في أخلاق الملحدين واللادينيين ومصادرها
الجهل عيب، ولكن الاعتراف بالجهل ليس عيباً، فأنا لم اقرأ شيئاً لهذا الفيلسوف، سوى ما طرحه من آراء في المقابلة المذكورة أعلاه، لذلك سأناقش فكرة الأخلاق، حسبما أشير إليها، سواء في كلام أونفري أو في مناقشة أطروحاته، وعلاقتها بالإرهاب الذي ينسب إلى النصوص التأسيسية للديانات التوحيدية.
لا يزال الإيمان الديني يشكل وجدان المؤمنين بأي دين من الأديان أو مذهب من المذاهب أو عقيدة من العقائد الدينية، ويحدد قيمهم الأخلاقية؛ لا يزال الإيمان الروحي وازعاً أخلاقياً، (مع أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). فما الذي يشكل وجدان اللادينيين أو الملحدين، ويحدد قيمهم الأخلاقية، ومن الحيف والغلو أن يفترض أحد تجرد هؤلاء جملةً من الأخلاق؟ هل العقل أو العلم أو الفلسفة هو أو هي ما يشكل وجدان اللادينيين والملحدين، كما يمكن أن يدعي بعضهم أو بعضنا؟
نشك في ذلك؛ لأن “العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس″، كما وصفه ديكارت، ولأن ادعاء اللادينيين أو الملحدين أن العقل هو مصدر أخلاقهم ينطوي على إنكار ضمني أن المؤمنين والمتدينين يشاركونهم هذه الصفة النوعية للكائن الإنساني. وحين يطعن المتعصبون دينياً أو مذهبياً بأخلاق اللادينيين والملحدين، إنما يجردونهم من إنسانيتهم، ويحلون دماءهم وأموالهم، وينكرون من ثمة أن الإنسان كائن عاقل وأخلاقي، (على صورة الله ومثاله). فتجريد الكائن الإنساني من الأخلاق هو تجريده من العقل، وتجريده من الحرية، ومن ثمة، تجريده من إنسانيته. و”الحاكم محكوم بما يحكم فيه”، بتعبير الشيخ محي الدين بن عربي، ومحكوم بمن يحكم فيه أو له أو عليه.
مرَّ حين من الدهر كانت فيه الحياة الجمعية نوعاً من تجربة دينية خالصة، كما يعلمنا التاريخ العام، وتاريخ العقائد والأفكار الدينية (1)، فمن أين جاءت الأخلاق المدنية في الحواضر والمدن القديمة والحديثة، وهل مجرد نشوء الحواضر والمدن يولّد أخلاقاً مدنية؟ ثمة حواضر ومدن كثيرة جداً، في عالم اليوم، تغلب عليها الأخلاق الدينية، (لم نجد تعبيراً أفضل)، ما يعني أن الأخلاق المدنية لا تنتج من نشوء الحواضر والمدن بالضرورة. فلعل المسألة إذن في عوامل نشوء الحواضر والمدن لا في نشوئها ذاته.
العامل الحاسم في اعتقادنا هو التمدن، أي التطور التدريجي والانتقال البطيء مما يسميه فلاسفة العقد الاجتماعي “الحالة الطبيعية” إلى الحالة المدنية. هذا التطور التاريخي هو تعمُّق استقلال الإنسان عن الطبيعة، وأنسنة الغرائز الطبيعية شيئاً فشيئاً، وتفتّح الملكات الإنسانية النوعية، التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان، وأولها المعرفة المباشرة الناتجة من الإدراك الحسي. ومن طبيعة هذه المعرفة المباشرة تشكيل صورة العالم في الذهن، حيث تغدو هذه الصورة موضوعاً للمعرفة، بدلاً من العالم الواقعي “القائم هناك”، بأشيائه وظواهره، ما دامت معرفة العالم الواقعي غير متاحة. وهكذا يحل العالم المتخيَّل والوهمي محل العالم الواقعي. ما يعني أن الإنسان قد وضع ذاته وجميع خصائصه الإنسانية في موضوع معرفته المباشرة، أو غير الموسَّطة، ونسب إليه جميع مقدراته، ولا سيما قدرته على الخلق والإبداع، وأضفى عليه طابع القداسة والتعالي، فأغنى موضوعه وأفقر نفسه، فغدا الموضوع قوة خارجية تسيطر عليه، وتتحكم في مجريات حياته، وهذا هو المعنى الأولي للاغتراب. والمعرفة التي موضوعها عين ذاتها هي معرفة أسطورية ودينية، ولذلك لا تنفك الأساطير عن العقائد أو الأيديولوجيات، الدينية، وغير الدينية، حتى يومنا، وكان الاغتراب في الدين أول أشكال الاغتراب. ومن ثمة، فإن جهل حقيقية العالم أو جهل ما هو العالم على حقيقته، وجهل كيفية نشوئه هو أساس الدين.
يقودنا هذا إلى قولة ماركس “وجد الدين من أجل الإنسان ولم يوجد الإنسان من أجل الدين” (2)، بل إن الإنسان هو من أوجد الدين. وهي مقولة تؤيدها الديانات القديمة، ما قبل التوحيدية، وتأليه الملوك، كما عند الفراعنة وغيرهم. فإذا كانت هذه المقولة صحيحة أو راجحة، على أقل تقدير، فإن قولة ماركس أن “الروح الإنساني هو الذي يسري في الدين” صحيحة أو راجحة على الأقل. ومن ثمة فإن الأخلاق المدنية ليست شيئاً آخر سوى الروح الإنساني الذي يسري في الدين، ويتحقق، أو يمكن أن يتحقق، في الواقع المعيش، في أي زمان ومكان. فليس من الصواب أن نحذف الدين من تاريخ البشرية، ونتجاهل آثاره العميقة في حياة الأفراد والجماعات، والمجتمعات، المتقدمة منها والمتأخرة على السواء. وليس من الصواب أيضاً أن ننفي تاريخية الدين وتحولاته على مر العصور، تبعاً لتاريخية المعرفة، أو “تاريخية العقل” بتعبير صادق جلال العظم (3).
عملية تحقق الروح الإنساني أو تعينُّهِ في الواقع المعيش هي عملية التموضع أو التعيُّن، التي تصير بها الروح الإنسانية موضوعية، وتصير بها الأخلاق الذاتية أخلاقاً موضوعية، حسب هيغل، ولم يكن ماركس بعيداً عن ذلك، حين عالج مسألة الاغتراب في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية للعام 1844، ومسألة التشيؤ، في رأس المال. وإن تموضع الروح الإنساني في الحياة الاجتماعية، في المجتمع والدولة، هو بالأحرى سيرورة تاريخية متصلة، لا تفتر ولا تني ولا تنقطع ولا تنتهي، إلا بافتراض زوال البشر من على هذا الكوكب. والروح الإنسانية لا تتموضع في الأخلاق فقط، بل في الفكر والأدب والفنون والعلوم، وفي كل ما ينتجه الإنسان. لذلك وصف ماركس المجتمع المدني والدولة معاً بأنهما الإنسان مموضعاً.
التمدن إذن هو الشرط اللازم أو الضروري لنشوء الأخلاق المدنية ونموها، لا العقل ولا العلم، ولا مجرد نشوء الحواضر والمدن، ولا مجرّد نشوء “المجتمع المدني” أيضاً، فالعقل والعلم يمكن أن يتجها إلى ما يناقض الأخلاق، الدينية منها والمدنية على السواء
يحلينا ما تقدم على مسألة الاغتراب، التي قلما تحظى بالاهتمام الذي تستحقه من المفكرين العرب، ولا سيما اليساريين منهم، مع أن الاغتراب هو أساس ظهور الملكية الخاصة، كما يصرح ماركس، وأن الغاية الأخلاقية من إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج هي حذف اغتراب الإنسان عن عالمه وعن ذاته، ولذلك يعد ماركس من كبار الإنسانويين، كما يشهد بذلك خصومه، علاوة على أصدقاء فكره والمتأثرين به.
يقول ماركس “الاغتراب في الدين هو أول أشكال الاغتراب، وهو أساس جميع أشكال الاغتراب”، هذه العبارة تدل دلالة واضحة على قوله الآنف ذكره: إن الروح الإنساني هو الذي يسري في الدين، أي أن الدين هو تموضع الروح الإنساني في العالم، وفي الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية للجماعات المختلفة والمجتمعات المختلفة. وعلى هذا الأساس كان ماركس يعتبر الديمقراطية تحققاً مدنياً للأخلاق الإنسانية والقيم الإنسانية، التي ينطوي عليها الدين.
من البداية ربطنا الدين بالوجدان الفردي، أو الضمير الفردي، الذي ليس سوى معطى اجتماعي تاريخي، يتشكل بالتربية والثقافة والتعليم والتلقين..، في زمان ومكان محددين، ولكنه وجدان فردي أولاً وأساساً. صفة الفردية هنا، بما تنطوي عليه من حرية نسبية واستقلال نسبي، علامة أخرى على الأخلاق المدنية، لأن الفردية، بهذا المعنى، نتاج تطور تاريخي، أو نتاج عملية أو سيرورة تمدّن مطّردة، على الرغم مما يتخللها من انتكاسات، على نحو ما نرى اليوم. بل يمكن القول إن الفردية، بما هي حرية نسبية واستقلال نسبي، منجز مدني حديث، على اعتبار الفرد الإنساني، أنثى كان الفرد أم كان ذكراً هو النموذج الكامل للإنسان، بصرف النظر عن أصله وفصله ولون وجنسه ولون بشرته أو أيّ اعتبار آخر.
سيرورة التمدن هي سيرورة نشوء “الصداقة المدنية”، التي تتجلى في المواطنة، كما تتجلى في العدالة، بما هي، أي الصداقة المدنية، اعتراف متبادل بين الأفراد والجماعات بالمساواة في الكرامة الإنسانية، والكرامة الوطنية، والحقوق المدنية والسياسية، ونزوع أصيل إلى التضامن والتعاطف والتعاون والتشارك الحر، ولا قيمة أخلاقية للوطنية والمساواة السياسية، من دون المساواة في الكرامة الإنسانية، ولا قيمة أخلاقية للمواطنة من دون العدالة. وهنا تتموضع، على وجه التحديد، مساواة المرأة بالرجل.
فالتمدن إذن هو الشرط اللازم أو الضروري لنشوء الأخلاق المدنية ونموها، لا العقل ولا العلم، ولا مجرد نشوء الحواضر والمدن، ولا مجرّد نشوء “المجتمع المدني” أيضاً، فالعقل والعلم يمكن أن يتجها إلى ما يناقض الأخلاق، الدينية منها والمدنية على السواء، والمجتمع المدني لا يطابق مفهوم التمدن، إذ التمدن، في مقاربتنا، هو معيار تأنسن المجتمع المدني. ولذلك كان اقتران العقل والعلم بالأخلاق ضمانة لعدم جنوحهما إلى الشر والرذيلة، وكان المجتمع المدني محرزاً إنسانياً يجب الدفاع عنه وكسبه كل يوم. ولعله من غير الصواب أن نضفي على العقل والعلم أو أيّ مفهوم آخر قيمة إيجابية مطلقة.
هل يمكن أن نعيش بلا نص إلهي، أي بلا إله
يقول أونفري “بالطبع أنا ملحد، أنا أناضل لسنوات لتعزيز القيم الأخلاقية التي أفصلها عن الأخلاق الدينية، التي استمرت لعدة قرون. فمنذ أن أصبح لدينا نصوص أخلاقية، وأشير هنا إلى الكتب التي جاءت في حكمة مصر القديمة، من طرف باسكال فيرنو(Pascal Venus) صرنا نعلم أن الأخلاق تستند إلى التسامي على الألوهية، على الإله. لقد سمحت أعمال كل من لودفيغ أندرياس فيورباخ ونيتشه وماركس وفرويد عن الإله والأديان برؤية الأمور بطريقة أقل لاهوتية وأكثر فلسفية. نحن لسنا في حاجة إلى إله لنتمتع بالأخلاق”.
فلو قارنا قوله هذا بقول كانط “ليس الإنسان في حاجة إلى فلسفة ولا إلى علم لكي يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل لكي يكون أميناً وخيّراً، لا بل ليكون حكيماً وفاضلاً.. فملكة الحكم العملية تتقدم، في الفهم الإنساني على ملكة الحكم النظري”، لبدا الفرق واضحاً بين تأسيس الأخلاق على ممكنات الطبيعة البشرية وسيرورة تحسنها وبين تأسيسها على الفلسفة أو العلم. فإن تأسيس الأخلاق على الفلسفة أو على العلم يستبعد العناصر اللاأخلاقية فيهما، ويضفي عليهما قداسة ومعصومية ليست لهما. اللاأخلاقية، كالأخلاقية، حقيقة بشرية، فالفلسفة التقليدية، في معظمها، كانت تزدري المرأة، على سبيل المثال، وقد جاء وقت كان الفلاسفة فيه يناقشون مسألة هل للمرأة روح، ومن قالوا بأن لها روحاً شبهوها بروح الحيوان أو النبات.
ويضيف أونفري “أخلاقي تستند على الوصية القديمة: ‘لا تقتل. نقطة’. فلا حاجة للقيام بذلك إلى مناشدة مبرر متسام، إلهي ومقدس. وهذا يتعلق باللجوء إلى مجرد قاعدة بسيطة والتي دونها تصبح الحياة مع الآخرين مستحيلة. لنتفق على هذا الحد الأدنى من الأخلاق: لا يوجد سبب وجيه لقتل إنسان. لا شيء عندي يبيح ذلك. وهذا يكفي، في مجال الأخلاق، للبدء”.
ربما لم يتنبه أونفري إلى ما وقع فيه من تناقض بقوله: “أخلاقي تستند إلى الوصية القديمة: لا تقتل”، وهذه وصية دينية، موسوية، كانت، ولا تزال في أساس الأخلاق الدينية للديانات التوحيدية.
في معارضة أونفري يُطرح السؤال “هل يمكن أن نعيش بلا نص إلهي، أي بلا إله، ونكوِّن أخلاقا بلا أمر أخلاقي إلهي، هل يمكن أن نعيش بلا أساطير وأوهام؟ الجواب نظرياً طبعاً نستطيع، والأخلاق السائدة في أغلب دول المعمورة أخلاق عملية ورأسمالية الأصل. غير أن التحرر من الإرث الثقافي المتوارث والذي يعاد إنتاجه في بنى راكدة أمر صعب إزالته برغبة إلحادية. وخاصة إذا كانت البنية الثقافية ليست في عملية تناغم تاريخي مع البنية الاقتصادية. فسرعة انتشار العلاقات الرأسمالية بوصفها ظاهرة عالمية في البلدان الراكدة لم تسمح بزعزعة البنى الثقافية المعتمدة”. (4).
السؤال مركب من سؤالين وأكثر: هل يمكن أن نعيش بلا نص إلهي؟ والجواب بديهي، “طبعاً نستطيع″، لأن النصوص ليست من شروط الحياة، وليست من شروط العيش. ولكن المطابقة بين الله والنص، يمكن أن تجعل الإجابة ملتبسة، فالأديان السماوية والوضعية تذهب إلى أن الله هو مصدر الحياة، وعلة العلل، ما يحتم أن تكون الأخلاق أوامر إلهية. أما الشق الثاني من السوال: هل يمكن أن نكوِّن أخلاقاً بلا أمر إلهي، فيجاب عنه “طبعاً نستطيع، والأخلاق السائدة في أغلب دول المعمورة أخلاق عملية ورأسمالية الأصل”.
وهذا قول فيه نظر، يحتاج إلى تعيين معنى “الأخلاق العملية”، هل هي من قبيل أخلاق الواجب الكانتية، و”ميتافيزيقا الأخلاق”، أم هي أخلاق براغماتية، وكلبية في كثير من الأحيان؟ يرى بعضهم أن المجتمع الأميركي، الأكثر رأسمالية، هو الأكثر تديناً، وأن لأخلاقه “الرأسمالية” مصدراً دينياً، أو مصادر دينية. وقد اعتبر ماكس فيبر الأخلاق البروتستانتية من أسس الرأسمالية، إن لم تكن أساسها. واعتبر ماركس اليهودية دين الرأسمالية الفعلي، ومن ثمة مصدر أخلاقها العملية، أما المسيحية فهي تتمتها المثالية، أي مصدر أخلاقها المثالية، التي قلما تندرج في الممارسة العملية، إذا كانت تندرج فيها.
الإشكال الأكثر أهمية هو ربط الأخلاق العملية بالإلحاد. إذ يوصف الإلحاد بأنه “ليس موقفاً فلسفياً من العالم، بل هو ثمرة طبيعية من ثمار عملية التفلسف وصفة غالباً ما يطلقها المؤمنون على الفيلسوف. وآية ذلك أن العقل، عقل الفيلسوف، هو المرجع الأول والأخير له دون أيّ مرجع ديني إيماني” (5). لا نعتقد أن ثمة صلة ضرورية أو سببية بين الأخلاق العملية والإلحاد، فالأخلاق الدينية أخلاق عملية أيضاً، بالمعنى البراغماتي، إذا اعتبرنا الممارسة تعيناً للأخلاق. والإلحاد يمكن أن يكون عدمياً ولا أخلاقياً على طول الخط. العدمية هي القاسم المشترك بين الإلحاد الفارغ وبين التطرف الديني أو المذهبي، وإلا كيف نفسّر الإرهاب الذي تمارسه بعض جماعات الإسلام السياسي المتطرفة مذهبياً؟ والإرهاب استطراداً ليس مقصوراً على بعض جماعات الإسلام السياسي، فإرهاب النظم الشمولية أو التسلطية، ببطانتها المذهبية، أمرّ وأدهى.
إضافة إلى ما تقدم، ثمة التباس وتعميم تعسفي في اعتبار الإلحاد “ثمرة طبيعية من ثمار عملية التفلسف”، لأن عملية التفلسف لا تؤدي إلى الإلحاد بالضرورة، فمعظم الفلاسفة والعلماء، في الماضي والحاضر، مؤمنون، إيماناً ما. وما الإلحاد إذا لم يكن موقفاً فلسفياً من العالم، يمتاز به هذا الفيلسوف أو ذاك؟ الماركسية استطراداً “ليست مدرسة لنشر الإلحاد”، بتعبير ماركس نفسه.
أما الدفع بنصف مقولة ماركس: الانتقال “من نقد السماء إلى نقد الأرض” (6)، من دون المقدمة التي اعتمد عليها ماركس لقول ما قاله، ففيه ابتسار ونفي لمفاعيل التاريخ. المقدمة التي انطلق منها ماركس تقول: إن “نقد الدين قد أنجز في ألمانيا”، ولذلك بات ممكنا الانتقال من نقد السماء إلى نقد الأرض، أي من نقد الدين إلى نقد السياسة.
يجادل بعضهم اليوم في أن نقد الدين لم ينجز في ألمانيا، ربما لأن العقيدة النازية كانت عقيدة قومية “محولة عن عقيدة دينية”، (7) ولم ينجز كذلك في أوروبا. ونحن نقول إن نقد الدين لم يبدأ عندنا بعد، ولا سيما أن الدين الوضعي كان ملازما للاستبداد، على أنه تتمته الروحية، أو الثقافية وأداة من أدواته. هذا يعيدنا إلى تموضع الروح الإنساني في الاستبداد الديني والاستبداد السياسي، فليس للروح الإنساني قيمة إيجابية مطلقة، إذ يمكن أن يكون الإنسان غشوماً جهولاً وشريراً وعدوانياً، ويمكن أن يكون رحيماً وحكيماً وعادلاً ومتسامحاً ومحباً، وإذ لا نشك في أن الظروف الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية هي ما تجعله هذا أو ذاك، نجادل في أنها يمكن أن تجعل منه ما ليس في طبيعته، وهذه ليست معطى ثابتاً، بل هي قابلة للتحسن بالتربية والثقافة وقابلة للانتكاس. القابلية للتحسن يمكن أن تعاند الظروف وأن تقاوم كل ما يؤدي إلى سقوط أخلاقي؛ ففي كل زمان ومكان هنالك من يقاومون السقوط الأخلاقي والشروط التي تؤدي إليه؛ وليس من الضروري أن يكون الفرد يسارياً أو علمانياً أو ملحداً، لكي يفعل ذلك.
بدأ نقد الدين بالتفريق بين الدين الروحي، أو الدين الذي يسري فيه الروح الإنساني، وبين المذاهب المختلفة والمتخالفة، التي ليس أيّ منها الدين، بألف ولام التعريف
إن نقد الدين بوصفه مدخلاً ضرورياً إلى نقد السياسية، ليس سوى نقد جذري لجميع أشكال اغتراب الإنسان عن عالمه وعن ذاته، وقد بلغ الاغتراب ذروته في النظام الرأسمالي، ولا سيما في صيغته الاحتكارية المتوحشة. أطلق ماركس على هذه الذروة صفة “التشيؤ”، أي جعل الإنسان شيئاً تتحدد قيمته بالسلع التي ينتجها أو الخدمات التي يقدمها، لا العكس، وغدت العلاقات بين الأشياء علاقات اجتماعية، والعلاقات بين المنتجين والمنتجات علاقات شيئية. وذلك بتغريب الإنسان في العمل وفي عملية الإنتاج الاجتماعي، وتغريبه عن عالمه، أي عن المجتمع والدولة، ثم عن ذاته الإنسانية. فإن دراسة معمقة لاغتراب الإنسان في عصرنا، يمكن أن تفسّر ظواهر العنف والإرهاب أكثر مما تفسرها الخطابات الأيديولوجية الدينية أو اللادينية، كخطاب أونفري ومنتقديه. فلم نر فلسفة تذكر، أو فكراً نقدياً، لا في آراء أونفري، الفيلسوف، ولا في آراء منتقديه ومساجليه، ونرجع ذلك في حالة أونفري إلى أن “الحوار أفق فكري ينفتح بمجرد أن يبدأ السؤال في أخذ مجراه داخل دروب المعرفة والسياسة والدين والحياة، وكل تمشّ يأتمر بمنطق السؤال، لا بمنطق الإجابة، هو ضرب جسور يشجعنا على امتشاق حركية الحياة، لأن الإجابة هي، بتعبير دقيق، شقاء السؤال وعذابه، وهي كذلك سجن بارد ومرعب للمعرفة البشرية حيث تضعها في تمثلات متكلسة، أما السؤال فهو مطرقة نيتشوية تقوض كل ما انسحب هارباً جهة التقديس المزيف”. (8). العذر الذي نلتمسه لأونفري، لجهلنا بفلسفته، لا ينطبق على منتقديه، وأنا منهم.
يبدأ نقد الدين بالتفريق بين الدين الروحي، أو الدين الذي يسري فيه الروح الإنساني، وبين المذاهب المختلفة والمتخالفة، التي ليس أيّ منها الدين، بألف ولام التعريف، ومنه، أي من هذا التفريق الضروري، إلى علاقة الدين بالسلطة، بمفهومها الواسع، على اعتبار المعرفة الدينية، نوعاً ذاتياً من أنواع المعرفة المباشرة، أي غير الموسطة بموضوع يقع خارج الذات، تندرج كغيرها في جدلية المعرفة والسلطة، التي تصير بها المعرفة سلطةً والسلطة معرفة (محافظة)، وإلا انتفى الديالكتيك. فالذين يذيبون الدين في التاريخ السياسي، أي في الصراع الطبقي، ويرجعون جميع الظواهر إلى الاقتصاد والصناعة وما إلى ذلك، إلى حد لا تظهر معه ملامح الدين وآثاره في حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات، يهملون تضافر الدين والعصبية، في التاريخ السياسي عامة وتاريخ العرب خاصة، بما في ذلك العصبية “القومية”، في التاريخ المعاصر، والتي كانت، ولا تزال في خلفية الصراعات القومية والحروب. فقد أشار محمد عابد الجابري إلى أن “العصبية -عصبية قريش أولاً وعصبية العرب جميعاً- كانت شرطاً ضرورياً في نجاح الدعوة الإسلامية وقيام دولة العرب. مثلما أن الإسلام نفسه كان شرطاً ضرورياً لالتئام العصبيات العربية وتأسيسها الدولة..” (9). وكذلك كانت الحال لدى بقية الأمم والشعوب، حتى قيام النظم الديمقراطية التي لا تحتاج إلى أيّ عقيدة لتستمد منها مشروعيتها، لأنها تستمد مشروعيتها من ذاتها، أي من الشعب (ديموس). نزعم أن اليهودية والإسلام والمسيحية وغيرها مذاهب في الدين، (أرثوذكسيات) متنوعة، تولدت من كل منها مذاهب متنوعة، بفعل “السياسة”، التي تقترن بها السلطة بالعقيدة، حتى لتبدوان شيئاً واحداً، وقد كانتا كذلك بالفعل في الأزمنة الغابرة.
يقول عبد الله العروي “قد يقال كل شيء عن السنة سوى أنها تفتقر إلى المنطق والاتساق، إنها في الواقع غاية في التناسق، كل جزء منها يأخذ برقاب الأجزاء الأخرى.. تدافع عن نفسها بأسلحة فعَّالة “الذهنية السنية الاتباعية، الاحتماء بالماضي، اتخاذ موقف السلف أسوة ومرجعاً ومعياراً… تجديد السنة يعني بالضبط استحضارها بعد نسيان، استئنافها بعد تعثر، استجلاؤها بعد خفاء. السنة يتم إنعاشها، إبرازها، تبيانها، لا تصحيحها، تطعيمها، تلقيحها .. السنة مشغولة أبداً بنقيضها، أي البدعة”. “يستحيل إذن، إذا ما وقفنا خارجها، أن نعتبرها مرادفة للدين أو العلم أو التاريخ. هذه المفاهيم تتخطاها من كل جانب. يتجدد التاريخ بالتراكم، العلم بتمحيص المبادئ، الدين بتهذيب الشعور وتعميق الوجدان. لا شيء من هذا يؤثر في السنة” (10).
المذهب أو السنة أو الأرثوذكسية هي ما نسميه “الدين الوضعي”، إذ ينتحل المذهب لنفسه صفة الدين، بألف ولام التعريف، ويعتقد أهله أنهم “الملة الناجية”، فتنطفئ جذوة الدين الروحي، وجذوة الضمير الإنساني. فهو، أي المذهب، لا يعبر عن الدين الروحي، ولا عن “الدين الشعبي”، حسب ما يسميه كثيرون، ويتعين في مؤسسات، هي مؤسسات السلطة الناعمة الملازمة للسلطة الفظة والتي تسوّغ سياساتها، وتضفي عليها طابع الشرعية وطابع القداسة أيضاً.
الإرهاب وثيق الصلة بالدين الوضعي، التاريخي، الأيديولوجي، المؤسَّسي، القابل للتسييس، والملازم والمتمم للاستبداد السياسي، لا بالنصوص التأسيسية، التي كل منها بنت عصرها. وما نشهده اليوم في سوريا وغيرها من توحش هو نكوص إلى الهمجية، كانت عوامله تتراكم كل يوم جراء الحرب المفتوحة والشاملة، التي شنتها السلطة “القومية”، العدمية أو العنصرية على المجتمع، وكان الإرهاب، أي العنف اللاقانوني واللاأخلاقي، من أمضى أدواتها، ولا يزال كذلك، وهو نسق مولِّد للإرهاب المضاد. وثمة قائمة طويلة جداً من الأدلة تؤيد ما ندعيه.