تأنيث فضاء الكتابة
لم تكن المرأة الكاتبة ضيفا مرحّبا به في صالون الأدب الخاص بالرجال عندما حاولت أن تتمرد على سلطة النسق الثقافي الذكوري الذي كان يحدد لها أدوارها الاجتماعية القليدية ويمنعها من مغادرة الهامش الذي وضعت فيه زمنا طويلا، وكأن الإبداع والأدب حرفة خاصة بالرجال. لذلك كان عليها في مغامرة البحث عن ذاتها خارج جدران هذه العزلة الكتيمة والصمت التي كانت تعيش بينها أن تتسلل متخفية وراء أقنعة الرجال إلى هذا الفضاء، ما جعل حضورها الأدبي يتساوى مع غيابها وهي توقّع به ما تكتبه وتنشره بأسماء رجال. وبقدر ما يدل هذا السلوك على حالة الخوف والقلق التي كانت تعيشها الكاتبة آنذاك، فإنها تكشف عن سطوة السلطة الأبوية المهيمنة على عالم الأدب والثقافة، وما تعكسه من نظرة دونية إلى المرأة الكاتبة التي كانت تحاول استعادة علاقتها الجمالية والروحية مع اللغة والأدب والجمال.
في هذه المغامرة المسكونة بالخوف كتبت المرأة لأول مرة، لكنها كانت الضمير الغائب فيها. استعادت علاقتها مع اللغة والكتابة، لكنها لم تستعد وجودها فيها خوفا من رهاب النسق الأبوي للثقافة الذي كان يحتكر صفة الإبداع والخيال.
إنّ هذا الخوف المتراكم من سخرية الكتّاب الرجال ونظرتهم الدونية إلى ما تكتبه هو الذي جعل الرعيل الأول من الكاتبات يتخفّى وراء أسماء رجال مثل جورج إليوت وتشارلوت برونتي ولويزا ماي ألكوت وإيميلي برونتي وفاني فيرن وفاني فورستر ما يدل على حالة الاغتراب والخوف الذي كانت تعيش فيها، وهي تدخل مملكة الأدب بوجوه مزيفة وأسماء مستعارة، في حين لجأت كاتبات أخريات إلى هذه الإشكالية عبر مزج أسمائهن مع أسماء مذكرة أمثال مز سكيل ومز كريك ومز أوليفانت. لقد شكل هذا السلوك مظهرا آخر من مظاهر الخوف التي تخفي وراءها روحا أنثوية مغتربة، تواجه إكراهات المجتمع الأبوي بسياسات تدل على المأزق الذاتي والوجودي الذي كانت تواجهه لاختراق فضاء الأدب الذي جرى تذكيره بالكامل.
إن هذا الأدب الذي ساد أغلب مراحل القرن التاسع عشر ظل يخفي في داخله على الرغم من هذا الخضوع روح التمرد والصراع، كما ظهر في نموذج شخصية المرأة المجنونة في تلك الأعمال التي كتبتها النساء للتعبير عن الرغبة في الانتقام من واقعها المفروض عليها.
إن رواية غرفة تخصّ المرء وحده لفرجينيا وولف تكشف من خلال بطلتها جوديت عن التمييز الذي كانت تعاني منه المرأة على مستوى التعليم والفرص المتاحة لها، إضافة إلى كراهية الرجال وافتقاد المرأة إلى الإرث الأنثوي، الذي تستند إليه في تأثيث حياتها الروحية والجمالية.
إن هذا الشعور بالتمييز والاغتراب كان لا بدّ أن يخلق حالة من القلق والجنون عند المرأة الكاتبة. لقد تجلّى ذلك واضحا في شخصيات النساء في الأعمال الروائية التي صدرت في القرن التاسع عشر، حيث تحولت ثيمة الجنون والمرض إلى علامة دالة على الوضع الذي كانت تعيشه المرأة آنذاك. ولم تكن تجربة الكاتبة النسوية فرجينيا وولف في حياتها سوى تجسيد واضح لهذا الواقع المأساوي، الذي انتهى بها إلى الانتحار، في ظل سيطرة ثقافة كانت تضطهد المرأة، وتحرمها من جميع الشروط الموضوعية التي تحتاجها الكاتبة، كما تجسد ذلك بصورة جلية في روايتها “غرفة تخصّ المرء وحده”، حيث كانت الكاتبة محرومة من المكان الخاص بها الذي تحتاجه للكتابة .
لقد أسهم تنامي الوعي السياسي عند النسويات في تطور نضال الحركة النسوية وتوسعه، وقد تجلّى ذلك في ظهور نزعة الاحتجاج عند الكاتبات النسويات وزيادة مطالبهن الداعية إلى المساواة وتكافؤ الفرص والتعبير عن الذات الأنثوية الفاعلة. وتعتبر المرحلة الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين والتي تسمّيها الناقدة النسوية إيلين شووالتر بالمرحلة النسوية، هي الموجة الثانية في تطور الكتابة النسوية، والتي كانت تعبّر عن الصراع والخوف في مواجهة سلطة الثقافة للمجتمع الأبوي. إن مقارنة بين الأدب الذي كتبته الكاتبات في مطلع القرن التاسع عشر والأدب الذي كتبته في النصف الثاني من نفس القرن تظهر مدى التحول الذي كان يطرأ على وعي المرأة النسوية الكاتبة على المستوى الذاتي الوجودي والجمالي.
إن هذه المرحلة التي بدأت بتقليد نماذج الأدب الكلاسيكي الشائع سرعان ما أخذت تتراجع ليحلّ محلّه أدب يعنى بأوضاع المرأة ويعبر عن معاناتهن، ويعد الأدب الذي كتبته فرجينيا وولف تمثيلا حقيقيا لهذا التحوّل، الذي كان يطرأ على وعي الكاتبة النسوية، إذ انتقلت من بداياتها الأولى مع الرواية الكلاسيكية المكرسة، إلى مرحلة جديدة في الكتابة تمثلت في رواية تيار الوعي والرواية التعبيرية، باعتبارهما الأكثر تمثيلا للذات الأنثوية، وما يدور في دواخلها من صراع وحوارات ومشاعر مضطربة وهواجس نابعة من ظروفها الاجتماعية والتاريخية التي تحاول التحرر من آثارها النفسية والشخصية.
لكن هذا الحضور اللافت الذي استطاعت المرأة الكاتبة أن تحققه في الحياة الأدبية لم يجعل النقد الأدبي الذي كان يهيمن عليه الرجال يلتفت إلى هذا الأدب، ويمنحه التقدير الذي يستحقه، ما جعل المهمة الأولى للنقد النسوي عند ظهوره في بداية ستينات القرن الماضي هي إعادة الاعتبار لهذا التراث من خلال إعادة تقديمه إلى القارئ على نحو مغاير من خلال إعادة طبعه ونشره في سلاسل أنيقة لاقت نجاحا لافتا كان بمثابة إعادة اعتبار لقيمته الأدبية. وتولت المرأة الكاتبة والناشرة هذه المهمة من أمثال كاترين كريجان والناقدة النسوية إيلين مويزر، في حين بدأت الناقدات النسويات بإعادة قراءة هذا التراث والكشف عن المراحل التي مر بها الوعي الأنثوي عند هؤلاء الكاتبات على مستوى اختياراتهن وتوجهاتهن في الكتابة، بدءا من المرحلة الأولى التي تميزت بالتقليد لأشكال الكتابة السائدة مرورا بالاعتراض على هذه الأشكال والمعايير الأدبية الخاصة بها، وحتى المرحلة التي بدأت منذ مطلع الستينات من القرن الماضي، وتركز فيها عمل الكاتبة على اكتشاف الهوية الذاتية للأنثى من خلال التوجه نحو الداخل بحثا عن هذه الهوية الخاصة.
لقد كان للتحول الذي قادته وولف على مستوى الكتابة والمطالب النسوية أثره في تعزيز حركة النضال النسوي، كما كان للتأثير المتبادل بين الحركة النسوية والنساء الكاتبات اللواتي كنّ جزءا مهمّا منها الدور الأكبر في ظهور النقد النسوي الذي أخذ على عاتقه مهمة رد الاعتبار للترات الأدبي النسوي والدعوة إلى تأسيس شكل جديد من الكتابة الأنثوية، يأخذ في اعتباره المرأة كذات وموضوع. كذلك ركّز هذا النقد في دراسته على السياق المرجعي لهذه الكتابة لغويا وتاريخيا وسياسيا وثقافيا. وعلى غرار التطور الذي شهدته الأعمال الأدبية النسوية تنامت حركة هذا النقد بصورة كبيرة في مرحلة ما بعد البنيوية سواء على مستوى التنوع في اتجاهاته وخياراته، أو توسع حركته وتعدّدها، وكان طبيعيا أن يشهد هذا النقد جدلا واسعا بين الناقدات النسويات حول العلاقة مع الإرث المعرفي والعلمي والسياسي السائد باعتباره إرثا ذكوريا، يجب التخلص من تأثيره، نظرا لأن التداخل معها يعد اعترافا بسلطته من قبل الناقد النسوي.
لذلك كان من الطبيعي في ضوء هذا التداخل المعرفي والسياسي والنقدي أن لا يتمكن هذا النقد من بلورة منهج نقدي خاص، بسبب تعدّد تياراته وتنوعها، وكذلك بسبب الموقف من النظرية التي اعتبرتها بعض الناقدات النسويات مذكرة، وتتعارض مع اختيارات النقد النسوية ونزعته للتحرر من القوالب الخطية المطلقة في التاريخ الأدبي للرجل وفق تعبير إيلين شووالتر.
إن أثر هذا التباين في المواقف والرؤية سوف يتجسّد على المستوى المفهومي في تعدد المصطلحات التي نحتتها النسويات للدالة على هوية هذه الكتابة الخاصة، كما ظهر ذلك في مصطلحات النسوي والأنثوي والمؤنث. لكن الكتابة النسوية بوصفها توجها فكريا ومعرفيا يتم التعبير عنه نصيا، بقيت تقدم نفسها من خلال الكتابة التي تركز على وضع المرأة في النص كذات وموضوع وتسعى إلى إقامة علاقة جمالية مع الواقع، والتعبير عن الذات الأنثوية كحضور فاعل، إلى جنب مقاومتها للإكراهات التي تمارسها عليها السلطة الأبوية.
لكن هذا النقد سوف يوسع في دائرة اشتغالاته عندما انتقل من مرحلة التركيز على وضع المرأة ككاتبة، إلى دراسة وضع المرأة القارئة كمستهلكة للنص، في حين سعى هذا النقد إلى اكتشاف المشترك النصي بين أعمال الكاتبات النسويات على مستوى اللغة والخطاب والخيال والبلاغة. إن أهمية هذه الممارسات النقدية على اختلاف توجّهاتها ومناهجها تجلّت في ما خلصت إليه من نتائج تجمع بين هذه النصوص النسوية على مستوى اللغة والأسلوب والخيال والموضوعات والمجاز باعتباره المشترك الذي يحدد يمنح هذا الأدب هويتها النسوية، دون أن تنسى إبراز أثر السياقات الثقافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية فيها، وقدرتها على تمثل أشكال الحياة الفردية والجماعية للمرأة، ومظاهر حضور بنى السلطة الذكورية فيها.
إن هذا التفاعل النسوي على مستوى الكتابة والنقد ساهم في تطوير أشكال الخبرة الأنثوية في الكتابة، وفي تعميق هذه التجارب النسوية وتطويرها. وإذا كانت مرحلة ما بعد البنيوية قد ساهمت في خلق تعددية وتنوع كبير في خيارات واتجاهات النقد النسوي فإن بداية القرن الحادي والعشرين قد شهدت أيضا حضورا قويا للكتابة النسوية، وتركيزا أكبر في التعبير عن هوية الذات الأنثوية وطبائعها، ومواصلة تأمل عالمها الخاص من الداخل، إلى جانب البحث عن أشكال التعبير عنها نصيا كجزء من سياسة الاختلاف والبحث عن اللغة تأخذ في اعتبارها تمثيل المرأة تمثيلا كاملا دون أن يدّعي هذا النقد أن هذه الأنظمة في القراءة والدرس، قد بلغت مرحلة الاكتمال البنيوي والحسم، كما تعبر عن ذلك آنيت كولودني في واقع النقد النسوي الراهن.