكي أو الحرفي الذي يعرف أصول الصنعة، بل كمفكر، ومبدع، وأحيانا أيضا كشاعر، يمكنه، بذائقته الشعرية والجمالية، وخبرته التشكيلية البصرية، أن يعبر عن استقباله للعمل كفكر ومفردات ولغة وأدوات وأداء وإيقاع.
إنه “الحب” الذي يمكن أن يحوّل الإنسان إلى شاعر يتغزل بحبيبته، وعندما تكون الحبيبة عملا فنيا (لوحة أو قصيدة أو فيلما أو رواية أو مسرحية) يمكن أن تتحول الكتابة عنه إلى عمل بلاغي رفيع دون أن يفتقد بالضرورة إلى التحليل الرصين ولمس الإشارات الظاهرة والكامنة بين ثنايا العمل نفسه.
لا يقوم الناقد أو الكاتب هنا أساسا، بشرح معنى الفيلم ومغزاه بل يقدم رؤيته له من خلال ثقافته الخاصة وباستخدام الكلمات، أي اللغة المكتوبة التي لها هي الأخرى سحرها ورونقها وجمالياتها، سواء الجماليات الغرافيكية أو البصرية المباشرة التي ترتبط بها العين عندما تقع عليها، أو جماليات تكوين الجمل والعبارات والتحكم الدقيق في الفقرات، ومعرفة تقسيمها، وتقسيم المقال أو القطعة النقدية إلى أجزاء ترتبط مع بعضها البعض، ويكون لها أيضا مدخل وذروة ونهاية طبيعية تنتهي إليها، وتترك أثرها على ذهن القارئ.
أسلوب التعبير بطبيعة الحال، يختلف من كاتب إلى آخر، ولا شك أن كُتّاب الأدب عندما كتبوا عن الأفلام ساهموا في إثراء النقد السينمائي من الناحية اللغوية، وجعلوه نوعا رصينا من الأدب، ومنهم يتعلم كل من يريد أن يصبح ناقدا الكتابة الصحيحة، ويبتعد عن لغة الصحافة التقريرية الجافة السائدة التي تكتفي عادة بإعطاء القارئ بعض المعلومات (عادة تكون مترجمة إذا كان الفيلم أجنبيا، وإن كان هذا لا يقلل من أهميتها في السياق بأي حال شرط أن تكون في السياق دائما) ثم يتجه إلى تلخيص الموضوع واستنباط الدلالات المباشرة منه سواء الاجتماعية أم النفسية أم السياسية.
ولا شك أيضا أن الكتابة عن أفلام لا يحبها الناقد قد تبدو مختلفة في نظر القارئ الذي يتوقع دائما، إما أن يتماهى الكاتب مع الفيلم ويتبناه بالكامل، أو يرفضه بكلمات واضحة ويدينه ثم ينصرف لحال سبيله!
لكن الكتابة بالسالب عن الأفلام ليست دائما على هذا النحو، بل ولا يجب أن تكون كذلك، فمن الممكن أيضا أن يصبح المقال النقدي السلبي عن فيلم ما، قطعة أدبية رفيعة المستوى، سواء من ناحية التعبير أو التحليل، ويمكن جدا أيضا أن يكون لها وقع جميل يطرب له القارئ المدرّب الواعي.
ولعل المحك في كلتا الحالتين يعود إلى العمل السينمائي نفسه، فهناك من الأفلام التي قد يرفضها الكاتب لكنه يجد نفسه مرغما على التعامل معها بأسلوب جاد، وبلغة تحليلية، يعيد تفكيكها وتركبيها لكي يقدم أيضا للقارئ “رؤيته” الخاصة لها، ثم لا مفر في النهاية من الحكم عليها في إطار ما ينتج في زمننا هذا من أفلام، فالسينما بطبيعة الحال تجاوزت القرن من عمرها، ولم تعد اختراعا بدائيا يحبو، وبالتالي لم يعد هناك مفر من اعتبار الأفلام التي تظهر حديثا في الشرق أو في الغرب، تستند إلى تراث عمره بعمر تاريخ السينما، وليس مجرد مولود جديد جاء من الفراغ.
أما من الناحية الأخرى، العملية تماما، فلعل الكتابة عن فيلم يكون الكاتب قد أحبه وأصبح يتبناه كعمل فني (وليس كسلعة يروج لها مقابل ثمن معلوم كما يفعل البعض) يجعل الكاتب أكثر قربا من السينمائي، يكتسب ثقته ويمكنه بعد ذلك أن يقيم معه جسرا مشتركا للتفكير، وربما يساهم بشكل ما، في لعب دور في تطويره وتطوير أعماله المستقبلية.
لكن الأمر ليس دائما على هذا النحو من البساطة مهما بلغ حسن النوايا، فماذا يفعل الناقد أمام فيلم لمخرج يحترمه، وسبق له أن أحب أعماله وأثنى عليها، عندما يجد أن فيلمه الأحدث لم يرق إلى المستوى المأمول، لسبب أو لآخر، وماذا يفعل إذا كان أمام عمل أقل كثيرا في رونقه وسحره عن أعمال سابقة للمخرج نفسه؟
من فيلم "ّالمومياء" للمخرج الراحل شادي عبدالسلام
هل يعمل الناقد بالمبدأ القائل إن الحسنة تمحو السيئة؟ وهل نحن في معرض إبداء أحكام أخلاقية على عمل فني؟ فهل يتغاضى الناقد عن قناعاته لكي لا يفقد ثقة السينمائي، ويتجاهل بالتالي التطرق إلى سلبيات الفيلم ويمتنع عن الحكم عليه كما يتعين عليه أن يفعل، حتى لا يفقد “علاقته” الشخصية المباشرة مع المخرج وقدرته على التأثير عليه كما يرى البعض؟
في تصوري الشخصي، وهي نقطة خلافية لا شك في ذلك، أن الناقد في هذه الحالة يكون قد تخلى عن الركن الأساسي المهم في العملية النقدية بأسرها أي الجمهور- القراء، فالكاتب لا يكتب أساسا للسينمائي أو للمخرج أو للممثل، بل إن وظيفته الأساسية أن يتوجه إلى الجمهور، يدعوه إلى أن يشترك معه في “رؤيته” عن الفيلم، دون أن يكون في هذا أي نوع من الوصاية، بل هي رؤية يمكن بالطبع أن يختلف معها كل من يرغب من الجمهور المشاهد للعمل نفسه أو من النقاد، وهو ما يحدث في الكثير من الحالات في الواقع دون أن يعد هذا مدعاة للاستغراب بأي حال.
الناقد إذن بهذا المعنى لا يلعب دور الوسيط، كما كان يرى كثيرون، فعمل الوسيط يبدو محايدا إلى حد كبير، فالوسيط يتوسط بين شيئين لهما نفس الثقل والقوة والوزن والاعتبار.. فهل التوجه يكون للاثنين معا أي للسينمائي والجمهور على نفس القدر؟
لا أظن أننا نكتب أساسا للسينمائيين، بدليل أننا نكتب أيضا عن أفلام من الشرق ومن الغرب دون أن ننتظر أو حتى نأمل بالطبع في أن يقرأنا من نكتب عن أفلامهم في الشرق وفي الغرب!
من الممكن بالطبع أن يستفيد صانع الفيلم إذا أراد، من النقد ومن الكتابة عن الأفلام، إذا كان من النوع الذي يقرأ النقد أصلا ويهتم بما يكتب عنه بشكل حقيقي ولا يهتم فقط بالمديح ونشر الأخبار والصور الملونة والتحقيقات الفارغة.
غير أن التوجه الأساسي يجب أن يكون للقارئ، وإلا تحولت الكتابة عن السينما إلى ملاحظات فنية “معملية” الطابع يمكن أن تتجه إلى تفاصيل كثيرة معقدة تتعلق بالآليات المعقدة لصنع الأفلام: أنواع العدسات والمرشحات ونوع الكرين أو الرافعة المستخدمة، والأجهزة التي استخدمت في صنع المؤثرات الخاصة ومدى دقتها.. إلخ.
ولا يعني ما أقوله هنا إن على الناقد ألا يهتم بكل هذه العناصر والأشياء، لكن ما أقصده أنه عندما يكتب فإنه يستخدم معرفته وعلمه هذا في تحليل العناصر الفنية للفيلم من حيث هو بناء ورؤية وطريقة في السرد والخيال ومنهج وأسلوب في الإخراج، لا أن ينشغل في مناقشة مدى نجاح جهاز توليد الضباب من عدمه، أو ارتفاع الرافعة التي تحمل الكاميرا أي الكرين، ومسافة عواكس الضوء عن البؤرة التي يدور فيها التصوير!
من الممكن أن يحاضر الناقد للجمهور العام المتذوق في السينما كما يفهمها وعمّا يحبّه منها، وما لا يحبّه، ومن الممكن أيضا أن يحاضر وسط مجموعة من أساتذة السينما الدارسين ومجموعة من السينمائيين المحترفين، ولكن لكل مقام مقال كما يقولون.
إن مهمة الناقد الأساسية كما أراها، تتوجه أساسا إلى الجمهور.. جمهور السينما والفنون الأخرى، وجمهور القراء من المشاهدين ومن غير المشاهدين، وعليه أن يؤمن برؤيته ويخلص لها ويصوغها صياغة لغوية جذابة بعيدة عن التقعر وعن اللغة التقريرية الجافة أو التصنع اللغوي الفارغ والقوالب النمطية المعتادة، أو اللجوء إلى المهجور من الألفاظ في اللغة العربية، حتى لا ينفّر القارئ ويجعله يهرب من أول جملة، ولا يهم بعد ذلك مدى نجاح الناقد في توصيل رؤيته إلى ذلك الجمهور. المهم أن يفهمها ويستوعبها من يقرؤها، ثم يمكنه بعد ذلك أن يتفق أو يختلف معها، هذا شأنه. فالكتابة النقدية عملية “فردية” أي تعبر عن رؤية صاحبها، وليست كتابة “تعميمية” أي يقصد من ورائها تعميم مبادئ حزب، أو الترويج لنظام سياسي، أو نسق جمالي معين.
وهناك الكثير من الأفلام التي قد يعتبرها عدد من ألمع النقاد أفلاما عظيمة وقطعا فنية بارزة، في حين لا يعيرها الجمهور العام اهتماما كبيرا دون أن يعني هذا أن النقاد لا يفهمون وأن “الجمهور دائما على حق”.. فالرؤية غير الرؤية، والزاوية غير الزاوية، والاهتمامات قد تختلف أيضا بين النقاد وشرائح من الجمهور، وبين النقاد وبعضهم البعض أيضا، بل وتختلف الاحتياجات، أي احتياجك أنت كمشاهد- متلق- ناقد- هاو- مهتم، من الفيلم: ما تريده منه وما تتطلع إليه وما يعجبك فيه، هذه الأشياء تختلف وتتباين تباينا كثيرا، خاصة إذا كان الفيلم الموضوع على محك الاختبار، يقفز على الذهنية السائدة ويتجاوزها كثيرا، أو يسبق الذائقة السينمائية المهيمنة على الجمهور في وقت محدد.
ولعل أبرز مثال على ذلك هو فيلم “المومياء” لشادي عبدالسلام، الذي يوجد إجماع على براعته وتميزه بل وتفرده في تاريخ السينما في بلده، بينما رفضه الجمهور العام الذي شاهده في زمنه، ولم يجعله يستمر أكثر من أيام معدودة في دار العرض التي عرض بها عام 1975.
أود أن أختم هذه الملاحظات بالتأكيد على أن العبرة في نهاية الأمر، سواء أحب الكاتب الفيلم أم لم يحبه، تتمثل في الصدق مع النفس، أي في التعبير الصادق عما يشعر به الكاتب دون التأثر بما يراه أو يكتبه الآخرون، ودون أن يترك الكاتب نفسه لأي مؤثرات خارجية أي من خارج العمل الفني نفسه، تتحكم في رؤيته أو تشوبها بأي حال. والصدق وحده كفيل بوصول “الرؤية” النقدية إلى القارئ- المتلقي في النهاية، سواء كانت سلبية أم إيجابية.