ثقافة التسامح مع الأموات
ليست هناك واقعة تحملك على العبث والسخرية من الحياة كواقعة الموت. فهذا العدم المطلق الذي تخاف منه يغادر ذاكرتك وأنت منشغل بالحياة، ولا تتذكره إلا بموت آخر تعرفه. الآخر المائت الذي تعرفه تخلق لديك ماهيته التي مات عليها موقفاً. حين يخطف منك العدم كائناً تحبه وتفرح بحبك له فإنك فرح مطعون.
الحزن فرح مطعون. ودرجة الحزن على من تحب وتفرح بوجوده مساوية لدرجة الحب والفرح، إن كبرت كبر وإن صغرت صغر. وإن كنت تعرف آخر فارق الحياة دون أيّ نوع من العواطف الإيجابية السلبية تجاهه، فلا حزن ولا فرح، وقد تقوم بواجب العزاء. أما إذا كنت كارهاً للمائت في حياته، أو لست على وئام معه، فيكون شعورك نحوه إما شعوراً لامبالياً، أو شعوراً متشفياً إن كنت كارهاً لعداوة خاصة، أو شعوراً ينم عن نوع من الحزن المعاتب إن كان لم يرضك سلوكه، أو شعوراً مسامحاً إذا كنت لست من أهل النفوس الغضبية
كتبتُ هذه المقدمة التي ليس فيها ما هو غير معروف لأطرح السؤال التالي: هل يجب التسامح مع المائت؟ السؤال يعني بأن موقفك من المائت ليس ودياً، وشعورك نحوه أقرب إلى الغضب منه. وإلا لما طرحنا موضوع التسامح معه. فالتسامح لا يكون إلا مع آخر قام بفعل سلبي معك، مع ما تعتقد، مع موقفك وهكذا.
ما المائت عموماً؟ مرة أخرى نقول استخدمنا ما للسؤال عن الماهية، وليس سؤالنا من الميت.
المائت هو كائن اكتملت كل ماهياته ولم يعد له وجود ليخلق ماهيات جديدة له. إنه الآن أصبح شيئاً مكتملاً، وقبره الحقيقي في وعي من يعرفونه. الموقف من الميت هو موقف من ماهياته التي خلفها وراءه. هذه الماهيات الساكنة في وعي الآخر لم تمت بموته.
صحيح بأن الماهية الأخيرة التي مات عليها الكائن هي الماهية الأكثر حضوراً في وعي الحي الذي يعرفه واتخذ منه موقفاً، لكن موته يستدعى إحضار كل ماهياته للحكم عليها.
ولما كان السؤال حول التسامح مع الميت، وهذا يعنى بأن ماهيته التي مات عليها لا تنال رضاك، فإننا لا نتحدث الآن عن الموت الفاجع الذي يخلّف حزناً قد لا يزول مدى العمر.
علينا أن نشير أولاً بأن التسامح مع الميت لا يفيد الميت في شيء، ولا يضير الميت ولا ينفعه، ولن ينجب التسامح تبديلاً لماهية الميت. كما أن عدم التسامح مع الميت لا يترك أثراً يذكر في الميت. بل إن التسامح مع الميت أو عدم التسامح مقصودهما الأحياء في مواقفهم من الراحل.
انسوا الآن أمواتكم الذين كان بينكم وبينهم علاقات خاصة، فموت هؤلاء الأفراد ليس موضوع ما نحن بصدد الحديث عنه، بل إن الحديث يدور حول الأشخاص المائتين والذين كانوا فاعلين في الحياة العامة سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً. إنهم أصحاب الحضور وترك الآثار خلفهم.
أول مشكلة تواجهنا في الجواب عن سؤال هل نتسامح مع الأموات، الأموات الذين قصدتهم سابقاً، هي أن الأحياء يختلفون في المواقف والعواطف حول الأموات الفاعلين، وهم فاعلون أحياءً وأمواتاً. وبالتالي فإن فعل التسامح إن حصل لا يكون إلا من المختلفين مع الأموات.
أتذكر حين مات أندريه ساخروف عام 1989 وهو العالم النووي السوفييتي والناشط في حقوق الإنسان، والمعاقب بالإقامة الجبرية، كتب صديقنا هادي العلوي الشيوعي اللطيف مقالا في إحدى المجلات افتتحه قائلاً “مات ساخروف وتذكرت الحديث الشريف: اذكروا محاسن موتاكم ولكن ساخروف ليس من موتانا”. قرأت المقال وضحكت، وحين التقيته قلت له ضاحكاً: من قال لك بأن ساخروف ليس من موتاكم وهو الحاصل على جائزة ستالين وجائزة لينين وبطل العمل. فأجاب مات وهو معادٍ للشيوعية. لم يتسامح هادي العلوي مع ساخروف الذي أعلن الاتحاد الأوروبي عام 1988 عن إنشاء جائزة ساخروف لحرية الفكر. الأيديولوجيا هنا كانت عائقاً أمام التسامح مع ميت لم يرتكب أي سلوك لاأخلاقي، وإنما رفض الدكتاتورية فقط.
إن أغلب القراء سيقفون إلى جانب ساخروف ولن يتسامحوا مع هادي العلوي. إذن الميت هنا موقف والعائش موقف. ليس عند هادي موقف شخصي من ساخروف، هو لا يعرفه ولم يلتق به، إن ساخروف هو فكرة. إن هادي، مع كل ما يتمتع به من أخلاق حميدة، لا يستطيع أن يكتب متسامحاً مع ساخروف، لأنه إذّاك سيكون متسامحاً مع الفكرة المناقضة لدوغمائيته الشيوعية.
إن الحقد الأيديولوجي المتبادل بين المتخاصمين أيديولوجياً لا يترك مكاناً للتسامح من الأحياء مع الميتين من كلا الطرفين. والأمثلة أكثر بكثير مما تحصى. فالصراع هنا بين الأحياء لا يأخذ طابع الصراع القيمي – الأخلاقي. بل الصراع الأيديولوجي الذي من خلائقه الحقد والتعصب للمعتقد. ويظل هذا بعد موت أحد طرفي الصراع، وموقف العائش من الميت. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، وليس من المستحب إثقال النص بشواهد معروفة.
ولكن تجب الإشارة إلى إن الوعي الحاقد الثأري عند الأحياء لا يترك أيّ إمكانية للتسامح مع خصومهم من الأموات. وخاصة الوعي الثأري الديني – الطائفي مثلاً.
فلو أخذنا ظاهرة التسمية مثالاً على ظاهرة الحقد على الأموات لأدركنا طبيعة الوعي الثأري تجاه الأموات الذين جعل منهم الخطاب الطائفي أعداء. فقصة الخلاف حول الخلافة بعد موت الرسول قصة معروفة، وقد حصلت على سرديات متعددة قد لا تكون في الغالب واقعية. فالمنتمون للمذهب الشيعي الذي ظهر في القرن الثاني الهجري في صيغته اللاهوتية لا يسمّون أبناءهم بأسماء أبوبكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد، ولا يسمّون بناتهم بعائشة. فرغم مرور أكثر من ثلاثة عشر قرنا من الزمان، فإن التسامح مع الأموات الذين تقول كتب التاريخ بأنهم اختلفوا مع علي والحسين على السلطة لم يتم حتى الآن. نحن هنا لا نتحدث عن ثقافة الأسماء عند الشعوب، بل عن ظاهرة كره الاسم بسبب المسمى.
والحق إن مسألة التسامح مع الأموات تطرح علينا في هذه الحال مسألة الحقد التاريخي المؤدلج الذي يمنع المصالحة مع التاريخ ويمنع ما أسميه الغفران الدنيوي للآخر المختلف الميت.
إن وحشي قاتل حمزة عم الرسول، كما تقول الروايات، هو عند المسلمين الآن صحابي جليل، ويوصف بسيدنا وحشي عند أهل الشام. والسبب أنه لم يمت كافراً، وحارب في جيش المسلمين في حروب الردة.
وسبب التسامح ليس أخلاقياً، وليس دينياً، إنه تسامح ناتج عن تغير كيفي في ماهية القاتل، فلقد انتقل من قاتل حمزة إلى قاتل مسيلمة. إن الحقد على قاتل حمزة والتسامح معه، هو حقد على أحياء وتسامح مع أحياء.
فلطالما أن الأحياء هم المقصودون بالتسامح أو عدم التسامح مع الأموات، فإن التسامح مع قتلة كمال جنبلاط الأموات مثلاً، هو تسامح مع كل قتلة أحياء، وكل من ينتمي إلى ماهية القاتل ومن وراء القتل.
فالمعيار الحقيقي للتسامح هو القيم وخرقها وطريقة خرقها والأهداف من خرقها. فالشعب السوري، مثلاً، يخوض معركته من أجل قيمتين عظيمتين هما: الحرية والكرامة. وبالتالي إن التسامح مع من وقف ضد نضال هذا الشعب في سبيل حريته وكرامته هو تبرير للجريمة.
والتسامح مع حركة عنصرية كالحركة الصهيونية التي طردت شعباً من وطنه، لا ينتمي إلى مفهوم التسامح أبداً، بل ينتمي إلى مفهوم الشر واستحسان الشر.
والسؤال الأخير القمين بالنظر هو: هل تتحمل أجيال حاضرة وزر جرائم أجيال سابقة قضت، ومضى على زوالها قرون من الزمن؟
الجواب لا بالطبع، إلا إذا استمرت الأجيال الجديدة على خطى الأجيال القديمة في موقفها وجرائمها.
فالفلسطيني اليوم لا يبني موقفه من الفرنسيين تأسيساً على جريمة نابليون بونابرت بحق حامية يافا بتاريخ 23 آذار عام 1799. فالفرنسي الذي ارتكب الجريمة ينتمي إلى نهاية القرن الثامن عشر.
ومع ذلك إن اعتذاراً فرنسياً من أهل الجزائر قد يساعد بلد المليون شهيد على التسامح مع الفرنسي المستعمر.
إني إذ أطرح فكرة التسامح مع الأموات في صورة السؤال فإني أتساءل أليس من الحكمة أن نعيد النظر بالموقف من الأموات وفق نظرتنا للأحياء وموقف الأموات الذين كانوا أحياء من كينونة البشر؟