الصادق النيهوم تشخيص شجاع لواقع مضطرب
الصادق النيهوم، اسم استوقفني منذ صدور أعداد مجلة الناقد الأولى في أواخر ثمانينات القرن الماضي. فقد كتب في المجلة المذكورة بصورة مستمرة إلى حين رحيله. وكانت مقالاته عادة مادة محفزة للنقاشات التي كانت تتفاعل من خلالها الآراء المتنوعة، ووجهات النظر المختلفة التي تمحورت حول القضية أو القضايا الإشكالية التي أثارها النيهوم في كل مقال من مقالاته، تلك المقالات التي وجدتها متقاطعة في جديتها وأسلوبها اللغوي السلس، فضلاً عن خروج مقارباتها على المألوف المكرر، مع مقالات زكي نجيب محمود التي تناولت هي الأخرى بالنقد والتحليل جوانب كثيرة من الحياة العامة في مجتمعاتنا.
وأثناء عملي الجامعي في ليبيا بين أعوام 1991 و1994، اطلعت عبر أصدقاء ليبيين بصورة أوسع على مختلف جوانب فكر النيهوم النقدي، كما أخذت فكرة عن نشاطه الموسوعي الذي تجسد في إشرافه على إصدار عدد من الموسوعات منها: بهجة المعرفة، وتاريخنا، وموسوعة الشباب، وأطلس الرحلات.
الفكرة المحورية التي تتمفصل حولها مختلف أطروحات النيهوم ووجهات نظره التي عبّر عنها من خلال كتاباته حول الواقع الذي تعيشه مجتمعاتنا والآفاق التي تنتظرها، تقوم على الربط بين نتاجنا الفكري وممارسة لعبة تقليد الآخرين، أولئك الذين أوجدوا الحلول التي توائم وضعياتهم المشخصة، وتتناسب مع طبيعة المشكلات التي واجهوها وسبل تجاوزها.
أما نحن فنسعى نتيجة ضعفنا وتحت تأثير الترجمة العشوائية وانبهارنا بما حققه الآخرون وحاجتنا إلى تقنياتهم إلى القفز من فوق وضعياتنا المشخصة، الأمر الذي يحول دون معرفة طبيعة مشكلاتنا والخطوات والإجراءات التي تستوجبها الحلول التي من شأنها مساعدتنا لتجاوز تلك لمشكلات، وفتح آفاق جديدة تتمكن مجتمعاتنا بفضلها من تجاوز أسباب ضعفها وامتلاك مقومات عملية تنموية شاملة في جميع الميادين وعلى سائر المستويات.
من بين الأولويات التي يركز عليها النيهوم ضرورة استعادة الأمة لوعيها الجماعي؛ هذا الوعي الذي تمكنت المؤسسة السياسية في العالم العربي من إلغائه عبر بعثرته بين الأفراد، وإلزامهم بأن يكون كل فرد مجرد عالم قائم بذاته. فالعرب “قد ورطوا أنفسهم في ثقافة فردية، لا تعاني من غياب المواطنين الأذكياء، بل تعاني من غياب وسيلة التفاهم بينهم في مجتمع شبه أخرس، له صفات القطيع، لا يتكلم لغة مشتركة، ولا يملك قراراً جماعياً، ولا تجمعه إرادة أصلاً سوى إرادة الراعي وعصاه” (الصادق النيهوم: الإسلام في الأسر، ص 170، 2006).
و”الأمة التي تفقد عقلها الجماعي، لا تملك فكراً، بل تملك لغة فقط، وأن هذه الظاهرة بالذات، هي الصفة المألوفة لحالة الجنون المألوف، رغم أن المريض، شخصياً، يكون – طبعاً- آخر من يعلم أن كثرة الكلام مجرد دليل على قلة معناه” (المصدر نفسه، ص 171).
وفي غياب الوعي الجماعي، يغدو الحاكم المتسلط “قائداً شعبياً” وقوانين الملك الماجن تصبح “مراسم شريفة” وعصابات القتلة، تصبح “قوات وطنية”، والحزب الطائفي يصبح “حزب الله” والمرأة السجينة تصبح “سيدة مصونا”، والفقيه الجاهل “عالماً في الدين”، والإدارة البوليسية “حكومة رشيدة”، وقطع رؤوس المواطنين “عملاً بالسنة المحمدية” (المصدر نفسه، ص 174).
والأمة “التي تخسر عقلها الجماعي، تخسر بالتالي سلاح الجماعة، وتتحلل إلى ملايين من الأفراد العزل، الذين يحلمون بالتغيير دائماً، ويطالبون به أحياناً، لكنهم لا يستطيعون أن يفرضوه، وهي محنة لا تخفيها أدوات الماكياج، ولا يخفف من عواقبها الرهيبة أن يجتمع ‘المفكرون’ في مؤتمر بعد مؤتمر، وندوة بعد ندوة، لكي يتبادلوا التهاني والنظريات الملفقة، إن خلاص الناس في اجتماع الناس أنفسهم..”.
وفي أجواء كهذه تغدو الكلمة حجراً “مهمته أن يشج رأس الخصم، أو -على الأقل- أن يدفعه إلى الفرار. فالناقد الذي يرفض حاضر العرب، اسمه ‘معول هدّام’. والذي يرفض عزل المرأة، اسمه ‘زنديق متأثر بثقافة الغرب’. والذي يرفض الحكم الوراثي، اسمه ‘عميل مأجور’. والذي يرفض سلطة رجال الدين، اسمه ‘عدو الله’. والذي يرفض شريعة القوة اسمه ‘متخاذل جبان’. والذي يرفض تزييف الواقع، اسمه ‘دجال غير واقعي’. كل كلمة لها وقع الحجر. كل كلمة تعض وتعقر” (المصدر نفسه، ص 175).
وبالتوافق مع هذا التوجه، يرى النيهوم أن النظام الديمقراطي هو إنجاز أوروبي غربي، اعتمد بعد صراعات وحروب مريرة، أسفرت في نهاية المطاف عن تمكن الطبقة البرجوازية الصاعدة من تثبيت دورها، وقيادتها للمجتمعات الغربية بعد أن نجحت في تقليص دور الإقطاع والكنيسة في الدولة والمجتمع، وقد تم ذلك بفضل عملية تراكمية بدأت منذ أوائل عصر النهضة.
والنظام الديمقراطي يقوم في جوهره على الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات، وهي كلها أدوات لضبط النظام المعني، والمحافظة عليه، وإدارة العملية السياسية بين من هم في الحكم، ومن هم في المعارضة.
أما الأحزاب في مجتمعاتنا فهي، وفق ما يذهب إليه النيهوم، مجرد واجهات سياسية لا تستند إلى أيّ قوة اقتصادية رأسمالية أو عمالية، ويمكن أن تُغلق بقرار من قبل السلطة الحاكمة، سواء العسكرية منها، كما حدث في مصر بعد انقلاب عام 1952، أو الدينية كما حدث في إيران بعد انقلاب 1979.
الأحزاب عندنا، بموجب ما يراه النيهوم، “ليست هي الأحزاب في الديمقراطيات الرأسمالية الحديثة؛ بل هي الوكيل التجاري، الذي عمل الرأسماليون على تسليمه الإدارة المحلية، بعد انسحاب قواتهم المسلحة في اعقاب تصفية القواعد العسكرية” (المصدر نفسه، ص 21).
وبالانسجام مع رؤيته الموسوعية، يتناول النيهوم بالنقد مختلف جوانب الحياة العامة في المجتمعات العربية. ومما يصل إليه في هذا المجال هو أننا في ميدان المعرفة والبحث العلمي، ما زلنا في مرحلة الاستفادة من جهود الآخرين، نقوم باستهلاك المنجزات التي توصّل إليها الآخرون نتيجة التراكم الرأسمالي الذي حققوه على مدى قرون، وبفعل النظام الإداري الذي اعتمدوه لتحرير الناس من سلطة الإقطاع والكنيسة، وتمكينهم من المشاركة الفاعلة في الإنتاج والحكم؛ وكل ذلك ما كان له أن يتم لولا الاستفادة من نتائج البحوث العلمية والاختراعات التي تُرجمت واقعاً على الأرض عبر الربط بين حصيلة الأبحاث العلمية في المعاهد الدراسية والجامعات ومراكز البحوث والمجتمع عبر التطبيقات التقنية التي جاءت لتلبي حاجات الناس في واقعهم العملي المعيش، وكان ذلك بدعم وتشجيع من الرأسمال الصناعي الذي أفلح في تحويل تلك التطبيقات إلى سلع اقتصادية أسهمت في زيادة الثروة، وأدت في الوقت ذاته إلى تخصيص المزيد من الأموال للبحث العلمي، من أجل أن تستمر العجلة الإبداعية في الدوران، الأمر الذي ستكون حصيلته المزيد من الإنجازات على المستويين العلمي والاقتصادي.
أما مجتمعاتنا فهي ما زالت على حد تعبير النيهوم تعيش إدارياً الحالة ذاتها التي كانت في دولة فرعون. فالثروة ما زالت بيد الحاكم الذي يتصرف بها وكأنها ملكه الشخصي. أما الناس فهم ليسوا سوى موظفين ينتظرون ما سيغدق به عليهم الحاكم، وهذا ما يعوق عملية التقدم، بل يعطلها ويلغيها.
ولم يكن النيهوم من أنصار النظام الاشتراكي في ميدان الاقتصاد، وقد تناول هذا الموضوع في مجموعة من مقالاته. وتوقف عند الأخطاء الكبرى التي ارتكبها مؤسسو هذا النظام، وفي مقدمتهم لينين نفسه؛ تلك الأخطاء التي استمرت وتراكمت وأدت إلى جملة أزمات كبرى، حتى جاء غورباتشوف ليعترف بواقع الأمور ويساهم في تفكيك الاتحاد السوفييتي وإنهاء النظام المذكور، وهو النظام الذي كانت الأنظمة العسكرية الثوروية في العديد من الدول العربية قد تبنته، خاصة في مصر وسوريا والعراق، حيث قامت بتأميم المصانع ومصادرة الأراضي باسم العمال والفلاحين؛ هذا في حين أن العسكر كانوا هم في موقع السلطة والتحكّم في كل شيء باسم العمال والفلاحين الذين تم تحويلهم في أفضل الأحوال إلى مجرد موظفين تابعين للنظام، وذلك عبر النقابات والمؤسسات التي شكلت، وفُصلت أنظمتها لتكون وجهاً من أوجه الدعاية للنظام؛ تماماً كالإعلام في الدول المعنية الذي سخر لخدمة هدفين أساسيين أولهما أن يتجاهل أخطاء الحكومة، والثاني أن يمجد منجزاتها الإدارية بكل وسيلة في حوزته بما في ذلك قصائد الشعراء وأغاني الأطفال. هذا بينما تقتصر مهمة الإعلام في الدول الديمقراطية على نقل المعلومات الحيادية إلى المواطنين؛ بينما ينفق الحزب الحاكم من صندوقه الخاص على الدعاية الإعلامية التي يقوم بها لصالحه، وتفعل الأحزاب المعارضة الشيء ذاته.
هذا في حين أن الحزب الحاكم، أو الحاكم الفرد، يستولي في بلداننا على كل الثروات، ويوزع الأموال على الإعلاميين الذين يلتزمون، لقاء ذلك أو مقابله، بالدفاع عن النظام، والترويج له.
الإعلام العربي اليوم، كما وجده النيهوم، هو موظف حكومي بالأجر ليس إلا. فليس ثمة دستور واحد في الوطن العربي، يعتبر الإعلام سلطة شرعية، أو يضمن له لقمة عيشه أصلاً، إلا بشرطين قاسيين، أولهما أن يخدم حكومة لا يعرف عنها شيئا، والثاني أن يسكت عن كل شيء آخر يعرفه.
و”في ظل هذين الشرطين، لم يكن أمام الإعلام العربي سوى أن يتخلى عن وظيفة الإعلام نفسها، وأن يصبح شاعراً، دون أن يدري ويفعل ما فعله المتنبي منذ ألف سنة تقريباً، فيهجو كافوراً في دمشق، ويمدحه في القاهرة. بأسلوب شعري لا يميزه عن شعر المتنبي سوى أنه أقل موهبة، وأثقل وطأة على الخزانة العامة” (المصدر نفسه ص 94).
ما يتسم به النتاج المعرفي الذي قدمه النيهوم بأسلوب ساخر أنيق لافت، هو أنه يطرح أفكاراً جديدة، ويقترح حلولاً غير تقليدية، ويحدد مواطن الضعف بصراحة قاسية، ولا يكتفي بالنقد اللاذع وحده، بل يقترح الحلول التي يعتقد بصوابيتها استناداً إلى تجربته الموسوعية الثرية، وتحصيله العلمي الأكاديمي في ميدان تاريخ الأديان المقارنة.
بقي أن نقول: إن ظاهرة المبدعين الأفراد التي شهدتها العديد من المجتمعات العربية تفسر هي الأخرى من خلال النقد الذي وجهه النيهوم إلى وضعية البحث العملي والمراكز البحثية في المجتمعات المعنية. فالعقلية المؤسساتية معطلة، أو شبه معطلة، الأمر الذي حال، ويحول، دون أي تراكم معرفي يمكن البناء عليه، وتطويره.
أما المشاريع الواعدة التي ظهرت هنا وهناك، فقد كانت في غالب الأحيان مشاريع فردية، بدأت من الصفر تقريباً، ولكنها أصبحت جزءاً من الماضي برحيل أصحابها، لتبدأ مشاريع أخرى من الصفر العدمي مرة أخرى، وهكذا. وهذا مؤداه تبديد الطاقات وتبعثرها وهجرة العقول نتيجة الإحباط وانسداد الآفاق، هجرة تدفع بأصحابها نحو مناخات جديدة ربما وفرت ظروفاً أفضل للإنتاج البحثي المنتج، غير أن العملية برمتها ستكون بشروط الآخرين، ولحسابهم عوضاً عن جمعها وتركيزها لصالح مجتمعاتنا التي هي في أمسّ الحاجة إليها.