صوت الشاعرة وزهور الهندباء
ليس أبرع من نوري الشاعر شاعرا إلا الشاعر محاورا. ذاك ما وقرت به إليّ نفسي وأنا أقرأ حوار “الجديد” مع الشاعرة الكورية كيم سنغ هي، المنشور في عددها السابع والخمسين. فقد انطلق الحوار في مبتدئ أمره انطلاقة صحفية معهودة في كل الحوارات وقوامها صحفي، وإن يكن شاعرا، يحاور شاعرة يسعى إلى تعريف القارئ العربي بها بوصفها علما فكريا وثقافيا في بلدها، لكنّ هذا الحوار “التقليدي” سرعان ما أخذ يتكشف عن نص هو أكثر من حوار وأكثر من استجواب صحفي. وسرعان ما بان للقارئ المنتبه أن غاية الحوار تجاوز السعي إلى تعريف القارئ العربي بهذا الصوت الشعري القادم من أقاصي العالم.
إنّ مسار أسئلة الحوار ومضامين أجوبته وأبوابه المعدة بإتقان وخلفية فكرية لا لبس فيها، تكشف كلها أنّ الحوار قد فارق طبيعته الاستجوابية المباشرة وارتقى إلى أن يكون ضربا من الكتابة المشتركة بين المحاوِر والمحاوَرة، وفرت فيها أسئلة المحاور للشاعرة الكورية مساحة للتأمل في الذات والشعر والأدب والعالم فظهرت كاتبة لنبذ من سيرتها الذاتية حينا، وناقدة مؤرخة للشعر الكوري حينا آخر، ومفكرة أحيانا كثيرة، وفي المقابل ظهر المحاور مسكونا بهواجس ذاتية وجماعية تتجاوز كثيرا الرغبة في اغتنام فرصة زيارة عائلية إلى كوريا لإجراء حوار مع شاعرة ترجمت لها قصائد إلى العربية، فرأيناه يسعى إلى معرفة درجة حضور الأدب العربي عند الآخر، ويفتح داخل الحوار كوة للتضامن الإنساني مع مأساة وطنه، سوريا.
وعلى هذا النحو صار الحوار ضربا من المرايا المتجاورة تتقاطع فيها صورة الأنا والآخر وتصير معرفة الآخر مرقاة إلى معرفة الذات. ولعل مما يلفت النظر في الحوار ويؤكد ما قلناه، كثرة المواطن التي تحدثت فيها الشاعرة الكورية كيم سنغ هي عن حتمية التواصل بين الثقافات والتآخي بين البشر.
زهرة الهندباء
لذلك لم يكن من الغريب أيضا أن يبتدئ الحوار بالحديث عن الترجمة، ترجمة محمود عبدالغفار لمختارات شعرية من أعمال كيم سنغ هي وتأثير ذلك فيها. ولكنّ حديثها يمكن أن يكون تعريفا لترجمة الشعر عامة وكل أدب، فقد أحسنت في إجابتها اختيار صورة بذور زهرة الهندباء وهي تطير في الهواء، استعارةً لسفر النصوص على أمواج أثير الكتابة من لغة إلى لغة ومن حضارة إلى أخرى ومن أرواح إلى أرواح تشبهها وتتمايز عنها في الوقت نفسه “في ذلك اليوم الذي جاءني فيه خبر نشر المختارات الشعرية، طرأت على ذهني صورة بذور لزهرة ‘الهندباء’ تطير مرفرفة نحو مكان مجهول، حيث قد تجد البذور قلبا تقعد وتنمو فيه، أو قد تصل إلى حقل رملي تنتهي حياتها فيه (…) عندئذ فكرت أنّ قصائدي تسافر إلى مكان مبتعدة عني، لأن ضمير المتكلم فيها ليس شاعرها -أنا- بل إنه جزء من وجوه البشر الذين يعاصرونني”. أفلا يؤكد كلام كيم سنغ هي هنا أنّ الترجمة هي التحقق بالفعل لما هو كامن بالقوة في كل نص شعري وأدبي ونعني به الرغبة اللاعجة المتمكنة بالشاعر في أن تحل ذاته في ذوات الآخرين وينصهر ضمير الأنا الذي يتعالى في نصه في ضمير المخاطب الأنت الفردي والجمعي، المعلوم والمجهول، المحدود واللا محدود؟
وقد وردت في كلام الشاعرة الكورية معلومة على غاية من الأهمية في هذا السياق تبين أنّ الشعر منذور بالضرورة للوصول إلى الآخر والتأثير فيه والتأسيس لفضاء للتلاقي الروحي، حتى وإن لم توجد ترجمة وظلت مدلولات اللغة التي كتب بها النص الشعري كهفا مغلقا ليس للشاعر إلى دخوله سبيل، لكنّ الإيقاع ونبرة الشاعر وهو يلقي نصه، وتناوب الصمت والكلام، وأرواح الحروف وهي ترفرف في المكان، ورقص الصور التي ترسمها الاستعارات… كل ذلك يتمرد على الدلالة ويعوضها في دورها التواصلي بين الباث الشاعر والمتلقي المستمع الجاهل بلغة النص. تقول كيم سنغ هي في ذلك “في شهر فبراير الماضي اشتركت في مهرجان القاهرة الأدبي، قابلت عددا من الشعراء المصريين. لقد استمتعت في هذا المهرجان بالإيقاعات الموسيقية الجميلة، واستمتعت بالفكر العميق الذي تحتوي عليه اللغة العربية عندما قرأ الشعراء قصائدهم، على الرغم من أنني لا أعرف تلك اللغة على الإطلاق”. لا يحول الجهل باللغة دون الإحساس بجمالية موسيقى الشعر ودلالتها الخاصة بها، بل إن هذا الجهل لا يحول دون إدراك ما في النص من عمق فكري، فبين الشعراء الذين لا يتكلمون لغة واحدة خيط غريب من الصداقة والود لا ينقال وإنما يفرض نفسه فرضا ويتمرد على الصمت الذي يرسّخه الحاجز اللغوي. على هذا النحو ألفينا الشاعرة الكورية تجيب محاورها الشاعر السوري عندما لاحظ كثرة الألم في شعرها بقولها وهي تقلب ديوانه “قارب إلى ليسبوس”، “ما أظن أن شعرك صادر عن ألم أقلّ. بل إنه مترع بصور الألم”.
بين ثقافتين
في مقابل ذلك تخيّم على جانب من الحوار ظلالة من الكآبة وسمت حديث الشاعرة عن انعدام حبال الوصل بين الأدب العربي والأدب الكوري، وضعف معرفة الكوريين بالأدب العربي رغم وجود أقسام للغة العربية في الجامعات الكورية، فكيم سنغ هي نفسها لا تعرف من الأدب العربي إلا ” النبي” لجبران و” الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية” لإدوارد سعيد وقصائد لأدونيس. ولا شك في أن اللغة العربية لم يكن لها فضل كبير في تعريف الكوريين بالأدب العربي، فكتاب جبران وكتابا إدوارد سعيد مكتوبة أصلا بالإنكليزية وصاحباها يعدان مؤلفين غربيين أكثر منهما كاتبين عربيين، أما قصائد أدونيس فقد وصلت ولا شك بفضل الترجمة.
هذا الجهل الكوري بالأدب العربي لم يمنع نوري الجراح من أن يعود في آخر الحوار ناشدا من جديد الوقوف على أوجه تشابه ما بين الشعرين العربي والكوري، فوجد قرائن لهذا التشابه في إقرار الشاعرة باشتراك الحياة الشعرية في كوريا والوطن العربي في اتصال الجدل بين المتشيعين للمدرستين الوجدانية والواقعية من جهة، والمنتصرين للحداثة في الشعر من جهة أخرى.
بيد أنّ أوجه شبه أخرى بين الثقافتين العربية والكورية يمكن أن يقف عليها قارئ الحوار، تحيل عليها بعض فقراته. فلا يمكن لحديث كيم سنغ هي الفاتن البديع عن البيض اليوم وقديما، في أساطير القدماء وفي أساطير حياتنا اليومية في داخل المجتمعات الرأسمالية، إلا أن يذكرنا بحضور البيضة ودلالاتها الرمزية في الشعر العربي. ويبدو أن حضور البيضة المكثف في شعر كيم سنغ هي، حتى أن المختارات الشعرية المترجمة لها إلى العربية قد حملت عنوان “الحياة في بيضة”، قد شدّ انتباه نوري الجراح وسلب لبه فخصص له سؤالين متتابعين غطيا صفحتين من الحوار، وكان مدخلا أساسيا لمعرفة عمق تمثل الشاعرة لرمز البيضة من جهة وتجذر حضور البيضة في المخيال الكوري ناهيك أن الأساطير الكورية تروي أنّ بعض ملوك كوريا قد ولدوا في بيضة. تقول الشاعرة في ذلك “يظهر البيض كثيرا في الأساطير الكورية، حيث يحمل صفة مقدسة ويرمز إلى حلم عظيم أو شيء خارق على الرغم من كونه ضعيفا وقابلا للكسر (…) أما وصف البيضة التي يولد منها ولد بأنها نزلت محاطة بالنور المقدس، فإنه يدل على أنه ليس ولدا عاديا، بل إنه ابن الشمس أو ابن إله السماء”. فلا يستطيع قارئ الحوار المطّلع على الشعر العربي القديم إلا أن يدهش من تشابه الشعرين العربي والكوري القديمين في إحلال البيضة منزلة مخصوصة واشتراكهما في بعض التأويلات الرمزية المسندة إلى البيضة. فهي عند الشاعر العربي القديم ترمز للجمال والصحة والنضارة والحماية، لذلك يكثر استدعاء بيض النعام عند التغزل بالمرأة ووصف جمالها الباهر ورفعة منزلتها الاجتماعية الدال عليها صيانتها وحمايتها من السبي. من ذلك بيت امرئ القيس الشهير: “وبيضةِ خدر لا يرام خباؤها**تمتعت من لهو بها غير معجل”.
تخيّم على جانب من الحوار ظلالة من الكآبة وسمت حديث الشاعرة عن انعدام حبال الوصل بين الأدب العربي والأدب الكوري، وضعف معرفة الكوريين بالأدب العربي
ويعود تشبيه الشاعر العربي المرأة بالبيضة لاشتراكهما أيضا في دلالة الخصب والولادة وبعث الحياة. فمن معتقدات الآشمونيين في مصر القديمة أن الظلام واللانهاية والعمق والعجز عن الرؤية قد خرجت من المحيط الأزلي واشتركت معا في صنع البيضة التي خرج منها العالم كما يفقس الفرخ البيضة ويخرج منها إلى الحياة. فالمرأة هي بيضة العالم وشمسه المشرقة. كما يرمز تشبيه المرأة بالبيضة كذلك إلى حنين الشاعر إلى الرحم الأمومي بعد أن تاه في الفلوات والوديان وحيّره طول ليل الصحراء البهيم. ولننظر في هذا الوصف الذي وصفت به كيم سنغ هي فقس الفراح بيضها “إن مشهد فقس البيض الذي تكسره الكتاكيت الذهبية للخروج منه، أريد تسميته بـ’معجزة الوجود’ المتمثلة في طلوع الشمس من الجسد، وتحتاج هذه المعجزة إلى ضرورة الاحتضان الدافئ من الدجاجة الأم”.
بيد أنّ الأهم والأجمل والأخطر في توظيف الشاعرة الكورية للبيضة في شعرها هو إبدالها الدلالات القديمة بدلالات جديدة مستمدة من زمنها ومجتمعها، ونابعة من تجربتها ورؤيتها للعالم وموقفها الشخصي من النظام الرأسمالي وقراءتها موقع الإنسان المعاصر في المجتمع البورجوازي وتدجين نمط الحياة الاستهلاكية للفرد وتحويله إلى سلعة بشرية تستهلك سلعا مادية ورمزية. تقول في ذلك “دائما أجد نفسي حزينة كلما فتحت الثلاجة ورأيت البيض في الرف الأعلى من باب الثلاجة، فيذكرني ذلك البيض البارد بوجهي ووجوه أفراد أسرتي وأصدقائي ووجه الإنسان المعاصر (…) ولكننا نقابل بيض الثلاجة في حياتنا اليومية، وأظن أنها قد ترمز إلى وجه البشر في العصر الحديث، والذي يحرَم حرارة جسد الدجاجة الأم الدافئة وحلمَ الفقس. إن إنسان العصر الحديث الذي أصبح الآن يفقد أمل الفقس، قد أصبح الآن محبوسا في الثلاجة المسماة بالحضارة أو بالرأسمالية أو بالسياسة أو بالسلطة”.
دور الشاعر المعاصر إذن أن يعيد البيضة إلى البيضة، أن يخرجها من كل الثلاجات المجمدة للحس والروح والخيال ويرجعها إلى الطبيعة حضنا للولادة ومنبعا للضوء والدفء والجمال. لذلك توافق الشاعرة الكورية محاورها بحماس ويقين عندما قال لها متسائلا “هل قدر الشعر والشعراء أن يكونا دائما في مواجهة العالم؟”، فقالت “نعم، أنا معك. هناك خلافات وصراعات بين الشاعر وبين زمنه بشكل دائم. تدفع هذه الرأسمالية المتوحشة الناس عامة إلى طريق عبادة الثروة والمادة كإله. ولكن الشاعر يبعد نفسه عن ذلك الطريق ليتخذ طريقا آخر له يحرص فيه على إبداع لغة جديدة في العزلة، أي لخلق عالم جديد بلغة جديدة”. وبذلك يغدو القول الشعري بالضرورة فعلا نضاليا مقاوما، شبهته الشاعرة بإزالة قشرة الحياة اليومية وإبعاد كل ما يغلّف حياة البشر من قهر فعلي ورمزي ومخاوف وقبح تقوم جميعها سياجا حديديا يسجن الفرد ويتحكم في حركاته القليلة المحسوبة عليه.
الجري مع الذئاب
في ضوء هذا الموقف وهذا التصور لموقع الشاعر ودوره في المجتمع الاستهلاكي، يمكن أن نفهم وصف بعض النقاد والقراء الكوريين كيم سنغ هي بـ”الكاتبة التي تجري مع الذئاب” كناية على اختلافها ومروقها من المنظومة الثقافية والفكرية المسيطرة. ويعجب المرء أيضا هنا إذ يقع على تشابه آخر بين هذا الوصف والتعالق الشهير في الشعر العربي القديم بين الشاعر الخليع أو الصعلوك أو المطرود من القبيلة وبين الذئب المنفرد عن عشيرته، المتسكع بين الوديان المهجورة والمفاوز القفراء. لكنّ تباهي كيم سنغ هي الخفي بهذا اللقب المميز، لا يخفي شوقها الكبير إلى الالتحام بالآخر والانصهار في المجموعة، وقد عبرت عن ذلك في مناسبات كثيرة مكررة رجاءها أن يلتحم ضمير المخاطِب العائد إلى الشاعر بضميري المخاطَب والغائب العائدين إلى المتلقي الإنسان في كل مكان “أعتقد أنني بتجربتي هذه أحصل على تعاطف القرّاء واهتمامهم والذين يعيشون حياتهم اليومية التي لا تختلف كثيرا عن حياتي اليومية. لذا أرجو أن يجتمع ضمير المتكلم الخائف بضميريْ المخاطَب والغائب في العالم، ويشتركان معه في الشعور بالخوف. وفي النهاية يحصل ضمير المتكلم على قوة ورؤية متفائلة يستطيع أن يتغلب بهما على الخوف. لذلك أفضل الاعتماد على أسلوب أتحدث من خلاله إلى ضمير المخاطَب”.
موقف فلسفي
وسرعان ما يتطور هذا الاختيار الأسلوبي إلى موقف فلسفي وحضاري وسياسي يغدو فيه شوق الشاعرة إلى الآخر مشروعا سياسيا إنسانيا عالميا استندت فيه كيم سنغ هي إلى الفيلسوف السلوفاكي سلافوي جيجيك لترد على شعار الرئيس الأميركي ترامب ” أمريكا أولا”، بقولها “إذا وجدنا العالم الذي يواجه البشر مليئا بالتنافس من أجل الهيمنة الكابوسية والجحيم المأسوي فعلينا أن نحول فكرتنا من ‘أنا أوّلا’ إلى ‘أنا أخيرا’،”. ذلك حلم آخر من أحلام الشعراء ينضاف إلى أحلامهم الكثيرة من أول الزمان، ولئن كانت الشاعرة لا تتوهم لحظة إمكان تحقق شعارها الطوباوي فإنها تتمسك به لأن دور الشاعر أن يكون منشقا خارجا عن المنظومة القيمية السائدة، فاتحا طريق الجموع إلى عالم آخر أجمل وأعدل. لذلك نراها لا توافق على مسلّمة موت الماركسية وانتفاء حاجة البشر إليها رغم ما حصل من تغيرات وتحولات عميقة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وضمور الفكر الماركسي وتراجع اليسار في العالم.
ولا شك في أن كل ما تضمنه الحوار من مضامين فكرية وفلسفية ونقدية يقوم دليلا على اتساع ثقافة الشاعرة الكورية وعمق اطلاعها على الاتجاهات الفكرية والفلسفية المعاصرة. وهذا ما تنبه إليه محاورها ودفعها، كشأنه في كل أطوار الحوار، إلى استقرائها إياه في نفسها والتعبير عنه بوضوح وسلاسة. فكأن تأكيد نهل الشعر من المنبع الفكري والفلسفي هو في وجه من وجوهه التداولية رسالة أراد نوري الجراح توجيهها إلى الشاعر العربي تنبيها إلى هذا الجانب الذي يشهد اليوم ضمورا غريبا في الشعر العربي. ولعل المحاور في ذلك أيضا لم يخرج عن المنهج العام الذي بنى عليه حواره، منهج التأسيس لفضاء مشترك بين المحاوِر والمحاوَر للتفكير والكتابة المشتركة سعيا إلي التواصل المثمر بين الأنا والآخر في بعديهما الفردي والجماعي.