مقاييس النسوية الغربية ووضعية النساء العربيات
بينما تناضل النساء البيض من أجل الخروج من المطبخ، تناضل النساء السود من أجل الدخول إليه، تتقاطع هذه المقولة، المنسوبة للناقدة النسوية جاكي هافينس مع سؤال ملحّ يتردد في أذهان العديد من المنشغلين بالدرس النسوي، في دول العالم الثالث خاصة، عن مدى مشروعية تبني مقاييس النسوية الغربية ومواءمتها للسياقات الثقافية والاجتماعية لقضايا المرأة المنتمية إلى ثقافات العالم المختلفة خارج الغرب، حيث تختلف تجارب النساء الغربيات عن تجارب النساء العرب أو تجارب النساء السود، على سبيل المثال، وإن اجتمعت جميعها حول مشاعر مشتركة من القهر ورغبة مصيرية في المساواة.
من هذا الطرح تطل علينا مساهمات بعض الناشطات النسويات اللائي اعترضن على شرعية التمثيل النسوي الغربي الذي حوّل المقاييس الغربية إلى نموذج معياري تُقاس وفقا له جميع التجارب النسوية بكافة أشكالها، ومن أبرز هؤلاء الناقدة النسوية الفلسطينية/الأميركية ليلى أبو لغد (1952) أستاذة الأنثروبولوجيا ودراسات النوع الاجتماعي التي تنتقد المنهج الاستعماري وتنميطه للمرأة العربية في صورة الضحية، ضحية الرجل أو الأعراف أو الدين، التي تحتاج إلى إنقاذ، وذلك بهدف ضمان الهيمنة الغربية على حقول المعرفة وإعطاء مبرر كافٍ للسيطرة الاستعمارية على دول العالم العربي والإسلامي، وبالتالي ضمان تبعية تلك الدول -سياسيا وثقافيا- للمركزية الأوروبية.
تدافع أبو لغد في خطابها النسوي عن الخصوصية الحضارية للنساء العربيات وترفض إخضاعهن إلى الافتراضات النسوية النابعة من المركزية الغربية، بوصفها نموذجا معياريا صالحا لكل البلدان، وتنفي حاجتهن إلى تدخل خارجي بذريعة التحرير أو التحديث، وتؤكد في مقالها “رومانسية المقاومة”، الصادر بالإنكليزية في 1990، قدرتهن على مقاومة ما يتعرضن له من قهر بالسبل التي تتلاءم مع مجتمعاتهن المحلية وتتماشى مع موقعهن داخله ضمن مجموعة السياقات التاريخية والاجتماعية والأيديولوجية الحاكمة.
وتنتقد الكاتبة في مقدمتها لكتاب “الحركة النسائية والتطور في الشرق الأوسط” دعوات الحداثة الغربية وخطابها الموجه للمرأة العربية في القرن التاسع عشر، وتشكك في أفكاره التي تتباين ما بين تقديم حلول تحررية تتوافق مع قيم الغرب من جهة، وبين إعطاء تبرير استعماري يدعم طموحات أوروبا في الاستيلاء على الشرق من جهة أخرى.
وفي ضوء هذه الانتقادات، تدعو أبو لغد إلى ضرورة إعادة النظر في الخطابات النسوية الغربية على خلفية ثنائية الغرب/الشرق أو المستعمِر/المستعمَر، وكشف لغة الاستعمار المروجة لتأخر المرأة العربية وربط عدم تحررها بعادات بلدان الشرق وتقاليده، وهو ما تراه جزءا من خطاب استعماري متعالٍ لا يتعلق بمسألة النساء، إنما يتمحور حول أشكال التحكم الأوروبي، الثقافي والسياسي، في الشرق الأوسط.
وتؤكد في مقدمتها على أن تحسين وضعية النساء العربيات يرتبط بالنهوض الفعلي لأوطانهن وإعادة صياغة أدوار النساء -كأمهات وزوجات وعاملات ومواطنات- بالشكل الذي يتناغم مع ذواتهن ومجتمعاتهن وثقافتهن المحلية، بعيدا عن مشروعات الحداثة الغربية وخطابها الاستعماري.
وتزعم الكاتبة أن الخطابات النسوية في حاجة ماسة إلى إدراك الاختلافات الكثيرة بين نساء العالم وربط أوضاعهن بتحولات تاريخية مختلفة وظروف اجتماعية متباينة، ومن ثم تقديم خطاب بديل لا يقوم على التعميمات الثقافية التي يطرحها خطاب النسوية الغربية والتي قد تكون مقيدة -لا محررة- لنساء الشرق الأوسط، إنما يؤسس على قيمة الثقافات المحلية التي قد تستوعب أو لا تستوعب أطوار التقدم الغربي.
وفي مقالها الشهير “هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟”، الصادر بالإنكليزية عام 2002، تشير أبو لغد إلى خطورة توظيف السياسات الاستعمارية لقضية المرأة من أجل تبرير تدخلها الاستعماري، وترصد تركيز الغرب على المرأة المسلمة ومسألة الحجاب- كرمز للقمع- بدلا من التركيز على ما تعانيه من فقر أو مرض أو حرمان من التعليم وفرص العمل، وذلك في إطار التكريس لصورة نمطية تساوي بين الكفاح الغربي/الأميركي المزعوم ضد الإرهاب وكفاح الغرب لتحرير المرأة المسلمة المعزولة داخل حجابها كما استقر في الذهنية الأوروبية عموما. وهو ما جعل المفكرات النسويات في البلدان العربية ينشغلن بإبعاد اتهامات الغرب وبالدفاع عن صورتهن، فانصرف انتباههن عن تشكيل اتجاه نسوي تحرري يُبرز إخفاقات مجتمعاتهن وأنظمته السياسية والثقافية في تقديم حلول أو مقترحات للقضايا المركزية الخاصة بالمرأة.
وتتجلى جهود الناقدة النسوية ليلى أبو لغد وخصوصية طرحها النسوي في محاولات فهم وضعية المرأة العربية -المسلمة خاصة- وعدم فصل مسألة “التحجب” عن غيرها من الأشكال المختلفة للتغطية التي ارتبطت بالانتماء إلى طبقات محددة أو بالمشاركة في نمط اجتماعي معين بعيدا عن المعتقد الديني. وبالتالي، فإن جعل الحجاب علامة على القمع أو فقدان السيطرة على الذات يمثل، كما ترى، جزءا من مشروع استعماري يحاول خلق حالة خيالية من “الاختلاف” تقوم على تفسيرات سياسية لا تضع حقوق النساء ضمن أولوياتها كما تعلن.
ولهذا، ترى ضرورة أن يتبنى الدرس النسوى مشاكل “الاختلاف” وأن يتعامل مع “الآخرين” الذين ينتمون إلى ثقافات مغايرة هي جزء أصيل من تاريخهم وحلقة عضوية في العالم المترابط، وحينها فقط سيتم تجاوز خطاب الإنقاذ الأوروبي والتخلي عن التصور الغربي عن الحجاب وحصره في رمزية انتهاك حرية المرأة العربية المسلمة أو عن الشرق الأوسط كمكان للعنف ضد النساء، ليتم التركيز على القضايا المهمة التي ينبغي على الحركات النسوية الاهتمام بها، كي تتمكن النساء من التمتع بحقوقهن الإنسانية الأساسية كمواطنات مشاركات في قضايا الوطن، دون النظر إلى أبعاد عرقية أو عنصرية أو إمبريالية.
في هذا السياق، يتشابة الطرح النسوى لدى الناقدة مع رؤية المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي ترى منهجه الفكري -كما طرحت في مقالها الاستشراق والدراسات النسوية في الشرق الأوسط- واحدا من أهم المناهج التي أثرت بشكل مدهش في دراسات الجندر والجنسانية في خطاب الشرق، فرغم أن “الاستشراق” (1978) لم يكن القصد منه أن يكون حقلا من حقول الدرس النسوي ونظرياته، فإنه قد أفضى -كما ترى- إلى تزويد الدراسات الجندرية والنقاشات النسوية في الشرق الأوسط بقضايا تتعلق بأنماط التمثيل الأوروبي الاستعماري للشرق وخطابه الاستشراقي، ذي النزعة الإنقاذية، عن النساء الشرقيات “المقهورات” و”المضطهدات” من قبل الدين والعادات والنظام الأبوي.
وتقر ليلى أبو لغد، في النهاية، أن تحليل سياسات الشرق والغرب من شأنه أن يسهم بطبيعة الحال في نقاش قضايا النساء، وأن يفتح الأفق لاكتشاف روايات الهيمنة الثقافية الاستعمارية مقابل الروايات المقاومة لها، مما يسمح بإعادة النظر في وسائل تمثيلات الشرق عموما والتصوير النمطي للنساء العربيات المسلمات والشرق أوسطيات خصوصا، بشرط ألا يظل الخطاب النسوي -بهذه الصورة- مجرد حقل معرفي في سياق تحليل الخطاب الكولونيالي، إنما يتجاوزه إلى التحليل الاجتماعي/الجندري الذي يدرس الخصوصية الثقافية للمرأة في الشرق الأوسط ويستكشف الكيفية التي تقوم بها النساء في تلك البلدان بتمثيل أنفسهن وإيصال أصواتهن المقاومة لأشكال الإخضاع القائمة على البنى الأبوية المحلية والفروقات الجنسية الذكر/الأنثى.
*اعتمدت الدراسة على عدد من كتابات الناقدة ليلى أبو لغد الصادرة بالعربية وبالإنكليزية:
– ظروف ما بعد الكولونيالية والتطلعات النسوية، ت: سمية رمضان، ضمن: الحركة النسائية والتطور في الشرق الأوسط، ت: نخبة من المترجمين، المشروع القومي للترجمة (120)، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999، (صـ 3: صـ 31).
– الاستشراق والدراسات النسوية في الشرق الأوسط، ت: علاء الدين أبو زينة، الروزنة، مجلة نسوية فكرية عربية تصدر عن اتحاد المرأة الأردنية، العدد السادس والسابع، شتاء 2010- 2011، (ص 15: ص: 26).
-هل تحتاج المرأة المسلمة إلى إنقاذ؟ تأملات إناسيّة في النسبية الثقافية وحواشيها، ت: جهاد الحاج سالم، المجلة العربية للدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة، العدد الأول، مارس 2015، (ص 187: ص 202).