مسرح الرعب
تثير كل واحدة من مسرحيات ميلو راو (1977- الآن) ضجة عالميّة، ولا تنتهي تبعاتها بإسدال الستار، بل يتطور بعضها إلى قضايا رأي عام وأحياناً تلاحقه والعاملين معه دعاوى قضائيّة بسبب ما يقدمونه على الخشبة، فراو الذي أصدر مؤخراً مانيفستو غاند، يرى في المسرح حدثاً سياسياً، ينتقد عبره أوروبا ومركزيتها وما تركته من خراب في أطراف العالم، ليحول الخشبة إلى صراع ضد المسرح نفسه وسياساته وجمهوره، باحثاً عن عدالة من نوع ما، وناشراً الرعب لدى الجمهور داخل المسرح وخارجه، فهو يريد خلخلة “الآن” من أجل تغيير المستقبل.
بدأ مؤخراً مسرح “NTgant” في بلجيكا إصدار “سلسلة الكتب الذهبيّة” المرافقة للعروض التي يخرجها ميلو راو، الذي يشغل منصب المدير الفنيّ للمؤسسة، وذلك لتوثيق العروض والتعرف على عمل المخرج الإشكاليّ سواء في المسرح أو النشاط السياسي بوصفه أيضاً مدير مركز الاغتيال السياسيّ، الكتاب الأول من السلسلة معنون بـ”الواقعية العالميّة” ويحوي مجموعة حوارات مع راو أنجزت في السنوات الماضية، نتعرف عبرها على أسلوب عمله الذي يتحرك بين الاحتجاج السياسي والمحاكمات المسرحيّة، في سبيل خلق ما يسميه راو “واقعية ما بعد الحداثة”، تلك التي تبحث عن “الحقيقة” و”العدالة” في عالم ساخر و مسيّس ومعولم، محكوم بحكايات تتصارع، تنتصر نهاية واحدة منها ويُطلق عليها اسم حقيقة تاريخيّة، أما الكتاب الثاني من السلسلة بعنوان “أوريست في الموصل” وهو توثيق للعرض الذي أنجزه راو بين العراق وبلجيكا سائلاً عن العدالة التي ينشدها العراقيون.
لا بد أولاً من الإشارة إلى بعض أعمال راو الإشكالية التي يأخذ الواحد منها شكل كتاب وفيلم و مسرحية، فهو يوظف الأشكال الفنية المختلفة، ويعمل مع المُمثلين المحترفين والهواة الذين يلعبون أدوارهم الحقيقية على الخشبة لكشف العلاقة بين الحدث التاريخيّ وكيفية صناعته، كما في “محاكمات موسكو” التي يستعيد فيها محاكمة فرقة “بوسي رايوت” الروسيّة التي اقتحمت كنيسة وغنت ضمنها، و”محكمة الكونغو” التي يعمل فيها مع ضحايا ومساهمين في مجازر الكونغو ضمن مساحة تحمل خصائص المحكمة القانونيّة والقضائيّة، أو “أوريست في الموصل” التي يؤدي فيها ناجون من تنظيم الدولة أدوارا مسرحيّة من أجل الإجابة عن سؤال العقاب والعدالة تجاه من هددوا حياتهم.
يرى ميلو راو التاريخ كسلسلة من الصور التي تمتلك أثر أيديولوجيا، وقادرة على تشكيل وعينا بما يحدث في العالم دون أن يكون للأحداث التي نراها مساس مباشر بحياتنا اليوميّة، كصورة إعدام شاوشيسكو وزوجته، لذا يحاول في مسرحياته أن يختار الأحداث والموضوعات الموثقة بدقّة، سواء كانت الوثائق التي تتناولها رسميّة أو غير رسميّة، ليعيد تقديم “الصورة” التي حُفرت في ذاكرتنا، دارساً السياق والعاطفة التي دفعت أحد ما لالتقاط هذه الصورة، فما يهم هو التدفق العاطفي للحدث الذي يجعل صورة ما تظهر بشكلها الذي نعرفه.
هذه الرؤية للتاريخ ودور المسرح ضمنه ترتبط بما بعد الحداثة والتاريخ الحالي بوصفه مجموعة من الصور التي يتداخل فيها الحقيقي مع المتخيل، أشبه بكولاج “جدّي” يأتي المسرح ضمنه كأسلوب لإعادة بناء “المنحوتة الاجتماعيّة” التي تشكل وعينا وإدراكنا الذي يجعل “الحقيقة” نتاج “اتفاق اجتماعيّ”، يحاول المسرح إعادة النظر فيه، ومساءلة الموافقين على هذا الاتفاق/الحقيقة، وما هي دوافعهم، ولماذا اتفقوا على “تاريخيّة” هذه الصورة أو الحدث؟ و هذا ما نراه في عرضه “الأيام الأخيرة من حياة شاوشيسكو” الذي يحاور فيه شهوداً وجنوداً شهدوا الثورة ضد طاغية رومانيا ثم إعدامه.
متعة النجاة اللاأخلاقيّة
يُناقش مسرح راو العلاقة بين الإعلامي والسياسي والإنساني، والمتغيرات بين الحقيقة وصورتها، مُسائلاً المسرح نفسه، فهل هو وسيط للـ”حقيقة” أو “اللعب” ؟ و هذا يبرر دهشته في بعض العروض التي أنجزها، والتي لم يصفق الجمهور في نهايتها، بل صمت، خصوصاً أن بعض الممثلين والمشاركين شهدوا أو عاشوا مآس حقيقية، كما في عرض “أوريست في الموصل”، وهنا يطرح راو سؤالا لمَ سيصفق الجمهور، احتفاء بالمضمون الواقعي أي القتل والمجازر؟ أو الأداء التمثيلي؟ أو شكل العمل المسرحيّ؟
يجيب راو عن التساؤلات السابقة في حديثه عن التطهير، إذ يرى أن الهدف من المسرح أو من “الواقعية ما بعد الحداثيّة في المسرح” هو جعل المشاهد نفسه يشعر بأنه مذنب، خصوصاً أن ما يراه من “إعادة تمثيل” واقعي، وقد شهده مسبقاً ولم يتصرف، وعليه أن يسأل نفسه لم يفعل شيئاً حين سمع عن مجزرة في أفريقيا أو سوريا أو العراق، هذه التساؤلات يجب أن تكون مؤلمة وقاسيّة، لجعل المشاهد متورطاً في “الحكم”، كونه قادرا على أن يلعب دوراً في عالم مُعلوم كل ما فيه متصل، ليظهر ذنبه لأنه “مُتلصص” ومشاهد صامت، كما يفعل في المسرح، فهدف راو هو تفكيك متعة مشاهدة التراجيديا والمآسي، وانتقاد الإحساس اللاأخلاقي بالنجاة الناتج عن المشاهدة المنحرفة لمعاناة الآخرين.
يطرح مسرح راو سؤالاً على المشاهد، الذي يردد “أعلم جيدا أن هذا مسرح، لكن سيكون رد فعلي لاحقاً كذا أو كذا”، ويراهن على الـ”لكن” وما يأتي بعدها من موقف سياسي، فتصرفاتنا بعد أن نشاهد هي التي تترك أثراً في العالم، وتساهم في إنتاج الحقيقة السياسيّة، بالرغم من أننا “نعلم جيداً”، وهنا تظهر “الواقعيّة” التي يتحدث عنها راو، والتي لا تعني واقعية “التمثيل” بل واقعية الحدث المسرحي الذي تمتد نتائجه إلى خارج الخشبة، كما حصل في محاكمة الكونغو التي أثارت جدلاً سياسياً، بل إن اثنين ممن عملوا معه تم اختطافهم لاحقاً، فالواقعية المقصودة هنا تعني أن ما يحدث على الخشبة “جديّ” وآثاره تمتد في الزمن، كما في المحاكمات ذات الإطار القانونيّ.
هذه الواقعية و”إعادة التمثيل” على الخشبة يرى راو أنها وسيلة لجمع نقيضين فلسفيين هما “الحس الموضوعيّ العام” و”المعاناة الفردية الذاتيّة”، وصحيح أن ما على الخشبة “تمثيل”، لكنه “واقعيّ”، ما يجعل الخشبة فضاء لخلق بديل عن التاريخ والهروب من صورته الرسميّة عبر استخدام الوثائق والأشخاص الحقيقيين لإيجاد تاريخانيّة مُختلفة عن تلك المتداولة والرسميّة، وكأن الخشبة فضاء يوتوبي مستقبليّ لواقع ممكن التحقيق.
الواقعية العالمية
يحاول ميلو راو أن يجعل مسرحه عالمياً، أي أن يتحرك ضمن شروط العصر الإعلامية و التقنية و التاريخيّة، لكنه يركز على “الداخل الذي يحويه رأس المال العالمي، وكوابيسه وآماله وأراضيه الفرعيّة وعوالمه البديلة”، فالسلم الدائم في أوروبا في سبيل الإنتاج الاقتصادي يقابله قمع ومجازر وقتل في الدول التي كانت مُستعمرة، وتقنين للعنف الخارجيّ في سبيل رأس المال كتجريم مستخرجي الذهب في الكونغو وذلك لشراء الذهب منهم بأسعار رخيصة في أوروبا.
هناك موقف سياسي واضح لدى راو، هو يريد التأثير على التاريخ نفسه، وملء الفراغ بين “الحدث” وبين الطريقة التي نتحدث فيها عنه، خصوصاً في ظل حكايات أوروبا البيضاء التي لا يمكن اكتشاف حقيقتها -عبر تعبيره- إلا في أفريقيا والشرق الأوسط.
فدور الفنان هو إظهار الرعب والخوف، والإشارة إلى الخطأ في هذا العالم وجعل هذا الخطأ مرئياً للجميع، خصوصاً المذنبين الذين ساهموا بترسيخ العطب والعنف المرافق له، هؤلاء المذنبون هم الذين وافقوا على توحيد رأس المال الأوروبيّ، وتصدير المجازر ومساحات الاستثناء، وهنا يأتي المسرح كأداة تنويرية تكشف أن الرأسماليّة ليست قوة طبيعيّة، بل هناك وسيلة للمقاومة وللوقوف بوجهها لنفي المستقبل الذي رسمته لنا، وذلك عبر خلق “حقيقة” قادرة على الاستمرار خارج المسرح، ما يخلخل التسلسل الزمني الرسمي ويعيق تحقق نبوءات الرأسماليّة، فلا يوجد في نصوص راو وأعماله فرضيّة “ماذا لو”، كون المؤدين يتصرفون على الخشبة كموضوعات سياسية لا كممثلين، وما يقومون به من “تابوهات” لا يدخل ضمن المحاكاة، بل الفعل “الواقعي”.
المخرج واللعب مع "الأشكال"
يرى راو أن عمل المخرج هو زحزحة النوع المسرحي والتلاعب بشكله، وضبط الحكايات التي يجب أن تظهر على الخشبة أو تختفي، فعمليات البحث الوثائقية والفنية التي يقوم بها مع فريقه ليست إلّا استعداداً لما سيحصل على الخشبة، ولا يتحدث هنا عن التأليف الجماعي الذي يصفه بالـ”أسطورة رومانسيّة”، بل يشير إلى العمل مع المحترفين، الذين يدركون كيفية عمله إذ يتحاور معهم عن أفكاره وهواجسه، لتكون الكتابة عملية بلورة واكتشاف ومساءلة أفكار راو نفسه، يشير أن هذه العمليّة لا تشابه تقنيات الارتجال الفنيّة المحترفة، كونه يتعامل مع هواة وأطفال، بل هي أسلوب للتفكير وصناعة الحكايات، خصوصاً أن الخشبة أو مساحة العرض ليست مكاناً لـ”تظهر” فيها الأشياء، بل لتنتج وتتولد، فالمسرح حسب تعبيره تمرين على “التأطير”، لأن كل ما لا تتم مشاهدته في عالم ما بعد حداثي، غير موجود.
يسعى الإطار “الواقعي” الذي يقدّمه راو إلى إيجاد الاختلاف بين “القانون” و”العدالة” وكيفية إنتاج وتطبيق كل واحدة منهما، فالقانون يحمي مصالح فئة ما، وهناك دوماً عدالة ضائعة بالمعنى الإنسانيّ، خصوصاً في مساحات العنف الشديد، وهذا ما نراه في عرض “أوريست في الموصل”، إذ يطلب راو في نهاية العرض من العراقيين الذين معه إن كانوا يسامحون من ساهم بقتلهم لا فقط من “مقاتلي داعش” بل أيضاً من وقف إلى جانبهم، ليكون الجواب لا، فلا مسامحة، ولا بد من تحقيق العدالة.
يشير راو إلى العلاقة مع موضوعاته المسرحيّة وبعض الاتهامات التي تطاله حين يعمل مع نازيين أو مرتكبي مجازر بوصفه داعماً لهم، لكنه يبرر ذلك أن هذا جزء من البحث في التجربة الإنسانيّة وزخمها، هو لا يتبنّى بل يترك الأفراد يتحدثون بلسانهم عن أفكارهم ومواقفهم من العالم، ذات الأمر يحصل في الحديث مع الضحايا والإشكالية الشديدة المحيطة بهم حين “يظهرون” على الخشبة، فالضحيّة محط التعاطف في ذات الوقت تثير الدهشة حين يتم اكتشافها والتعرف عليها، لكن ما يسعى له راو هو التقاط لحظات ضمن حكايات الضحايا، يتداخل فيها اليومي مع المأساوي، لحظات حقيقة قد يتحول فيها الموضوع إلى نكتة، أي يسعى للبحث عن اللحظة التي تظهر فيها المفارقة ورد الفعل الآني حين الأداء على الخشبة.