نهذي لئلا نقول شيئاً.. مقتطفات من سيرة شعرية
"نحن من صلب الماضي. نصفنا اختراع والنصف الآخر ذاكرة".
(بورخيس)
إذا لم يأت الموت
أفضل للمرء أن يعيش مشردا، غريبا، منبوذا وهائما على وجهه على أن يتعفن مثل طحلب على سطح بحيرة العائلة أو يزحف مثل عضاية في مسيرة الحزب أو يمحو بصمات أصابعه وهو يحصي النقود. حين نشرت أول قصيدة كنت في سن الرابعة عشرة (حدث ذلك عام 1969)، كنت أتوقع يومها أن أموت مبكرا، غير أنني عشت إلى سن التاسعة عشرة لأكون واحدا من أربعين مبشرا بولادة قصيدة جديدة في العراق (حدث ذلك عام 1974).
حين بلغت الخامسة والعشرين أصدرت كتابي الشعري الأول “أناشيد السكون” وذلك في عام 1980. كنت بعد لم أبلغ السن الذي توقعت أنني سأموت فيه. حين قامت الحرب مع إيران لم تبق لي إلا سنة واحدة تفصل بيني وبين ذلك الخط الافتراضي للموت. يشاء القدر أن يرسلني الوطن إلى الحرب وأنا في السنة الأخيرة من عمري. يومها كتبت كتابي الشعري “الملاك يتبعه حشد من الأمراء” ليكون وصيتي وكان صديقي صاحب الشاهر قد قُتل في الحرب بعد أن نشر كتابه الوحيد “أيها الوطن الشاعري”. لم نودع الشاهر لأن الحرب أخذتنا من ثيابنا، من دفاترنا، من ملهماتنا الصغيرات، من ظلال الأشجار التي كانت تهبنا ربيعا وهميا، من الأرصفة التي كانت تودعنا بتماثيل تشبهنا، من أعمدة شارع الرشيد التي كنا نخطئ في عدها كلما حاولنا ذلك، من مقهى البرلمان الذي كنا نحسبه يطل على نهر السين. لم نكن لنغفر لأحد أنهم أخذونا إلى حرب، هي ليست حربنا. كنت على يقين يومها أن تلك الحرب لم تكن إلا ذريعة لتتحقق نبوءة الشاعر الذي كنته في سن الرابعة عشرة. ما لم أتعلمه في تلك اللحظة سيكون عليّ أن أتعلمه بعد حوالي خمسة عشر عاما. كان السبب أنني حين وصلت سن التاسعة والعشرين من عمري وكنت قد نجوت من الموت خُيل إليّ أنني نجوت نهائيا فانشغلت بمشاريع الحب، من غير أن أفكر في أن الشعر الذي وضعني على طريق نبوءة الموت كان في الوقت نفسه قد غرس في روحي أسباب الاختلاف التي ستصنع مني كائنا مستفهما، لا يرتاح إلى التسويات العامة ولا يرغب في أن يكون جزءا من كل معطل، ليس لديه ما يعترض عليه. كنت أكره لغة القطيع لذلك كتبت كتابي الشعري “لنعد يا حصاني إلى النوم”.
أزهار الشرفة نائمة
لم يكن لدى ذلك الحصان ما يقوله. كانت الرغبة في النوم مثالية في التعبير عن علاقتي بالعالم الخارجي. “سأتخلّى عن كل شيء” قلت لنفسي وأنا أعدها بتمارين على العزلة. أعانني نيتشه وأنسي الحاج ورينيه شار على فهم شيء من الطور الذي كنت أمر فيه. استرجعت يومها فكرة لطالما أثثت حواسي بضرباتها المائية “أن أكون غريبا” وهو ما ظهر لاحقا في ديوان صغير أسميته “غريب مثلي” ضمه كتابي الشعري “هواء الوشاية” الذي كتبته لاحقا في الدوحة. لقد غادرت البلد نائما من أجل أن يكون فك الارتباط جزءا من غياب سيجلب تداعياته عفويا، من غير أن يلحق الأذى بأحد. في ذلك الفجر رأيت كل شيء يسيل كما لو أنني كنت أتذكر. حيرني شعوري بالغربة عن المكان. لقد حلّ صمت هائل. صمت أحاط الشوارع والأرصفة والأشجار والجسور والمارة والذكريات والوجوه والبيت. كان كل شيء من حولي صامتا. حتى فمي، فإن جوفه خلا من الكلمات. حنجرتي فارغة وعيني فارغة وأنفي يمتنع عن الشم. كانت الروائح صامتة فيما كنت أنزلق إلى العدم. “هل عشت هنا فعلا كل تلك السنوات؟” سألت نفسي وأنا أعرف أنني ذاهب إلى لامكان. ولكن العراق لم يعد إلا مكانا لا يعد بالإقامة. لا مشي على حافة النهر ولا نزهات خيالية بين دروب السماء. سيكون كل مكان هو الارض الموعودة. لست نبيا وليس هناك شعب يقف في وداعي. سأحدث نفسي في ما بعد عن الثقوب السوداء التي كانت تلعب بين أوتار شبكية عيني. “أكنت تراها إذن؟” “كما أرى القلادة وهي تطوق جيدك” كنت ذاهبا إلى غيابي بأريحية بطل سومري. دمية الإله في جيبي وعلى شفتي بضع قطرات من النبيذ الأحمر. “انتبذوا” وهي وصية شعرية لم أتبعها إلا حين وصلت إلى أسوج. هناك فقط فهمت معنى أن يكون المرء نبيذيا. في الطريق إلى أسوج وقد استغرقت أربع سنوات كنت أفكر في الطريقة التي يكون فيها المرء عراقيا أقل. كنت أحلم أن أكون ذلك العراقي الأقل. العراقي الذي لا يحلم سوى بأن يكون أقل اكتراثا بعراقيته. ولكن ما معنى أن يكون المرء عراقيا؟ أفكر الآن في معجون الطماطم الذي كان جاري أبو روني واسمه جان فيليب يصنعه مخلوطا بالبطاطا. ولأنه كان يحدثني عن أختيه المقيمتين في الهند فقد تخيلت أن حقول المانغا التي تملكها الأختان قد نشرت رائحتها في بيته. كانت ابنته كلوديت التي عاشت جزءا من طفولتها في الهند قد حدثتني عن تلك الحقول. أسرني الرجل الذي هاجر بسبب القصف الإيراني من البصرة إلى بغداد بأن أباه كان مجندا في جيش الملكة فيكتوريا الذي غزا الهند. حين تقاعد الأب اختار أن يقيم في البصرة تاركا ابنتيه وقد تزوّجتا في الهند. جاري جان فيليب وهو البريطاني الأصل كان عراقيا أكثر مني. في أقسى الظروف التي مر بها العراق لم يفكر باستعادة جنسيته البريطانية. هو عراقي أكثر مني لأنه لم يفكر في الهروب من العراق. “لا تصدقه فهو نائم” قال لي ابنه حسام. يومها فكرت عميقا في النوم. الهند نائمة، سريري نائم وأزهار زوجتي في شرفة البيت نائمة. هل كان العلم يفيق من نومه صباح كل خميس وهو ينصت إلى صراخنا “موطني موطني”؟ بدلا منه كنت أحلم يومها في أن أكون هنديا. ربما سأكون عراقيا في مناسبات أخرى.
رمان في القارة السابعة
"سأرقص لك جوبية. وهي رقصة لا يجيدها سوى العراقيين” قلت لشرطي الجوازات في الحدود السورية ــ الأردنية وقد طالبني بإثبات هويتي العراقية بعد أن قلب أوراق جوازي الأسوجي. ولو أنه لم يضحك ووافق على عرضي لفشلت في أداء تلك الرقصة. يومها اكتشفت أن عراقيتي لم تكن سوى كذبة. الحبل الذي أعلق عليه أشباح حنيني. حين دفع جوازي إليّ قال بابتسامة تملأها المرارة “أنا من دير الزور وأفهم ما تقول” غير أن تلك الحادثة جعلتني أفكر في ما كنت أكتبه من شعر. لم يكن تفكيري في الشعر عراقيا. ذلك لأني لم أتح لنفسي فرصة أن أقع في غرام السياب. لم أقرأ من السياب في الماضي سوى القصائد التي اختارها أدونيس. تلك القصائد كانت بحق أعظم ما كتبه السياب، غير أن قراءة شعره كله هي شيء مختلف في تأثيره. وهو ما لم أفعله إلا في وقت متأخر. من عبدالوهاب البياتي لم يعجبني سوى “قمر شيراز”. شدني حسب الشيخ جعفر في قصائده المدورة وأبرزها “القارة السابعة” وهي كما أرى أعظم قصيدة عربية كتبت في العصر الحديث. لم تُكتب تلك القصيدة إلا من أجل أن يكون الشعر خالصا. القطيعة الحقيقة التي حدثت مع الشعر العربي التقليدي وقعت مع “القارة السابعة”. يومها فقط كتب العرب قصيدتهم المعاصرة. لم تكن تجارب السياب وأدونيس وخليل حاوي ويوسف الخال إلا تمارين مسرحية مهدت لولادة تلك القصيدة التي لم تكن عراقية تماما. بهذا المعني فإنني اكتشفت أنني لم أكن عراقيا ولم أحمل بين طيات ثيابي سوى روائح المطبخ العراقي. لقد خسرت فرصة تذوق المقام العراقي. بعد سنوات سأحلق مع صوت يوسف عمر وهو يغني “جلجل عليّ الرمان” لأحلم بحبات الرمان وهي تنفرط بين يدي. أما كان عليّ أن أرافق جلال الحنفي في جولته بين خانات بغداد العباسية لأنصت لحكاياته التي يمتزج فيها الخيال بالواقع؟ لقد أتيحت لي فرصة أن أنام ظهرا في مكتبة الأب أنستاس ماري الكرملي في الكنيسة التي قضى حياته راعيا فيها، من غير أن أجرؤ على سحب كتاب من رفوفها. لقد عبرت نهر دجلة بالزورق ما بين الكرخ والرصافة مرات من غير أن أتأمّل أمواجه. كانت بائعة السمك في سوق الشواكة تثير شهوتي أكثر مما يفعل السمك.
ألغام اللغة في فراديسها
لم أخبر الشاعر عبدالوهاب البياتي حين صرنا صديقين في تسعينات القرن الماضي أنني حاولت ذات يوم سرقة كتابه “الذي يأتي بعد الموت” من إحدى المكتبات وفشلت. كانت تلك المحاولة اختبارا لأعصابي ولقوة ضميري الذي انتصر عليّ في اللحظة الأخيرة. حين أعدت الكتاب إلى مكانه لم يكن صاحب المكتبة قد انتبه إلى عملية السرقة الناقصة. عبر أكثر من ثلاثين سنة من الكتابة كنت حريصا على أن أقف مترددا أمام السطر الذي يدهشني بعد كتابته. “ربما هو ليس لي. ربما هو لآخر، مكنتني لحظة الالهام من التلصص عليه” مرة أخرى أفكر بابن زريق البغدادي الذي ترك واحدته تحت المخدة ومات “لا تعذليه، فإن العذل يوجعه/قد قلت حقا ولكن ليس ينفعه”، لربما دس أحد ما تلك القصيدة تحت الوسادة التي امتزجت بأحلام ابن زريق الأخيرة. ولكن لو لم يكن خادم الخان أمينا أكان أحد قد سمع باسم الرجل القادم من بغداد إلى الأندلس ومات قبل أن يمتزج إيقاع خطواته بياسمين دروبها. شبح ابن زريق مشى بي في دروب دمشق القديمة في محاولة منه لتعويضي ما فقدته من بغداد. من الصعب عليّ اليوم استعادة مشهد الفقر الذي كنا فيه. كنا نتصفح كتب فرانكلين التي كانت تعرض للبيع في عربات الدفع بالباب الشرقي بمئة فلس للكتاب، من غير أن نقوى على شراء كتاب واحد. كنا نتبادل الكتب لكي نشبع توقنا المعرفي. الحلم الذي كان يراودني كل ليلة يتمثل في جلوسي في غرفة تغطي الكتب جدرانها. وحين قرأت أن الأرجنتيني بورخيس كان قد تخيل الجنة على هيأة مكتبة، قلت لنفسي “هو ذا حلمي القديم يتجسد في عبارة لامعة” حين حصلت على كتاب “الشعر والتجربة” لإرشيبالد مكليش كنت مستعدا لوقوع الزلزال الذي سيغير طريقتي في النظر إلى الشعر. كانت فكرته عن الانسجام الكوني قد لعبت دورا خطيرا في تطوير علاقتي باللغة. كل شيء مقابل كل شيء. لا شيء يمكنه أن يقع بمفرده. هناك علاقة خفية بين الأشياء المتنافرة يكشف عنها الشعر. الفن عموما لا يخطئ طريقه إلى الحقيقة. ولكن ما الحقيقة في الشعر؟ صدّقت ما ورد في بيان يوسف الخال حين أعلن عن موت مجلة شعر من حديث غامض عن الاصطدام بجدار اللغة. كان شاعر البئر المهجورة مخلصا في وصف الحالة التي انتهى إليها الشعر يومها. ما من شيء يهزم الشاعر مثل اللغة. فاللغة هي حقيقة الشعر. تصغر كل الحقائق بين يدي الشاعر إن وقفت اللغة إلى جانبه. غير أن ذلك الأمر لا يعني بالضرورة تمكّن الشعر من إخضاع اللغة. فاللغة لا يمكن إخضاعها أبدا. استقلالها وحريتها وتمردها وغضبها ونفورها وتعففها وزهدها وترفها وثراؤها وأناقتها وعلوّها وتساميها وشفافيتها وغموضها وعصيانها، كلها أسس تنبت على أرض غريبة. أرض يمشي الشاعر عليها كما لو أنه يجتاز حقل ألغام. “العدوّ هناك” كنت ألتقط المفردات بحذر وخفة، بسبب إحساس غامض بأن تلك المفردات ستختفي إن لم أمدّ يدي إليها وقد تنفجر بي في أيّ لحظة. في أحيان كثيرة تكون اللغة هو ذلك العدو الذي لا يجهر أحد باسمه.
خرّبت حياتي بلغة لا تنام
كانت الكتابة وطني. لذلك لم أسع إلا متأخرا ومضطرا إلى البحث عن وطن بديل للعراق الذي حين ألتفت إليه الآن لا أرى فيه سببا واحدا للسعادة. كم كنت أبله وأنا أوزع السعادات على الأصدقاء كما لو أنها بطاقات يانصيب. وبالرغم من أن الحظ لم يسعف أحدا منهم فإن الضجر لم يتمكن مني. الغريب أني لا أتذكر لحظة واحدة من عمري، شعرت فيها بالضجر. لا لأنني كنت أملك دائما ما أفعله وهو ما كان يجعل الوقت يمر مسرعا وحسب، بل وأيضا لأن الكتابة وقد أصبحت ملهمة لحياة لم تتح لي الفرصة للنظر من خلال النافذة إلى ما يقع في الخارج. أتذكر قصيدة لهنري ميشو عن رجل وامرأة يعيشان في غرفة مسدلة الستائر. حين تموت المرأة يرفع الرجل الستارة ويفتح النافذة ليكتشف أن العالم قد تغير. ربما استلهم ميشو قصيدته من حكاية أهل الكهف بطريقة معاصرة، غير أن تلك القصيدة تقع في منطقة تعبيرية مكتظة بالدلالات. يتغير العالم بعد الموت. يتغير بعد الفقدان. يتغير بعد الغياب. ليس العالم إلا مرآة. لا يشكل الوقت إلا عنصرا واحدا من العناصر العديدة التي يتألف منها زئبقها. في عمق تلك المرآة، حيث أقيم كنت أضع اللغة على ركبة فيما أضع العائلة على الركبة الأخرى. وإذا ما كانت اللغة قد أحاطت ركبتها بالفراشات فإن العائلة قد أثقلت ركبتها بكل ما يعيق ويكدّر ويحبط. لقد نظفت اللغة حقول روحي من الشياطين وملأتها ملائكة. حين اكتشفت أنسي الحاج في وقت مبكر من حياتي شغفت بالفاصلة التي تقع بين جملتين. وأيقنت أن ليس علينا أن نقول جملا لتنتهي بنقطة. النقطة هي النهاية التي لا يرغب الشعر في الوصول إليها. كان الصينيون يُعرّفون الرسام الجيد بأنه الرجل الذي يعرف متى يرفع فرشاته عن الورقة. في واحدة من لقاءاتي بأنسي وقد صرنا أصدقاء في ما بعد حدثته عن تلك الفاصلة. ضحك عميقا وقال “لقد خرّبتُ حياتك إذن” شكرته لأنه فعل ذلك. بعد وقت طويل فاجأني صديق سوري هو كريم العفنان حين أطلق على لغتي تسمية “لغة الماء”. لم أعترف له أنني عبر كل التجارب المختبرية التي خضتها كنت أسعى إلى الوصول إلى اللغة السائلة. وهي لغة لا تقع مثل حجر ولا تهبّ مثل ريح ولا تنفجر مثل لهب، بل تمرّ بخفة الماء وانسيابه. لغة يمكنها أن تزرقّ بين الثديين وتحمرّ على الخدين وتصفرّ بين الفخذين وتبيضّ على أطراف الأصابع. أما كان يسعدني أن تلك اللغة قد ساعدتني على الكتابة بيسر؟ غير مرة حاولت أن أكتب نصا بعشرة آلاف كلمة بنفس واحد ونجحت. ألا يعني ذلك كرما لغويا لا مثيل له؟ في “رأت مسافرا” وهو كتابي الشعري الذي صدر عن “الغاوون” بعد كتابي “هواء الوشاية” الذي صدر عن “دار النهضة” جرّبت لغة الكلام اليومي. وهي اللغة لتي لم يعرها الشعر العربي ما يكفي من الاهتمام، بل إنه لم يحترمها. كانت فكرتي المحلقة عن الواقع هي التي دفعتني للتفكير من خلال لغة ليست أدبية. وهي لغة لا تنام.
تلميذ الشعر بثياب الإمبراطور
حين التقيت أنسي الحاج في بيروت أول مرة خيل إليّ أنني لم أعد أؤمن بمعجزات الشعر. كان اللقاء طبيعيا كما لو أنه كان متوقعا. قلت لنفسي “هو ذا نبيك الشعري أمامك، فلمَ لا تشكر الله على هذه النعمة؟”.
لم أر في الحانة الصغيرة التي تقع في أحد أزقة شارع الحمرا ببيروت نوعا من المعبد الإغريقي. لم تحلق الملائكة فوق رؤوسنا ولم ترقص الكاهنات من حولنا ولم تضع الحوريات على مائدتنا كؤوسا طافحة بخمر الجنة.
كان الرجل الذي جلست إلى جانبه رجل حياة أكثر مما توقعت.
لم تفارقه هالته وهو يعرف كيف يحافظ عليها، غير أن وجهه كان حقيقيا، ولم يطله بأصباغ ولم يكن هناك من أثر من قناع. كل شيء فيه كان يشير إلى رقة استثنائية وعلوّ على الصغائر وتخلّ عن سوء الفهم.
كانت أناقته تتجاوز مظهره إلى الروح. من الصعب أن ينسى المرء أنه يجلس في حضرة الشاعر المتمرد حين يجلس معه، بالرغم من أن أحدا منا لم ينبس بكلمة واحدة عن الشعر. لم تكن هناك حاجة للحديث عن الشعر ما دام الشعر حاضرا من خلاله. أنسي هو القصيدة التي لم تُكتب بعد أو تلك التي كُتبت قبل أن يُخلق الشعر. ولكن الشاعر نفسه لم يكن حاضرا بسلطة ماضيه.
ذات مرة كتبت مقالة عنه من أجل أن تنشر في “ملحق النهار” فأعادها لي عقل العويط طالبا مني محو فعل “كان” منها لأن الحاج كما عرفه يكره ذلك الفعل الناقص. ليس لأنسي ماض. ماضيه هو “ماضي الأيام الآتية”. قد يؤذيه أن أقول “لقد تعلمت منه” فهو شاعر والشاعر لا يعلم. يجلس أمامك مثل تلميذ في الوقت الذي يرى النادل فيه إمبراطورا. “ليس الشعر ما يُكتب” تقول لنفسك مثلما تقول “ليس الشاعر مَن يكتب” أنسي محترف صناعة أوهام. وهو لا يستثني الإلهام من أوهامه. فالإلهام هو الآخر وهم. هناك فقط الكلمات. مجلداته الثلاثة حملت عنوانا غامضا هو “كلمات” وهي استعارة مبطنة من شكسبير. ألم يحن بعد وقت الكلمات؟
ما كتبه أنسي الحاج لا يغني عمّا لم يكتبه، وإن كان قد تفرغ في نهاية حياته لخواتمه. وهي نبوءاته التي تشيه الوصايا. شذرات تكشف اللغة من خلالها عن تفوقها على معانيها. كم كان المعجم الذي قلب أنسي صفحاته تجريديا؟ في البياض الذي يفصل مفردة عن أخرى تقع مفردته التي اخترعها لتبقى متشنجة بجمالها. لقد نفى أنسي نفسه في اللغة ومن خلال ذلك المنفى اخترع منافي شاسعة للغة.
لن يكون أنسي أبا لأحد. قصيدته الحائرة هي تفاحته التي لم تستجب لقانون الجاذبية. هي فراشته التي تزخرف بإيقاع جناحيها عيني امرأة ميتة، لا يزال جمالها يفتن الشعراء بالغزل.
جزر الشعر الخفية
لا بد من شيء من الحديث عن اللغة مادام الأمر يتعلق بالشعر. لا يكفي أن أقول إن اللغة هي كل شيء تعبيرا عن الاحتفاء بالشعر. فالشعر هو لغته. ولكن اللغة ليست الشعر تماما. للشعر لغته وهي لغة مضللة وخادعة وصامتة وقد تكون أحيانا وسيلة لتبرير الكسل والشعور بالإحباط والخيبة. لا يعالج الشعر النفس البشرية من أوجاعها. هناك الكثير من الشعر اليائس. ما تعلّمته من اللغة أنها لن تكون ملكا لي. ما من ملكية مطلقة للغة. لا أحد في إمكانه أن يقول إن اللغة فتحت له جناحيها ليطير بهما إلى المكان الخفي الذي وصل إليه. لا أبوحيان التوحيدي ولا ابن عربي ولا مارون عبود ولا جبران خليل جبران ولا أنسي الحاج. للغة مزاجها الساخر الذي يقف بيننا وبينها مثل قناع. ولكن اللغة لا تضحك. غير أن تجهمها لن يكون سببا للبكاء. نهذي في أحيان كثيرة من أجل ألاّ نقول شيئا. ربما يفعل الشعر الشيء نفسه. أما حين يفكر الشاعر من خلال اللغة فإنه يخترق زجاج النافذة بدلا من أن يفتحها بيسر. لا تصلح لغة الشعر مادة يمكن التفكير من خلالها، فهي لا تفكر. تبدو الحكمة في الشعر أشبه بمزحة ثقيلة. أضعف ما في المتنبي تلك الأبيات التي تنطوي على الحكمة. ربما هي الأبيات الأكثر شعبية. “لكل امرئ من دهره ما تعودا” غير أنها تظل في منأى عن الشعر الخالص.
ولكن ما الذي يعنيه الشعر الخالص؟ لا يتعلق الأمر بمستوى ودرجة ونوع النفعية، المتحققة أو المرتقبة. هناك في الطبيعة جمال خالص. الشجرة وهي واحدة من أهم مفردات الجمال الطبيعي الخالص يمكنها أن تكون نافعة في كل الأحوال. مثمرة كانت أم لم تكن كذلك. تضعنا الشجرة دائما في مواجهة تجدد واختلاف وتنوع أشكالها في كل لحظة نظر. يقر المرء بوجودها بسبب ما تتركه من أثر جمالي غامض في أعماق ذاكرته البصرية. يرشقنا مشهدها بضرباته الخيالية كما لو أنها لم تكن موجودة من قبل. ولكي يتمكن المرء من النظر إلى الشجرة بشكل كامل لا بد أن ينسى ولو مؤقتا تفاصيلها. يراها كاملة كيانا عاكفا على نفسه مثل صندوق سحري مغلق. لطخة خضراء على بحيرة زرقاء تسبح على سطحها بقع بيضاء هي الغيوم. هي ذي شجرة خالصة. لا معنى يقع خارج وجودها الجمالي. الشجرة هي وجودها الكلي قبل أن يتفرع ذلك الوجود إلى ممرات هوائية لا حصر لعددها. الشعر يقع هكذا. كله تماما وليس كله تقريبا. ما يقوله وما لا يقوله. ما يصمت عنه وما يضجّ به. ما يصاحبه وما يعاديه. ما يألفه وما يختلف معه. ما يصبر على فراقه وما يرافقه إلى الموت. الشعر نوع من الانحياز المضني إلى الموت. ليس في تلك العبارة نوع من التعريف. فالشعر مثل الشجرة لا يعرف إلا من قبل ذوي العقول الصغيرة. ما الموسيقى؟ ما الرياضيات؟ ما الكون؟ ما الله؟ ما اللغة؟ أهي الكلمات أم أصواتها أم أشكال حروفها أم عاطفتها أم جنونها؟
بعد كل هذا سيكون من السذاجة القول إن الشعر هو لغته. لا يُعقل أن يقول الحطاب إن الغابة هي أشجارها. علاقة الشعر باللغة هي ذاتها علاقة الغابة بأشجارها. ولكن ما موقع الشاعر في تلك العلاقة التي تبدو ملتبسة من الخارج؟
هناك شعراء كثر فائضون عن حاجة الشعر لا لشيء إلا لأنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى جوهر الشعر. أقصد اللغة. ما من شيء يصنع من المرء شاعرا سوى أن تكون له لغته. لغة الشاعر هي قاربه الذي يبحر به إلى الجزر الخفية. هناك حيث خصت الملائكة كل شاعر بجزيرة خاصة به. الشعراء الحقيقيون هم صناع لغاتهم لا مجدّدوها.
ما من شعر في الأسواق
كان مقدّرا للشعر أن يهبط من عليائه لكي يشعر بأثر خطواته على الأرض. فجأة مشى الشعراء حفاة من غير أن يخدش شيء أقدامهم. وهو ما لا يمكن توقع حدوثه إلا باعتباره معجزة. كانت معجزة الشعر خفاء معانيه. ولكني كنت أتساءل عن شيء آخر له قوة المعجزة نفسها. ما الذي يمكن أن يقع لو تخلينا عن اللغة الماكرة واستعملنا لغة الناس العاديين، لكن بقوة ثقتها بالحياة؟
“أكتب مثلما تتكلم” لم يقلها لي أحد. لقد اخترعت تلك الجملة لتكون نبراسا لي. النصيحة التي دفعت بي إلى الخوض في غمار النثر نفعتني في فهم المعادلة التي تفصل بين ما هو شعري وما هو نثري وتصل بينهما. كانت تلك الجملة تفصل لتصل وتصل لتفصل في الوقت نفسه. هناك ما هو شعري في كل علاقة. لذلك فإن النثر إن أخلص إلى اللغة فإنه سيشف عن شعر كثير.
العراقيون لم يعرفوا النثر لا لأن لغتهم سيئة بل لأنهم فصلوا بين الشعر والنثر بطريقة تنطوي على الكثير من الظلم والإجحاف. هل يُعقل أن يكون شاعر عظيم مثل السياب ناثرا سيئاً؟ بعكسه كان يوسف الصايغ. كان الصايغ ناثرا مجيدا لأنه اهتدى إلى النثر داخل الشعر من خلال اشتباكه بنشيد الإنشاد. لقد لقنني الشعر حب النثر فصرت مغرما به فيما كان أبناء جيلي لا يجيدون كتابة سطرين نثريين.
كانت فكرة أن يكتب المرء الشعر فقط تضحكني. يمشي ذلك المرء في الأسواق، بين الناس العاديين ولا يقول إلا الشعر. فكرة لا يمكن أن يقبل بها إلا المجانين. فالحياة ليست شعرا. إنها النثر في مختلف مستوياته. النثر الذي يُلهم الشعر من خلال تجليات خفية لا يراها إلا الشعراء. النثر هو الكثير الناعم أما الشعر فإنه القليل الخشن. سيغضب الشعراء مني لأنهم يظنون أن خيوط الحرير هي التي أدمت أصابعهم. سيكون صادما لو قلت إن واحدا من أهم أسباب تخلف الشعر في العراق أن الشعراء لم يتعرفوا على النثر فصار شعرهم نثرا من غير أن تكون لهم معرفة بالنثر.
لم يتعرف الشعراء العراقيون، إلا في ما ندر على لغة النثر. وهو ما حرمهم من قدر هائل من المرح والسعادة والهناء والراحة والضحك وجمال الحياة. كان كل شيء بالنسبة إليهم مقتضبا ومشدودا مثل بيت شعري، فلم تنعكس متعة العيش في أشعارهم التي كان نهارها يتعثر بكوابيس ليلها. ربما كان ذلك سببا في أني فضلت الرسامين على الشعراء من جهة العلاقة الاجتماعية. لقد سحرتني حياة الرسامين بالرغم من أنني لم أخطط يوما أن أصبح رساما.
كان للرسام رافع الناصري (1940 ــ 2013) الأثر الأكبر في ذلك القرار العظيم الذي صنع حياتي. سحره علمني أشياء كثيرة ما كان في إمكاني أن أتعلمها لو أني بقيت وفيا لتقاليد العائلة الأدبية. لقد فتح الناصري أمامي أبواب مدينة، لا أزال أنعم بنغم وقع خطواتي على أحجار دروبها التي تمتد إلى ما لا نهاية. كان رافع يهوى الشعر، غير أنه كان في الأساس من صلته في الحياة كائنا نثريا. وهو ما تعلمه من فن الحفر الطباعي. “ليست هناك مفاجآت كثيرة. غير أن المفاجأة إن حضرت فإنها تحضر في زمانها المناسب” كان ينتظر الشعر مقيما في النثر.
حفلة الذئاب الوطنية
“القصيدة البيضاء” مفهوم اخترعه عبدالحسين صنكور الذي كان يهيّئ نفسه لكي يكون ناقد شعر. كان بيان “القصيدة البيضاء” قد تصدر العدد الخاص بنا، نحن جيل السبعينات من مجلة الكلمة التي كان صدورها فاتحة ظهور الجيل الذي سبقنا. صدر ذلك العدد عام 1974 وقد ضم قصائد لأكثر من ثلاثين شاعرا كنت واحدا منهم.
هل كان حميد المطبعي وهو صاحب المجلة برغب من خلال إصدار ذلك العدد استفزاز الستينيين من الشعراء أم إنقاذ مجلته بعد أن انفضّ عنها أولئك الستينيون وكانت نصوصهم وأشعارهم مادتها منذ عددها الأول؟ شخصية المطبعي وهو كاتب قصيدة نثر تسمح بالكثير من التأويل. من المؤكد أنه كان راغبا في أن يكون مبشرا بولادة جيل شعري جديد. غير أن تعليمات الحزب الثقافية كانت يومها صارمة.
لقد كان متعارفا عليه في العراق أن يولد جيل شعري كل عشر سنوات. وهو ما لم تعرفه البلدان العربية الأخرى. ومثلما ظهر جيل الستينات في منتصف ذلك العقد فقد كان مقدرا أن يظهر جيل شعري جديد في منتصف السبعينات.
على العموم لم يكن ذلك الجيل صناعة مطبعية (نسبة إلى حميد المطبعي). كان المطبعي محترفا في مهنته فالتقط صرخة الوليد قبل الآخرين.
بعدها صار جيلنا محل صراع حزبي بين البعثيين والشيوعيين. كل طرف أخذ حصته وبقيت واقفا وحيدا في انتظار أن يلتفت أحد إليّ. أخذت مجلة “ألف باء” الأسبوعية، وهي مجلة رسمية، البعثيين واحتفت بهم وفي المقابل احتفت جريدة “طريق الشعب”، وهي لسان حال الحزب الشيوعي العراقي، بالشيوعيين.
يومها لم أكن سعيداً بذلك الإهمال. غير أنني من خلاله اكتشفت نفسي. وهو ما جعلني أستقرئ مصيري مبكّرا في حفلة الذئاب الوطنية. لم يكن لي مكان هناك. وهو ما صرت في ما بعد حريصا عليه. لست واحدا منهم.
ربما كان ذلك القرار مريجا للبعض. ذلك البعض الذي كان مأسورا بالهالات الوطنية. في 1982 أجرى جوزيف كيروز بتحريض مني حوارا مع أربعة من شعراء السبعينات العراقية هم سلام كاظم وزاهر الجيزاني وخزعل الماجدي وأنا. نشر ذلك الحوار في مجلة “الوطن العربي” التي كانت تصدر في باريس. جلب ذلك الحوار بسبب ما تضمنه من آراء صبيانية متمردة علينا نقمة الوسط الثقافي العراقي.
بعد أن هدأت الضجة كتبنا (زاهر الجيزاني وأنا) ردا هادئا بعنوان “خمسون بيضة فاسدة في سلة السبعينات” نشرته مجلة “ألف باء” بعد أن حصلت شخصيا على موافقة الشاعر سامي مهدي وكان رئيس تحريرها على ذلك. وكان الرجل صادقا في حماسته كعادته.
بعد ذلك (الرد ـــ البيان) انقطعت صلتي بشعراء جيلي وقد تكوموا على هيئة عوائل منقرضة. لم يكن لدي أمل سوى في رعد عبدالقادر الذي كنت ألتقيه منفردا. توفي عبدالقادر عام 2003. رعد عبدالقادر وكمال سبتي أخذا معهما خلاصة الشعر السبعيني في العراق حين ماتا مبكرين.
ترف الحياة في النثر
لم تذهب نصيحة الشاعر علي جعفر العلاق سدى. في سن التاسعة عشرة قرأت كتاب الناقد الأميركي أرشيبالد مكليش “الشعر والتجربة”. ضمّ الكتاب فصلا عن الفرنسي أرثور رامبو. قراءة ذلك الفصل عددا من المرات جعلتني أدرك أن الشعر يقع في مكان آخر. مكان لم تكن التقنيات التي كانت متاحة بين يديّ تيّسر لي الوصول إليه. لا أجد اليوم تفسيرا لعدم ميلي إلى شعر بدر شاكر السياب، بالرغم من أنني قرأته أولا من خلال أدونيس في مختاراته. فضلت أدونيس عليه وبالأخص في كتابيه “كتاب التحولات” و”المسرح والمرايا”. ربما لأنه كان عقدة عراقية فإني لم أكتشف السياب إلا بعد أن تحررت نهائيا من الشعر العراقي، بل ومن العراق كله. أشياء كثيرة لا يمكن تفسيرها قادتني إلى سعيد عقل الذي أعجبت ببناء جملته الصعب الذي يمطر رقة بعد أن قرأت يوسف الخال وخليل حاوي وشوقي أبو شقرا. لم تستعد القصيدة العراقية تأثيرها على مزاجي إلا حين قرأت “القارة السابعة” وهي قصيدة حسب الشيخ جعفر في كتابه “الطائر الخشبي”. “هذه هي القصيدة التي تقع في المكان الآخر” قلت لنفسي. كتب حسب قصيدته بتقنية “القصيدة المدورة” وهي تقنية كانت جديدة على الشعر العربي المعاصر. وهي قريبة من قصيدة النثر بالرغم من أنها كانت مخلصة في ايقاعاتها إلى العروض الشعري التقليدي. في ذلك الإخلاص يكمن شيء عظيم من عبقرية بنائها. كانت أشبه بالكاتدرائيات الباروكية. كل كلمة هي سنتيمتر مترف بجماله الخاص. وهو جمال ينفتح بخفة ويسر على ما يليه بعد أن انفتح على ما سبقه. منتصف سبعينات القرن الماضي حين صدر كتاب “الطائر الخشبي” وقعت صدمتي الشعرية الثانية. وهي صدمة أحدثت تحولا في فهمي للشعر. بالرغم من أنها كانت شبيهة بالصدمة الأولى من جهة كونها لم تحدث أثرا عظيما في ما كنت أكتبه من شعر. لم أكن مستعدا لكي أؤلف قصائد على غرار ما ترجم من رامبو كما فعل البعض من رفاقي وبالقوة نفسها فقد اكتفيت بمتعة قراءة حسب الشيخ جعفر. تصرف عفوي دفعني إلى التفكير طويلا في ما كنت أرغب في كتابته، مترفا بسؤال من نوع “أين يقع الشعر؟”.
في أوقات لاحقة اكتشفت أجوبة عديدة لذلك السؤال الذي لا يزال محيرا وحائرا. على الأقل عثرت على صيغة يتعايش من خلالها الشعر والنثر، ليصنعا نصا يمكن لعذوبته أن تهبني شعورا مختلفا بالحياة. وهو شعور مثالي دفع بي إلى الإفصاح عن رغبتي في مغادرة الأنواع الأدبية المتاحة لأكتب ما أريد، بالتقنية التي تصبح طريقتي في العيش. وهي طريقة صارت بسبب التنقل بين الأمكنة تتماهى مع المؤثرات البيئية التي صارت تحدث تغيرا لافتا في هويتي.
لم يعد يعنيني أن أحصل على اعتراف رسمي بكوني شاعرا بعد أن اكتشفت أن الشعر كله يقع في الكتابة. لقد أنقذتني الكتابة من الشعر. في حقيقته فإن الشعر الذي كان يُكتب يومها لم يكن ينطوي على جملة واحدة في إمكانها أن تُطلق ابتسامة أو تضع علامة استفهام بين حاجبين. كان هناك عرف شعري وكان على من يرغب في أن يكون شاعرا الالتزام بقوانين ذلك العرف. لذلك لم يظهر شعر عراقي بعد القارة السابعة باعتباره فتحا. كان هناك شعراء ولم تكن هناك شعرية. لذلك يمكنني القول إنني اكتشفت شعريتي في الكتابة. قد وهبني النص المفتوح حقولا شاسعة بشموس لا يُحصى عددها. الشعر ضروري لكي تكون اللغة متاحة. غير أن الشعر ضروري أيضا من أجل أن تكون الكتابة ممكنة.