اليهودي الإنسان هل يمكن أن يدعو للتعاطف؟!
بعد نحو سبعة عقودٍ من الصراع والحرب والاحتلال والقمع، يبدو من الصعب بل والمستحيل الإحاطة بصورة “شخصية اليهودي” التي تم تناولها في الأعمال الأدبية والروائية العربية، وهل من الممكن أن تكون هناك صورة حيادية لليهودي، بعيدًا عمّا صورته الروايات العربية لاسيما الفلسطينية منها بوصفه محتلاً غاصبًا متعطشًا للدماء على الدوام؟! ولعله من حسن الحظ أن نجد أعمالاً روائية تناولت تلك الشخصية بعيدًا عن موطن الصراع “فلسطين” وتم تقديمها بشكلٍ إنساني واقعي تمامًا، حتى إن انتهى الأمر بواحدٍ منهما إلى وجوده في فلسطين في نهاية المطاف.
بين يدينا نموذجان مختلفان ومتباعدان تاريخيًا وجغرافيًا، تجمع بينهما شخصية “اليهودي” المقيم في بلاده الأصلية وكيف كان وجوده هناك، وكيف تعامل مع الآخرين المختلفين عنه، ولعل هذه الصورة ما نفتقدها كثيرً تاريخيًا وأدبيًا، كونها واحدة من الأصول التي بُنيت عليها الأزمة الحالية، ففكرة التّهجير التي تمّت الدعوة إليها، ونقل اليهود من كافة أنحاء العالم إلى “أرض الميعاد” بحسب زعمهم لم تكن قد تحققت قبل الوعد المشؤوم وعد بلفور عام 1917، بل إن الاستطيان لم يبدأ فعليًا إلا بعدها بأعوام مع هجرة اليهود لفلسطين عام 1948 وما تلاها.
اليهودي الحالي: اليهود كأقلية مضطهدة!
في رواية “اليهودي الحالي” (2013) للروائي اليمني علي المقري يعود الكاتب إلى منتصف القرن السابع عشر الميلادي (كما يحدد في بداية الرواية) ليحكي قصة بطل الرواية “سالم اليهودي” بلسانه راويًا حكايته وعلاقته الغرامية الملتبسة بحبيبته المسلمة “فاطمة”، وحيث نعرف منذ السطور الأولى أن المقصود بكلمة “الحالي” هي “الحلو” باللهجة اليمنية، وهو اللقب الذي أطلقته عليه “فاطمة” منذ بداية علاقتهما ورغبتها في تعليمه العربية وأن يعلمها هو العبرية، وما يلي ذلك من أحداث.
منذ البداية تبدو الرواية وكأنها واحدة من قصص الحب المستحيلة، يحكي “سالم” عن بدايات تعلقه “بفاطمة” وكيف سحرته وأخذته إلى عالمها، وبين هذا وذاك تكشف الرواية أيضًا عن طريقة تعامل المسلمين مع اليهود، وكيف كان في اليمن، وفي ذلك الوقت حي كامل لليهود خاص بهم، وهو ما كان في عدد من الدول العربية الأخرى، وكيف يتم التعامل معهم كأقلية مضطهدة، تمارس عليهم أنواع من القمع والاستبعاد لاسيما في الدوائر الرسمية، ولكن للناس أحكامٌ أخرى وللقلوب شأنها المختلف، فلا يمنع شيءٌ فاطمة بنت المفتي أن تقع في غرام “اليهودي” بل إنها تبحث في كتب الفقه وآراء الأئمة حتى تصل إلى الرأي الذي يرى بجواز زواجها منه، وهو الأمر الذي ترفضه العائلتان، مما يدفعهما لترك قريتهما.
أصبح ما يربطني باليهودية هو ما يربطني بقصائد الشبزي وبأناشيد الحب وحكاياته في المزامير والأسفار، باليهود الذين لا أستطيع التخلي عن صفتهم، بحاييم ومغنيي الأفراح، بشمعة وزوجها الجرادي ويعيش، برقصات ابنة شمعة التي تغني أحيانًا، لكنها لا تترك الرقص في أيّ فرصة تتاح لها… لم يعد المؤذن يمر من أمام محلنا، بعد حادثة انتحار ابنه قاسم مع نشوة. وأسعد صار منذ ذلك الحين بلا صوت، كلما ذكرهما أحدٌ قال نكس الحدث رأسيهما. ظلت هذه الكلمات تصف حاليهما مع تشعب الحكايات واتساع الأقاويل عن المنتحرين، حتى أمكن سماع القول ونقيضه في الوقت نفسه.. لم تمرّ سوى شهور قليلة حتى صار خبر مقتل الساحر شمعون حديث كل س
استطاع المقري وعبر فصول روايته القصيرة ومشاهدها الدالة الموجزة أن يعرض صورة واقعية واضحة متكاملة لليهود في اليمن في ذلك الوقت، وكيف كانت حياتهم وما يمكن أن ينشأ من صراعات بينهم، وكيف تتطوّر الحوادث والمواقف إلى القتل في الكثيرٍ من الأحيان. وكيف يتعامل المسلمون واليهود بشكلٍ من العداء الواضح والعنصرية الشديدة التي كانت أشد تجلياتها في رفضهم للمولود ابن سالم من زوجته المسلمة، فعند اليهود يُنسب الطفل لأمه، وعند المسلمين هو على دين والده، فلمّا ماتت فاطمة اضطر سالم أن يسلم لكي يتمكن من العيش بين المسلمين الذين قال لهم إنه “على مذهب فاطمة”، في النهاية بدا أن الكاتب لم يكتف بعرض مسألة اليهود واضطهادهم في اليمن في ذلك الوقت من خلال السرد الروائي لأحداث روايته وحكاية أبطالها، ولكنه أراد أن يضفي على الرواية جانبًا وثائقيًا هامًا، كجزءٍ منسيّ من تاريخ هذه البلاد، وهو ما أضافه في الفصل الأخير من الرواية وجعل له عنوان “حوليات اليهود اليمانية” التي جعلها مكتوبة على لسان بطل روايته، ولكن بدا واضحًا أنها ليست ذات صلة وثيقة بالرواية.
في هذه الحوليات يكشف المقري عن جانب آخر من جوانب تعامل المسلمين مع اليهود في ذلك الوقت، وذلك من خلال بعض الحكايات والمواقف التي يسردها الكاتب على لسان حفيد سالم الذي يكمل حكايته، بدءًا بحكاية مدّعي النبوة الذي ظهر في تركيا ووصل إلى أورشليم وزعم أنه سيجمع اليهود مرة أخرى حوله ويعيد لهم حقوقهم، وما حدث على إثر ذلك من صراع وقتال بين المسلمين واليهود، ومحاولات اليهود نزع السلطة عن الحاكم المسلم وغير ذلك من الأحداث والمشكلات. حتى تولّى من أمر بإجلائهم وإعدام كنائسهم الكبرى والشهيرة في اليمن.
رغوة سوداء: وهم الاستيطان الضائع
من منطقة أخرى، وحكايةٍ مختلفة مكانيًا وزمنيًا ينطلق الروائي الإريتري حجي جابر في روايته “رغوة سوداء” حيث يحكي قصة أحد المهاجرين الهاربين من قسوة الحياة في بلادهم إريتريا إلى أثيوبيا ومنها إلى أرض الميعاد “إسرائيل” التي سمع عنها، وسعى جاهدًا لأن يلتحق بها أملاً في حياةٍ أفضل.
تبدو حكاية “داود” ورحلته في رواية حجي جابر أكثر ثراءً ومليئة بالتفاصيل، لاسيما أنها رحلة شاقة، غير عادية يمثل فيها داود (أو داويت بعد تحول اسمه للاسم اليهودي) حال هؤلاء المهاجرين من “يهود الفلاشا” وما قاسوه ولاقوه من صعوبات وأزمات حتى يصلوا إلى “إسرائيل” في النهاية، في تلك الرحلة القاسية تتنوّع أساليب الاضطهاد والمعاناة التي يلاقيها البطل “داود” ومن معه، بدءًا بمعسكرات التجنيد الإجباري، مرورًا بمحاولات الهرب سعيًا للاندماج مع اليهود الآخرين، وحتى عندما يصل إلى “إسرائيل” تلك التي توقع أن يجد فيها كل ما كان يحلم به، تبدو الحياة صعبة المنال!
ربما تكمن براعة رواية حجي جابر في قدرته على تحويل مأساة بطله الذي يبحث عن هويةٍ له تنقذه مما هو فيه، إلى مأساة الإنسان في العصر الحديث، وكيف تحوّل الحروب والصراعات الناس إلى أدوات ومجرد أرقام لا يهتم بها، رغم ما يحمله كل واحدٍ منهم من آمال وأحلام، وكلّ ما يسعون إليه من حصول على الحب والكرامة الإنسانية، تجلّى ذلك في عددٍ من الحوارات التي دارت بين بطل الرواية والشخصيات النسائية الأخرى التي كانت تظهر له أثناء رحلته، وتمثل كل واحدٍ منهم حلمًا خاصًا وسعيًا جديدًا نحو الأمل.
رغم ما تزخر به الرواية من مآسٍ إلا أنها مكتوبة بواقعية، وبلغة شاعرية صادقة، استطاعت أن تعبّر عن مأساةٍ حقيقية، وتستند في الوقت نفسه إلى حقائق تاريخية ثابتة ومعروفة من جهة فيما يتعلق بـ”يهود الفلاشا” وتهجيرهم، ومن جهةٍ أخرى إلى قصة حقيقية سمعها الكاتب في فلسطين وأراد أن يوثّقها، وهو ما سيكتشفه القارئ في نهاية الرواية.
هكذا بدت “رغوة سوداء” رواية مختلفة عن اليهودي، ورغم أنها تغوص داخل ذلك المجتمع وما فيه من صراعات وحياةٍ وموت أيضًا إلا أنها تبقى محافظةً على جانب إنساني شديد الشفافية فيما تعرضه من قضية لا يمكن للقارئ إلا أن يتعاطف معها ومع بطلها، الذي ربما لو تغيّرت الظروف لأمسك السلاح وساهم في القتل والترويع والدماء، ولكنه لسوء حظه فقط لم يكن كذلك، وفي الوقت نفسه كان عرضةً للموت في كل لحظة.
من هنا وعلى هذا النحو بدا أن لدى الروائيين العرب قدرة، ولدى الحكايات التي تزخر بها الثقافة العربية في المنطقة الثراء والتنوع، مما يسمح بعرض وتناول حكايات وقصص عن اليهود تختلف تمامًا عن تلك الصورة النمطية السائدة، بل وتعلي من قدر الإنسان مقابل المادة والنظام العالمي الجديد الذي يفرض سيطرته وهيمنته على الدوام.