طيب تيزيني.. الإنسان الوحش العودة إلى ما قبل التاريخ
من مواليد مدينة حمص عام 1934 حاصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1967 والدكتوراه في العلوم الفلسفية عام 1973 من ألمانيا، تم اختياره عام 1998 من قبل مؤسسة concordia الألمانية –الفرنسية واحداً من مئة فيلسوف عالمي في القرن العشرين، تتالت مؤلفات تيزيني منذ السبعينات حتى الآن، متناولا فيها النهضة العربية والتاريخ العربي وقضايا التراث والقضايا الإسلامية وعلاقتها بالتاريخ. عام 2011 شارك تيزيني في المظاهرات السلمية في دمشق أمام وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي. ولكن بعد انشقاقات الجيش رفضا لأوامر القيادة السياسية بقتل المتظاهرين السلميين، وظهور السلاح المدافع عن المظاهرات السلمية تراجع نشاطه على الأرض وتفرغ للكتابة، فماذا يكون في وسع الفيلسوف في لحظة الدم؟ هكذا تساءل تيزيني بينما هو يدخل في شرنقة المفكر بعيدا عن حريق الواقع. مجلة “الجديد” التقت الطيب تيزيني في حوار طويل وحديث عن التغيرات التي تمر بها المنطقة وسوريا خصوصا.
اللقاء مع طيب تيزيني جرى الاتفاق بشأنه معه في بيروت حيث التقيناه خلال زيارة عابرة في رحلة إلى أوروبا لحضور مؤتمر في الخارج.
تيزيني الذي يرفض مغادرة مدينته حمص بدا لي وهو يمشي في شارع الحمراء ببيروت حزيناً، كان ينظر حوله، بعينين يسابقهما الدمع لمرأى السوريين من المهجّرين على الأرصفة ثم يشرق وجهه حين يراه أحد ممّن يعرفونه، يهرول الشاب السوري نحو تيزيني ويغرقه بالسلام، ليعود المفكّر بعدها إلى حديث أشد حزنا عن الشتات السوري.
محاورة تيزيني في هذا الوقت العصيب على السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين واليمنيين والليبيين، والمصريين، بل وكل العرب تبدو مهمة صعبة. إذ نرى مفكراً لامعا بحجمه يبكي خلال حديثه، دموعه كانت تتسلل بين الكلمات، حزناً على ما آلت إليه سوريا والقتل الذي تشهده، في محيط عربي عاصف، كل هذا يجعل عاطفته تفيض.
يتحدث عن نساء سوريا اللاتي استبحن في بلدان العالم، مع ذلك نراه متفائلا، “السوريون انتشروا في كل بلاد العالم، هذا سيجعلنا شعباً أقوى، شعباً يعرف الكثير”، حين يرى الشبان السوريين يحزن أكثر، يطلب منهم أن يعودوا، ألاّ يتركوا الأرض، وقد انهار الكيان. لسان حاله يقول “ارجعوا إلى سوريا هي بحاجة إليكم”.
وعندما يطرق اسم حمص أسماعه تترقرق الدموع في عينيه. جارح حديث تيزيني عن مدينته حمص وعن المقهورين فيها من الشعب البسيط الذين فقدوا أحبتهم، تيزيني لم يغادر سوريا رغم الضغوط الذي تعرض لها من النظام، باقٍ في حمص يعيش مع أهلها ويتابع مشروعه البحثي ليل نهار.
ركّزت في أبحاثك ومؤلفاتك د. طيب على مفهوم النهضة العربيّة وعواملها، وناقشت مفهوم اللحظة المناسبة، هل ترى أن ما شهدته المنطقة العربية خلال السنوات الخمس الماضية هو اللحظة المناسبة؟ وهل هي نهضة؟ إذ أن ما حصل لم يحقق قطيعة مع الماضي من جهة، كما لم تتعاون كل أطياف المجتمع وطبقاته في سبيل تحقيقها؟ وهل يمكن واقعيا اختيار لحظة مناسبة للبدء بالتغيير؟
في الأحداث التاريخية، خصوصاً منها تلك التي قد تمثل منعطفات في التاريخ البشري، يمكن أن نضع يدنا على لحظات تظهر لنا فاعلة وحاسمة في ذلك التاريخ ضمن حقل من حقوله أو محور من محاوره، وهذا يظهر لنا، بحسب الرؤية المنهجية التي نمتلكها ونتمرس بها، أي التي نرى أنها تحقق شرائط البحث العلمي السوسيو-تاريخي.
ومن شأن ذلك كله أن يمكننا من الإحاطة بالمسألة موضوع البحث في ثلاثة من أوجهه، بنيته البسيطة أو المركبة، وسياقه التاريخي المفتوح في سابقه ولاحقه، ووظائفه المنكشفة والخبيئة إضافة إلى ما يجعل من تلك الأوجه ركيزة أو ركائز من الغايات والأهداف والمعضلات وغيرها.
المطالبة بإسقاط النظام ظهرت في المظاهرات الشبابية، بعد أن انتقل النظام السوري إلى استخدام السلاح الناري، الذي ظهر خصوصا في مجزرة “ساحة الساعة” في حمص
في ذلك كله وفي غيره من لواحق البحث، تتكون عناصر القراءة المستخدمة فيه، أو المطموح إلى اكتشافها وضبطها بصيغة اصطلاحية تسهم في اكتشاف (اللحظة المناسبة)، التي من المفترض أن تكون نقطة محورية في التساؤل والتفكيك والتركيب والاستكشاف وقد يقترن بذلك جهد آخر مفتوح، ويتمثل بمقارنات مع حالات أخرى سابقة وراهنة ومستقبلية وربما تضيء المشهد البحثي بكليّته، ووفق هذا المسار نستطيع التعرف على موضوع البحث في بنيته وسياقه وما يتصل بذلك كله.
إن تلك الثلاثية وما يتصل بها هي التي تكون موضوع البحث المعني والمجال الذي ينطوي على لحظة أو أخرى قد تجسد لحظة التخطي والانتقال إلى ما يشير إلى مرحلة جديدة، وهذه المرحلة الجديدة إذ تطرح نفسها على بساط البحث فإن حاملاً اجتماعياً جديداً بقدر أو بآخر قد أعلن عن نفسه وعن رسالته التي على المتلقي أن يكتشفها ويحفزّها على الإيضاح عن نفسها.
لا شك أن ما انطلق من تونس وسوريا منذ أكثر من أربعة أعوام، ظهر بمثابة (لحظة ما مناسبة) من تحولٍ ما لبثت رموزه وشعاراته وحيثياته تفصح عن نفسها، وتعلن أنها مُستقدمة من مستقبل ما، فالعمل والكرامة كلاهما ظهرا تعبيراً مأساوياً عن أن الإنسان المجرد من الكرامة والعمل إنما هو شمعة في حال النوسان والذبول، لكن في نمط من النوسان الذي يؤدي رسالة.
كان التراكم في مظاهر الاحتجاج على غياب الكرامة والعمل يقابله تعاظم في تراكم المزبلة، الذي ما اكتشفناه تحت مصطلح “قانون الاستبداد الرباعي” في المجتمعات العربيّة، أي الاستئثار بالسلطة والثروة وبالإعلام وبالمرجعية المجتمعية المتمثلة في أن الحزب الوحيد الحاكم يقود –مع قائده- الدولة والمجتمع، من هذا جاءت عملية التمرد على الواقع المعيشي أقل من أن تُحدث قطيعة مع الماضي المدجج بالمذلة والمهانة والإفقار والاغتراب، وأضعف من أن تواجه الحاضر بترسانته ذات الجذر المتمكن في قانون الاستبداد الرباعي ذاك.
أمّا ما مثله الوضع التونسي من انفلات نسبي من أحابيل الرباعية المذكورة، فهو استثناء نسبي صبّ في خدمة معارضة وضعت يدها على ما يسوّغه، وكذلك على ما يجعله محاصراً في الداخل والخارج، خصوصاً إذا غابت أعين الداخل التونسي عن الحذر الهائل تجاه ما قد يندلع هنا أو هناك من مخاطر ومطبات.
حقاً، جاء الحدث العربي الراهن دونما إنذارٍ مباشرٍ غالباً، أما الإنذارات غير المباشرة فقد تتالت، خصوصاً منذ دخول الولايات المتحدة إلى بغداد عام 2003، أو قد نأخذ سوريا نموذجاً لما جاء في السؤال الأول عن غياب التعاون بين مكونات المجتمع السوري في مواجهة الأحداث، التي بدأت في الشهر الثالث من عام 2011، ذلك أن النظام السلطوي في سوريا حقق حضوراً كثيفاً على أرض الواقع، ووضوحاً بارزاً على صعيد الإفصاح عن نفسه، فقد أوصل هذا النظام (الدولة الأمنية)، ربما إلى غاياتها الأكثر وضوحاً عملياً ونظرياً، حيث تحولت عملية الفساد والإفساد إلى أخطبوط شمل الجميع، إلا من رحمه ربه.
في تلك الحال، تفككت الطبقة أو الفئات الوسطى وتشظّت تحت قبضة قانون تلك الدول الأمنية المُطالب بوجوب أن يُفسد من لم يَفسد بعد، حيث يصبح الجميع ملوثين ومدانين تحت الطلب، وفي مرحلة مبكرة من نشوء هذه الدولة أطلقت مجلة دير شبيغل، الألمانية عليها اسم دولة “الملفات الأمنية”، يضاف إلى ذلك ما ظهر في المجتمع السوري من غياب بارز للطبقة البرجوازية العليا، التي فُتِتت وتحللت في مجموعات من المافيات المالية من طرف، وأُسقطت أخرى منها في منتصف المجتمع كما في قائمة من طرف آخر، فكان ذلك بمثابة ابتلاع لما كان يدعى (البرجوازية الوطنية).
من طرف آخر، كان ذلك كفيلاً بتفكيك طبقات المجتمع وفئاته الأخرى على نحو منسق ومُتدرج، حيث أفضى ذلك إلى إغلاق المجتمع على ذاته ومن ثمة غياب النوافذ الكبيرة والصغيرة القادرة على التنفيس، ولو بحدود أوّلية، وهنا جاء الانفجار السلمي، الذي ظل هكذا ستة أشهر، دونما محاولة لقراءة ما يحدث من قبل المرجعية المعنية، وبذلك، دلل الأمر على غياب أو تغييب الحكمة والعقلانية والسياسة، مع ممكنها أو ممكناتها: لقد أصبح الوضع الواقعي أقوى من كل الجهود على قلتها، والتي بُذلت تفادياً للكارثة، وأصبحت الكلمة للسلاح وأًصحابه، لا السياسيين المتمرسين.
لوحة: رندا مداح
تتضح الآن خمس نتائج محوريّة:
*غابت الكتلة التاريخية التي كانت ملاحقة ومدانة على ضعفها ومحدوديتها.
* ثم كانت في البدء انتفاضة حُرمت من السياسة والفكر السياسي الليبرالي. ومن ثمة، كان الحامل الاجتماعي مبعثراً ومنهكاً وعاجزاً أمام حضرة فئة اليافعين والشباب ومن فلول من الآخر.
*ضبابية مطلب القطيعة مع الماضي وعدم راهنيته في البدء.
*ضخامة مواجهة النظام للمنتفضين بعد الإسراع بعقد تحالفات مع دول منها إيران.
*أصبح التغيير محاصراً بحالتين: العنف غير المسوق وتسويق الانتفاضة المشروعة بوصفها مؤامرة كونية، ما أدّى إلى تدخل عسكري من قبل إيران وصنيعتها حزب الله وروسيا وآخرين.
وقد أطاح ذلك بما تكوّن على أيدي مثقفين وقلة من السياسيين ظهروا في السنوات المنصرمة، من فلول اليسار الشيوعي والبعثي وفلول التنظيمات القوميّة العربيّة، أما التيارات والتنظيمات الإسلامية بمختلف مستوياتها ودرجاتها في القوة والضعف، فقد كان عليها أن تعيش أزمات في مواقفها الإسلامية المعتدلة والمتشددة وما أتى بعد ذلك من ظاهرات دينية في غاية التشدد والوحشية وفي مقدمتها داعش.
لقد تعقد الموقف هنا، واستثمرت دول بعينها ذلك كله، وجعلت المسألة السورية ورقة مساومة على الكرامة السورية في حالات غير قليلة، وفي هذا كله برزت لحظات حاسمة متعددة، أخفقت جميعها في أن تكون حافزاً على إيجاد مثل تلك “اللحظة الحاسمة”.
وقد تركت مواقعها لمزيد من التعقيدات، خصوصاً بعد أن أصبحت المسألة المذكورة مدوّلة وقاسماً مشتركاً بين الفرقاء المتعددين، حيث راح كل منهم يبحث عن مصالحه بعناد، وظل الحدث السوري كرة تتقاذفها الأطراف المتعددة باستثناء معظم القوى السورية في الداخل.
الخطاب الغائب
الثورات/التغييرات التي تحدث الآن كانت في بدايتها وما زلت قائمة (نسبيا) على رؤى الشباب وتطلعاتهم، لكن من عمل على التنظير لها وتحقيق خطابها ينتمي إلى جيل مغاير لجيل الآن، ألا يعتبر هذا نوعا من ممارسة السلطة على الحراك الذي لم ينتج خطابه (الشاب) الخاص حتى الآن، بل ويورطه بصورة ما في إعادة إنتاج الأفكار التي تنتمي لأجيال سابقة دون أن يكون قد خاضها ممارسةً وتفكيرا؟
كنا في ما قدمناه في الإجابة عن السؤال الأول قد نوّهنا بأن الحامل المجتمعي في الكيان السوري، قد أصابته اختراقات كبيرة وذات مفاعيل عميقة في البنية وشبه شاملة في الكيان السوري، وبيّنا أن ذلك أتى تحت تأثير “الدولة الأمنية” ذات الشعار الكاسح: يجب أن يُفسد ما لم يفسد بعد، حيث يصبح الجميع ملوثين ومدانين تحت الطلب، وينبغي الآن أن نضيف بأن مفعولها انبسط على كل الخريطة السورية أولاً، وأتى في العمق عبر زمن مديد طويل، يستمر منذ عام 1963، وهو العام الذي تأسس فيه قانون الطوارئ، أما ثانياً فقد امتد لمدة أطول من نصف قرن إذ تخربطت الخريطة الطبقية، وظهرت إلى السطح حالات جديدة مع كامل هذه الخريطة، وكان من نتائج ذلك كما أشرنا، تفكك القوى المجتمعية، عبر إضعاف كل عناصرها ومكوّناتها، فمات من مات من اليسار واليمين والوسط، مع بقاء هياكله الرثة، وظلت التوجهات والحركات الإسلامية تبحث عن أماكن لها، وقد توازى ذلك مع تصاعد الفساد والإفساد والإفقار، مع مظاهر أولية من البحث عن حلول خارج الخريطة السورية الوطنية، كالطائفية والتقسيمية على أساس المذهب الديني والأصول الإثنية والعرقية والقومية وغيرها. وظهرت جموع اليافعين والشباب من الجنسين لتفصح عن طاقات نفسية شبابية وأخرى ثقافية بألوان شبه سياسية رغم أن هذه الجموع تخرجت من منظمات أنتجها النظام الأمني مثل الشبيبة والنقابات المختلفة.
هل ما يفتقده الحال العربي من خطاب مواطنة وسيادة للقانون وغيرها قابل لإعادة التشكيل في ظل النظام العولمي، وكذلك في ظل الموروث الفكري الديني والقمعي للمنطقة؟
كان لا بد لهذه الوضعية المجتمعية الجديدة أن تفرض وجودها على الجميع، وبمزيد من التدقيق يمكن القول إن الأفكار التي قادت إلى الحراك السوري في بداياته، جسّدت تغلّب ما كانت تحمله أجيال من الأفكار الإصلاحية والثورية والقومة العربية والوطنية السورية. مع ملاحظة أن القليل من ممثلي الأفكار الثورية الماركسية والأخرى القومية العربية كان ذا حضور في الخطاب الشبابي الذي طرحته جموع كبيرة من الشباب تحديداً، وربما اختلط الخطاب الإصلاحي بمجموعة من الشعارات الثورية، التي تحولت لاحقاً إلى مطالبة بإسقاط النظام، ولا بد من الإشارة إلى أن هذه المطالبة ظهرت في المظاهرات الشبابية، بعد أن انتقل النظام السوري إلى استخدام السلاح الناري، الذي ظهر خصوصا في مجزرة “ساحة الساعة” في حمص.
من هنا لا نرى أن ما طرحه خطاب الشباب في البدايات انتمى إلى منظمة الخطاب المسيّس، الذي أطلقته أجيال أخرى سابقة تنتمي إلى الماركسية الطبقية والقومية العربية والثالثة الناصرية والوطنية السورية غداة الاستقلال السوري عن فرنسا المستعمرة. نعم، لم يكن الخطاب الشبابي في البدء ناضجاً، بالاعتبار الإصلاحي الوطني، ولكنه كان حذراً وأحياناً قلقاً، وهو الآن يحقق نمواً مترافقاً مع الانتصارات والانكسارات.
لقد كانت تجربة أولية بعد استئصال الخطاب السياسي في سوريا منذ بواكير الوحدة السورية المصرية، وبموافقة عبدالناصر، لقد كلف ذلك الكثير، ويكلف الآن أكثر مع اختيار أصحاب الثراء والمصالح الكبرى السير في طريق العنف، لأن هذا الطريق يحفظ لهم ما راكموه من ثروات طوال ثلاثة أو أربعة من العقود، وأخفقت اللقاءات والمشاريع لتحقيق ما يقترب من الحل السياسي والسلمي، وظهر أن لبعض أطراف المساحة الدولية مصالح ورغبات لا تنمو برأيهم إلا عن طريق الحروب والأزمات والخصومات القاتلة.
وثمة ملاحظة تتمثل في أن ما يقال عن تورط الخطاب الشبابي الراهن في إعادة إنتاج أفكار الأجيال السابقة بدلاً من إنتاج خطاب شبابي معاصر، أمر قد لا يصح إلا جزئياً، فثمة حراك جديد يتبين في عمق الأحداث السورية، ليبعُد عما يمكن أن ننظر إليه بمثابته جهوداً غير متسقة تماماً، ولكن جدية باتجاه إنتاج خطاب شبابي جديد، يظلّ مع ذلك متواطئاً مع الخطاب السابق عليه.
وفي سبيل ضبط هذه العملية الواردة تاريخياً، يصح القول إن الأسباب التي أطاحت بنشأة الخطاب الشبابي منذ سنوات قد تصل إلى العشر كانت معقدة ومحشوّة بمنتجات “الدولة الأمنية” في وظائفها الكابحة والمفككة لوحدة سوريا القائمة على نحو ثماني عشرة طائفة.
الدين والثورة
شهدت التغيرات في المنطقة إعادة إنتاج وتكريس لنموذج العنف والقراءة الأصولية للنص الديني المتمثلة بـ(دولة الإسلام)، فالقراءة الأصوليّة للنص هي التي طغت، وكأنها الأكثر تماسكا، إلا أن هذا الخطاب لم يكن مشابها للشكل المعروف سابقا المتمثل في القاعدة التي كانت تسعى لمواجهة الخارج الغربي، بل كان هدفه الإطاحة بـ(القوى العلمانية والطواغيت الداخلية) كيف تفسر هذا التغير في أهداف القوى الأصوليّة؟ وهل ما زال بالإمكان الاعتماد على الحامل الديني الإسلامي في التغيير على اعتبار أن المنطقة يغلب عليها الطابع الإسلامي ثقافة وتقاليد؟ وهل يمكن إيجاد قراءة للنص الديني قادرة على مواكبة الظروف التاريخية والاجتماعية (الآن وهنا)؟
يلاحظ أن المسألة السورية الآن تقف أمام الجميع من الداخل والخارج، باحثة عن حلّ ديمقراطي جدير بالسوريين، لكن هذه العملية تواجه صعوبات هائلة، مع اتساع التدخلات الخارجية فيها، سواء تحدرت من روسيا وأميركا أو حزب الله وإيران.. الخ. وبدلاً من أن يمارس ذلك دوراً تحضيرياً وإيجابياً مثمراً، تحول إلى كوابح في وجه المسألة إياها. أما أخطر هذه الكوابح فربما يتجسد في تحويل تلك الأخيرة إلى جيوب من مصالح الدول المتصارعة، وإلى حوافز لإشعال النار حيثما كان.
وربما كان هذا من العناصر الهامة في تركيب المجتمع السوري، فالتوازن والتواطن المرتكز على تاريخ سوريا عريق، بالإضافة إلى الإرث الحضاري متعدد الأطياف وجغرافية طبيعية وجيوسياسية ذات أهمية بالغة.
في ذلك الوضع المعقد والمفعم بالمخاطر والمفاجآت، جاءت الانتفاضة السورية، لتمر في مرحلة يُتم، وأخرى قائمة على الاضطراب والتشويش، وثالثة، هي المعيشة الآن والمحفوفة بمخاطر التقسيم والطائفية. ورابعة تجسدها التدخلات الأجنبية في سوريا واليمن وليبيا، وخامسة وهي ليست الأخيرة تمثلت في تباطؤ الإسلاميين -إلا القليلين منهم- من أجل الوصول إلي قراءة عصرية متصاعدة ونابتة في قلب (العالم المعيش) ومن ثمة في رفض معظم رؤية العلمانية في جذرها اللغوي والمعجمي، وإصرارهم على رؤيتها مستمدة من “العلم”، مما أوقعها في فخ القصور الأيديولوجي، وأدخلها في سجالات باهتة عقيمة مع مختلف الاتجاهات الأيديولوجية والنظرية في سوريا والعالمين العربي والإسلامي.
وبسبب ذلك وغيره، طرأ تحول على الخطاب الإسلامي في سوريا، فالعمليات القاسية التي واجهت الإسلاميين في الداخل حولت النظر باتجاه الداخل السوري، بعد أن كانت المقاربة الإسلامية تقوم على ثنائية الغرب (في الخارج) والمجتمعات الإسلامية العربية (في الداخل)، وقد توغّل العنف الداخلي من قبل النظام ليس باتجاه الإسلاميين فحسب، بل تخطى ذلك إلى مواجهة الداخل السوري بطريقة عزّزت مفهوم (الحُطام العربي)، هذا الحطام الذي يتحول شيئاً فشيئاً إلى هدف أقصى، لقد تعاظمت هذه الحال، بعد أن أصبح الغرب طرفاً مباشراً من أطراف الصراع، للاستقواء به أو لمواجهته، ليس لداع أيديولوجي بالدرجة الأولى بل سياسي وعسكري كذلك.
أما إمكانية إنتاج قراء للنص الديني الإسلامي تكون قادرة على مواكبة الظروف التاريخية والاجتماعية في العالم العربي، فهذا أمر ممكن ومحتمل، وقد طُرحت هذه المسألة في أوقات مبكرة من القرن التاسع عشر وحتى قبل هزيمة 1967، فكان النتاج احتمالات إيجابية، لكن دون إنجاز ثمار بصيغة مشروع أو مشاريع ظلت ناقصة، لأن منتجيها ولّوا، دون احتضانهم من قبل حاضنة مجتمعية شاملة تنجز انتصارات على أرض الواقع، يأتي ذلك بسبب هيمنة الآخر (السلطوي) على نتائج ما تحقق إيجاباً وسلباً منذ عام 1948 وعام 1958، وفشل الوحدة المصرية السورية ثم مع هزيمة 1976، وبعدها مع سقوط بغداد واستشراء الدول الأمنية في معظم العالم العربي حتى الآن.
إن الأصولية ما زالت بارزة حتى الآن، ولكن بعد إعادة تشذيبها على نحو يظل خارج الأعماق، وخصوصاً في المراحل الأولى من الحراك المذكور، وربما نضيف إلى هذا أن المرحلة الأولى من ذلك الأخير (الحراك)، قد تخطّت زمنياً ستة أشهر قضتها في رفع شعارات سلمية تطالب بتحقيق حد من حدود الإصلاحية السياسية والاقتصادية والتعليمية خصوصاً.
لقد غابت الحكمة الاجتماعية وتصدعت السياسة بصفتها فن الممكن، ليظهر الموقف عارياً دونما رتوش، هاهنا، لاحظنا انتقالاً في الخطاب الشبابي من مرجعية أو مرجعيات أجيال سابقة إلى (ضبط النظر) في الواقع المجتمعي والسياسي والنظري، إلى حد من الحدود (مثلاً الدعوة إلى مجتمع مدني ديمقراطي ورفض حل تقسيمي أو طائفي أو آخر يقوم على الثأريّة).
رندا مداح
المجتمع المدني
التدخلات الخارجية التي شهدتها المنطقة العربية حتى الآن، خصوصاً في ظل الحروب والنزاعات العربية العربية، وسيطرة الأنظمة القمعية زعزعت مفاهيم العروبة وأكدت حضور الخطاب الإسلامي المتشدد، هل ترى أن من الممكن أن تعود ثقة (العربي) بمفهوم دولة القانون والمواطنة في ظل فشل الأشكال الحاليّة؟ وهل يمكن تجاوز الانتماءات العشائرية المذهبية علماً أنها توفر الوضعية الأكثر أماناً للفرد في ظل الخذلان الذي يشهده سواء من قبل الأنظمة السابقة والحاليّة أو الأشكال الخارجية للمعارضة؟
نعم، وفي ظل توغل الأنظمة القمعية والأمنية في العالم العربي، اتسعت رقعة الحطام في العالم المذكور، فمصر وسوريا والعراق ثم في ليبيا وتونس واليمن وغيرها، بدأت في التصدع والتآكل ضمن خط تصاعدي من الانهيارات الشاملة، وكان ذلك بمثابة الإفصاح عن الأيديولوجيا الماضوية التعزوية (الإسلامية والعروبية خصوصاً)، لتقدم نفسها بديلاً عن الخراب، عودوا إلى الإسلام النقي وإلى العروبة الصافية، إذ لا تصلح حال إلا بما يصلح جذرها وأصلها! ولم يكن أكثر من ذلك محتملاً مُحاطاً على هذا النحو بالسياقات التاريخية والبنيوية والوظيفية للأحداث التاريخية الكبرى والصغرى، وقد دلل ذلك على أن الحدث ومنهج النظر فيه، أُخرجا من التاريخ، ليتحولا إلى رقمين لا مجال لاستمرارهما. بل ينبغي القول إن منهج البحث (وهو ذو نسق ماضوي هاهنا) أطاح بالحدث، حين لفّ عليه وأخرجه من زمانه ودلالاته ومكانه، بذلك فإن ما كان محتملاً وممكناً من تناول الموضوعين الكبيرين، العروبة والإسلام، بصيغة أو صيغ جدلية (تاريخية مثلاً) غاب عن الأنظار، بالرغم من أن الثقافة الماركسية والأخرى العروبية، كانتا تملآن الأفق العربي، وإن بكثير أو قليل من الميكانيكية واللاتاريخية.
وقد ننطلق من هنا بالضبط، لنكتشف أن الممكنات العروبية والإسلامية قابلة للتحاور والتقابل والتقارب، إذا ما هيمنت دولة أو دول عربية في مجتمعات مدنية يهيمن فيها القانون والتعددية الحزبية والفكرية، جنباً إلى جنب مع منظومة التداول السلمي للسلطة واستقلال السلطات مع حراك مجتمعي مفتوح، وفي مثل هذه المجتمعات المدنية، ينبغي ألا يتحقق الأمان والحرية فحسب، بل كذلك أن تنجز ذلك عبر عناصر شتى لا تمثلها الانتماءات العشائرية، إنّما عبر قانون مدني وضمن مجتمع تهيمن فيه ديمقراطية متحركة فاعلة.
جهة العولمة
نشهد الآن مجتمع العولمة والانفتاح الهائل على البنى والسرديات المتنوعة إلا أنها لم تنتقل إلى مستوى الممارسة الفعليّة، هل ستتمكن المؤسسات المختلفة من أن تعيد تشكيل خطاب المواطنة والسيادة القانون أم أن هذه المؤسسات ستتفكك في ظل المورث الفكري (القمعي والديني) للمنطقة من جهة وأمام العولمة من جهة أخرى؟
جاءت العولمة في سياق تحولات عظمى تمّت في صلب المجتمعات الرأسمالية، ومن ضمن ذلك تبرز الدعوة إلى المابعديات- ما بعد التاريخ والحضارة والوطن والفلسفة… الخ- تلك الدعوة التي اقترنت بتأكيد أن خطاب التاريخ يتحول إلى خطاب في المطلق، فإذا كان التاريخ قد أوصل الولايات المتحدة فإنه إذ ذاك سيتماهى بها، ومن ثم، فإن من يرغب في الخطو نحو التقدم والحضارة، عليه أن يدرك ويتعلم كيف يصل إلى (القطار الأميركي) ويبدأ عالمه الجديد فيه، وخارج ذلك القرار العالمي لا تبقى إلا ملحقات طواها الزمن.
لم يكن الخطاب الشبابي في البدء ناضجاً، بالاعتبار الإصلاحي الوطني، ولكنه كان حذراً وأحياناً قلقاً، وهو الآن يحقق نمواً مترافقاً مع الانتصارات والانكسارات
وإذا كان الأمر على ذلك النحو فإن من يفوته القطار المذكور، يخرج من التاريخ عموماً وخصوصاً، في هذه الزاوية وانطلاقاً منها، يصبح التعريف بالعولمة جوهر الموقف والمسألة، إذ حين ذاك يمكن ضبط العولمة على النحو التالي: إنها النظام الاجتماعي والمالي والعسكري، الذي يبتلع الطبيعة والبشر، ويخرجهما سلعاً ومالاً، وهذا ما يدعو إلى وضع اليد على جوهر ذلك كله، فإذا كان ماركس قد وضع يده على ما يجعل من العولمة نظاماً من إنتاج الأشياء عبر تحويل الإنسان إلى حالة مشيّأة، فإن الوصول إلى المقولة التالية عبر ماركس يغدو أمراً منطقياً، كلما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان، ويأتي بوغنون في كتابه أميركا التوتاليارية، ليمنح الراهن بعداً ودلالة هائلين، في هذا الكتاب يعرف الباحث العولمة ما هي أولاً بأول، بأنها (السوق المطلقة) وعلى ذلك النحو فإن بوغنون يضع يدنا على عكس ما يأتي في السؤال من أن مجتمع العولمة إنما هو على العكس من ذلك، ما يجعلنا نشهد الآن معه الانفتاح الهائل على البنى والسرديات المتنوعة” لكن دون الانتقال إلى مستوى الممارسة الفعلية، من ثمة “هل ستتمكن المؤسسات المختلفة من أن تعيد تشكيل خطاب المواطنة وسيادة القانون” ونتابع السؤال “أم أن هذه المؤسسات ستتفكك في ظل الموروث الفكري القمعي والديني من جهة وأمام العولمة من جهة أخرى”؟
ما نراه هو أنه في ظل العولمة، يصبح كل العالم مهيأً لأن يتحول إلى أشياء وسلع ومال، وخصوصاً منها ما تراه العولمة عائقاً في وجه هيمنتها الكونية مثل مفاهيم المواطنة والقانون والهوية الإنسانية والوطنية الخ، ويبدو أن المسألة تستقيم أو يمكن أن تستقيم إذا ما طرح السؤال التالي وأجيب عنه بصيغة مفتوحة: هل ما يفتقده الحال العربي من خطاب مواطنة وسيادة للقانون وغيرها قابل لإعادة التشكيل في ظل النظام العولمي، وكذلك في ظل الموروث الفكري الديني والقمعي للمنطقة؟
مصائر اليسار
لم تقدم قوى اليسار نموذجا أو مشروعا للانتقال إلى مرحلة ما بعد الثورات، بل نراها انصاعت إما للأجندات الخارجية أو أعادت إنتاج النماذج القمعية أو تضاءلت أمام انتشار السلاح (سوريا مثلا)، هل يمكن أن نشهد مشاريع يسارية تمثل حقيقة المطالب الشعبية مع تجاوزها للانتماءات السابقة؟ وهل استمرار السلاح بأشكاله (داخلي أو خارجي) قادر على إنتاج دول أكثر حرية وعدالة؟
المشكلة القائمة على ما يمكن أن تقدمه قوى اليسار من مشاريع الانتقال إلى ما بعد الثورات القائمة، أمرٌ أصبح منصاعاً للأجندة الخارجية، أو لعملية إعادة إنتاج النماذج القمعية وإشهار السلاح، فإذا كان الأمر قد استقر على هذه الحيثيات، هل يمكن أن يكون باقياً ما يمكن أن ينجز، مثل مشاريع يسارية تحقق مطالب شعبية؟ هذا أولاً، والأطروحة التي يقدّمها، تنفي نفسها بنفسها، لا لأجندات خارجية ولا دول متحررة وقائمة على العدالة مع استمرار سلاح يقتل صاحبه.
لعبة السلاح
هل خيار الاستمرار في الفعل الثوري أو العمل الثوري السلمي قد تراجع أمام سطوة السلاح والخطاب الأصولي، وخصوصاً أن الخذلان امتد من اليمن إلى سوريا حتى المغرب العربي؟ وهل يكفي إنتاج الخطاب الثوري وإدخاله ضمن بنية مؤسساتية قادر على التغيير بعيدا عن الفعل المادي على أرض الواقع؟
أن يكون خيار الاستمرار في الفعل الثوري السلمي قد تراجع أمام السلاح والخطاب والأصولي، فإن هذا أمر حدث حقاً، وقد يبدو ذلك التراجع أمام السلاح المعني، نمطاً من التواطؤ، ولكنه في واقع الحال ليس كذلك، وإنما هو نوع من اضطراب الموقف وتعقيده، أما أن يكون إنتاج خطاب ثوري وإدغامه وظيفياً، على الأقل، في بيئة مؤسساتية حرة أو دولية، أمراً وارداً وممكناً، فهذا محتمل وعلينا في مستقبل ما أن نفعل ذلك، مراعين فيه احتمالات الأمر الواقعية، دون هوس أيديولوجي، على نحو ما حدث منذ عقود سابقة، خصوصاً في سوريا ومصر والعراق ولبنان، فقد نشأت التباسات وأخطاء قامت على التّماهي بين الفعل الثوري وبين العنف، بدعوى أن القوى المضادة أحدثت مثل تلك الالتباسات بهدف تسويغ وشرعنة ما تقوم هي به من شتى أنواع العنف ضد خصومها، وقد شاهدنا ذلك واضحا في سياق الانتفاضة السوريّة، التي ظلت ذات مسار سلمي لمدة ستة أشهر، ليأتي النظام بعدئذ ليتهم المعارضة السلمية بحمل السلاح منذ بدايات الأحداث معتقداً أنه حين يشهر سلاحه في وجهها، إنما فعل ذلك رداً على الذي وجهه هو إليها.
لقد ظهرت لعبة السلاح في الحدث السوري بعنف ربما تجاوز ذلك ما حدث في العالم العربي حتى الآن، وأحدثت بذلك سابقة غير مسبوقة، ومنذ عقود نشأت معادلة زائفة لُفقت بين الثورية والسلاح، في حين أن عقد صلة بين النظم الاستبدادية والعنف كان وما يزال أمراً مألوفاً في الأجندات التي سلكتها، وإذا كان الأمر كذلك، فإن التساؤل عما إذا كان إنتاج الخطاب الثوري وممارسته ضمن مؤسسات، يصبح أمراً وارداً ومقبولاً، حتى إذا استعدنا تجارب “ثوريّة” من العالم لتسويغ ذلك، إلا إننا لا نستطيع إنجاز هذه المهمة، لأن الواقع باحتمالاته وجيوبه ومساراته، يمكن أن يكون أكثر حضوراً وغنى في عدد أو آخر من التجارب السياسية الثورية، حيث يتعين على الباحث أن يدقق في ذلك، برؤية يقظة مفتوحة ومتحركة.
رندا مداح
القومية والانفصال
انهيار فكرة القومية العربية جعل خيار التقسيم أكثر تداولا بين المشاركين في الأفعال الثورية حاليا، وخصوصا أن الأنظمة القمعية ساهمت في تفتيت الصيغة المتماسكة للدول العربيّة إلى جانب التدخلات الخارجية، فبدأت أفكار الانتماء بالانهيار بسبب دعم طرف على حساب آخر، هل يمكن أن نشهد نشوء دول جديدة في المنطقة (كحالة جنوب السودان)؟ وهل هذه الدويلات (أو الفيدراليات) من الممكن لها أن تقدم صيغا أكثر نجاحاً من التجارب السابقة؟ أم أنها ستغرق في الحروب والصراعات المذهبية والتسليح؟
إن القول بانهيار فكرة القومية العربية لعله غير دقيق، فما حدث ربما مثّل حالة مفتوحة من التفكك، الذي أنتج مثل ذلك القول، وإنما نفضل القول بأن ثمة هزة عميقة أتت على الفكرة المذكورة وعلى العوامل المجتمعية التي تمثل حاضنة أو حاضنات لها، حقاً نحن نلاحظ اتجاهات هنا وهناك ليست بعيدة عن فكرة تقسيم سوريا، لكن دعاتها يدركون -على الأقل براغماتياً ومن ثمة حفاظاً على مصالحهم- أن تكوين دويلات سوريّة منفصلة إنما هو أمر غير قابل فعلياً للتطبيق وغير مقبول دولياً كذلك، ناهيك عن أن هذا يعني انهيار الاقتصادات الجزئية وذات الوجه الواحد الذي قد تقود إذا ما نشأت إلى كوارث اقتصادية واجتماعية، ويبقى العائق الأخير المتمثل في المجموعات والطوائف التي يُراد لها أن تنفصل عن سوريا –ربما عدى الأكراد- لكنها ترفض ذلك بمخزونها الوطني السوري والقومي العربي.
فكرة التقسيم السوري غير مقبولة من أكثرية الطوائف والأقليات، لأن الجغرافية السورية والأخرى المحيطة أي الإقليمية، لا تمثل بديلاً إيجابياً محتملاً، وإذا كانت النظم الاستبدادية قد أحدثت شروخاً وانهيارات قد تؤدي إلى إجماع في الرأي بين مجموعات انفصالية على شيء من التقسيم، إلا أن الجمهور السوري الواسع لا يحمل هذه الرغبات والميول على الأقل من موقع رفض الاستفراد به طائفياً ومذهبياً وغيره، والوضع الذي أفضى إلى انفصال الجنوب السوداني عن السودان لا ينطبق على ما نحن بصدده، وأخيرا، لعل فكرة الوحدة العربية تتعزز في سياق الصراع بين فرقاء سياسيين يمثل التقسيم جزءاً من استراتيجياتهم.
التعبير الديني
بالرغم من الاختلافات الاجتماعية والفكرية في البلدان التي شهدت الثورات وتنوعها (إن قبلنا تقسيم مشرق –مغرب)، نلاحظ أن الخطاب الإسلامي كان الأكثر حضوراً وفعالية سواء بشكله المعتدل أو المتشدد، بالتالي هل يمكن أن يبقى مصطلح “ربيع″ فاعلا في كل هذه البلدان، وهل كلمة عربي أيضا قادرة على التوصيف في ظل ظهور النزعات الأثنية للانفصال؟
نعم المسألة الدينية الإسلامية نالت مع بداية الانتفاضة السورية عام 2011 وما بعدها المساحة الأكثر حضوراً واتساعاً وتغيراً باتجاهات أكثر تشدداً واحترازاً، وإذا كانت الانتفاضة المذكورة قد أٌدخلت في محور “الربيع العربي” مع امتداد سنتين تقريباً من عمرها، فإنها بعد ذلك، ومع تصاعد الصراعات العسكرية راحت تخرج عن ذلك المحور، لتُلحق في دائرة التشدد، بتعبير آخر، ظهر الإسلام في المراحل الأولى بوصفه عقيدة شعبية غير مرتبطة بحمولات سياسية وغير مرتبط بأيدولوجيات مسيّسة، بوضوح أكبر، ظهر الدين المذكور في بدايات الموقف بمثابة دين شعبي غير مقترن بحمولات سياسية واجتماعية وأيديولوجية، على عكس ما راح يظهر لاحقاً، حيث ظهر الإسلاميون بمثابتهم مسلمين ومدافعين عن دينهم ضد خصومه، وهذا ما تزامن مع نشأة داعش التي شكلت وما تزال تشكل عبئاً على “الآخرين” من المتدينين وكذلك “المسلمين”.
وحتى تلك المرحلة، ظل الحديث عن الإسلام قائماً بمثابته دين شعب، لينتقل بعدها إلى دين لـ”إسلاميين”، هاهنا، بدأ مصطلح “ربيع عربي” يظهر غير متوافق مع “الإسلاميين الجدد ” المتشددين، وهاهنا كذلك، كانت ملامح ما يأتي لاحقا تحت مصطلح “داعش”، تعبيراً عن إقصاء مصطلح الربيع العربي، واقترابا من الإسلام المتشدد أما من أصبح عليه دفع الثمن فقد تمثل في الإسلام الشعبي والربيع العربي، والاثنان يحتملان الانطلاق يداً بيد، كما يمكن النظر إلى داعش بوصفها الوجه الآخر من الدعوة إلى النزعات الإثنية والمذهبية والطائفية ومثيلاتها.
إن تحوّل الانتفاضة إلى ثورة تحتمل الإطاحة بما قد يوصل إلى القول بـ”انتفاضة الحرامية” على حد تعبير الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، من طرف، كما يمكن التأسيس لحركة سياسية مدنية ووطنية، قد تكون مقدمة لتأسيس مجتمع ديمقراطي تنويري يحرص على مبدأ التداول السلمي للسلطة ضمن نظام سياسي برلماني (ليس رئاسياً)، يطيح باحتمالات النزاعات والصراعات الدينية والإثنية والطائفية، مع الحفاظ على الهوية العربية التنويرية الديموقراطية.
نكوص فكري
هناك عدد من المشاريع الفكرية التي حاولت قراءة العقلية العربية (حضرتك، أدونيس، الجابري)، هل كان في تصورك أنت شخصيا أنه من الممكن أن نرى عودة دولة الإسلام بمفهومها المؤسساتي والقانوني على الواقع والإعلان عن حضورها بقدرة التوحش التي نشهدها؟ وهل نحن بحاجة لنظرة جديدة في التاريخ وفي تاريخانيته بصورة أدق في ظل المفصل الذي تمر به المنطقة حالياً وخصوصاً في ظل أنتشار الدماء والخسارات والوحشيّة الفائقة للخيال؟ وهل يمكن تجاوز المعطيات السابقة (دماء، خسارات، وحشيّة) بعد أن تغلغلت في نسيج المجتمع؟
نعم لقد سجلت المرحلة الممتدة من السبعينات من القرن العشرين وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ظهور قراءات للفكر العربي وقف وراءها رجال (فقط رجال دون نساء)، تركوا آثاراً تنتظر البحث فيها والكشف عنها في سياقاتها التاريخيّة، فهذه المرحلة المديدة تتلاشى، لينشأ بديل أو بدائل عنها تتجسد في ما راح يفصح عن نفسه، مع بدايات العقد الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين الذي نعيش فيه.
لم تكن هناك احتمالات جدية لظهور إشارات تشي بإمكانية نشوء ما يمكن النظر إليه على أنه “دولة إسلامية” مؤسسة على قواعد قانونية ومؤسساتية، كان “الإسلام” يمثل أيديولوجيا نظرية أنتجت خطاباً إسلامياً، وهذا الأخير ظل قابعا في حدود الموائد والمداولات والمؤتمرات، مع الإشارة إلى أن الخطاب المذكور لم يبلغ المساحة الكبرى، التي شغلها الإسلام الشعبي-الواقعي، فظلّ (أي الخطاب) حالة نخبوية يتناولها مدرسون وتلامذة ومشايخ طرق وآخرون، كانوا يتحركون حول تلك الدوائر، أما الحديث القريب من السؤال المطروح الآن فلم يكن ذا حضور فاعل لا في المستوى الشعبي الإسلامي ولا في المستوى النخبوي الديني، من هنا، جاء التيار الفكري العربي في المرحلة المشار إليها فوق معلناً أنه يقدم نفسه بمثابة تيار نهضوي ينظر لنفسه من حيث هو امتداد لظاهرات نهضوية عربية وإسلامية في القرن التاسع عشر، لكن ثقل الواقع العربي، في وجهه الإسلامي خصوصاً، استطاع أن يستمر بمزيد من الصراع والتوتر بفضل استمرارية الخطاب الإسلامي المخفق على أرض الواقع.
مع بداية الثورات ظهر الدين بمثابة دين شعبي غير مقترن بحمولات سياسية واجتماعية وأيديولوجية، على عكس ما راح يظهر لاحقاً، وتوج بظهور داعش
لقد تجلّى ذلك في ما قدمه ثلة من المفكرين، الذين وقفوا بين سندان الإرث الإسلامي الملطخ بالكثير من الأسى والحزن والاضطراب، وبين سندان الواقع الميداني العربي المهشم، إضافة إلى التحدي الذي انطلق من الغرب بغاية التدخل والإلحاق والهيمنة، وهذا ما ظهر خصوصاً مع ظهور النظام العولمي الذي راح المبشرون به والسالكون طريقه يدعون له ويباشرون بتأسيسه، ومع هذه المخاطر المتعاظمة نشأت منظومة ما بعد الوطن وما بعد الهوية وما بين الثقافة باتجاه الوصول إلى الاندغام بركن النظام العولمي بصفته السوق المطلقة، التي تبتلع كل الأشياء لإنتاج المال والسلع، في هذه الأجواء القلقة والمضطربة ظهر أمثال المفكر المغربي محمد عابد الجابري فهذا الرجل بعد أن أوغل في البحث في تاريخ الفكر العربي عاملاً على رفع الستار عن مظاهر العقلانية والتنوير فيه، وتحت تفكيك العقل والعقلانية وكذلك تفكيك الإسلام المحتشد فيه مدافعون سلفويون مناهضون للتنوير والعقلانية والحرية الإبداعية، وقع الرجل أسيراً لا حراك فيه، لمّا كان المفكر المذكور قد أوغل في فكر “عقلاني تنويري غربي” مقابل فكر عربي “ممنوع العقل والتنوير”، على حد اعتبار أن أحد آباء الاستشراق الحديث هو إرنيست رينان، فقد وجد الرجل نفسه تحت قبضة خفية تمثلت في بنيته الذهنية الباكرة، وهي التي أعلن عنها بصفتها أساسية في تاريخه الباكر، وكذلك التي اكتشف نفسه وجودها في مراحله الأخيرة، وعلى أساسها رأى نفسه “أشعرياً”، وهذا ما تحدث عنه في بحث له.( يستحسن العودة له وهو الجابري في الصحوة الإسلامية وموقفها من الثقافة المعاصرة).
هكذا إذن، أخلى الجابري أخيراً الساحة لفكر ديني قد ينتج الظاهرة التكفيرية، التي تعشّش في مرحلتنا ضمن مساحة مترامية الأطراف، ومع المظالم والجرائم والمذابح التي ارتكبها الغرب الاستعماري “العولمي خصوصاً”، ومع ما أنتجته نظم الاستبداد والفساد والإفساد، (و خصوصاً فيما حددناه باسم الدولة الأمنية)، مع ذلك كله، بزغت الحاضنة لفكر ديني وغير ديني متشدد ومهيمن بشمول، لقد وجدنا أنفسنا أمام داعش وأمام العودة إلى مرحلة التوحش فيما قبل التاريخ الإنساني العاقل (homo sapien)، وهكذا، نجد العالم العربي الراهن حصيلة -بمعنى ما- لثنائية الداخل والخارج كليهما، خصوصاً نتيجة لشل حركات العقلانية والتنوير والتحديث مع بداية القرن التاسع عشر وحتى الآن.
أمّا أن يكون محتملاً أن يرى العالم العربي نفسه خصوصاً أمام فصل جديد من التاريخ، فهذا أمر يمكن أن يمثل حالة تتكون في رحم التاريخ المذكور ذاته، وبالتوافق مع تطورات عالمية ومحلية، هائلة وغير مسبوقة، ومن ثمة ضمن هذا الاعتبار التاريخي يظل الأمر مفتوحاً، وقد يكون ممكناً أن ما يحدث راهناً في العالم إياه، العربي وتحت تأثير الثورات والانتفاضات أو الربيع العربي، أن يتحول الدم فيه إلى مياه لا تُشرب، إلا بانتصارات هنا وهناك، ولن أتطرّق إلى مثال آخر وهو أدونيس الذي فيما يقدمه للإعلام يرى أن أحداث سوريا الراهنة ليست إلا تعبيراً عن صراعات إسلامية طائفية.
الثأر التاريخي
أما حان الوقت بالنسبة لمفكري التجديد والحداثة إجراء مراجعات فكرية لرؤاهم وخطاباتهم ومصطلحاتهم وأدواتهم في ظل اللحظة العاصفة؟ وهل غياب الجهود الملحوظة بهذا الصدد سببها عدم تطور الفكر النقدي الذي ينهض عليه وعي نقدي يتطلب باستمرار مثل هذه المراجعة؟ أم أن هناك أسبابا تاريخيّة وشخصيّة أخرى؟
بلى، حان الوقت لقيام بمراجعات نقدية كبرى، وكان على ذلك أن يطرح نفسه من قبل، لكن خطاب القتل والدم وحزّ النفوس في راهننا أصبح أكبر من أن يُتجاوز، بيد أن الجديد المهول في ذلك هو أنني أكتشف في عملي وعبره ومنذ تفجر الأحداث المفصلية العظمى في سوريا كما في العالم العربي، أن عالماً جديداً قد يكون في طور الإفصاح عن نفسه في الغرب، كما في المشرق العربي، وربما تكفي الإشارة إلى خبر تم بثه في الإعلام منذ حين، ليتضح بعض ما أعنيه، لقد أعلن أن داعش بدأ بالتسلّل إلى الغرب (أوروبا وأميركا خصوصاً) عبر قوارب صيد، حيث قد يشكل ذلك، بعد زمن، حالة قد تتوافر فيها شروط البقاء هناك والاتساع والتعمق واكتساح المجتمعات الغربيّة، ويكون الغرب على هذا النحو قد وجد نفسه أمام فاتورة تاريخيّة عليه أن يدفعها لذلك الشرق، وخصوصاً العالم العربي.
أرى أن تحولا جديدا هائلا سيأخذ مداه، حيث نتمكن في سياق ذلك من اكتشاف ما أسس لـ(الوحش الإنسان) الجديد في عصرنا، وأنا ربما أنجز عملاً من موقع هذه الإشكالية القديمة الجديدة
لقد أعلن كارل ماركس يوماً أنه كلما ارتفعت قيمة الأشياء هبطت قيمة الإنسان، وقد ظهرت ثروات عالمية هائلة يقع النظام العولمي في العمق منها، لتجعل من ذلك القول إنذاراً للبشرية جمعاء، خصوصاً الأوروبيين والغربيين عموماً، ذلك الإنذار الذي راح يعلن عن نفسه عبر ألسنة العلماء المناضلين في أوروبا وأميركا، حيث أعلن أحدهم بوضوح: العولمة هي السوق المطلقة، من شان هذا أن ينتج أحوالاً لم توجد أبداً، أما أهم هذه الأعمال فيتمثل بـ(الثأر التاريخي للعالم) الذي تحول في الشرق والجنوب وعلى امتداد التاريخ بدءاً من ظهور السوق والسلعة ومعها ظهور الاضطهاد والاستغلال واستباحة الكرامة والحرية وكل المرجعيات المتصلة بتدمير قيمة الإنسان، أي الذي أتى يوماً ليشغل “مكان أغلى الكائنات”.
هاهنا، أرى أن تحولاً جديداً هائلاً سيأخذ مداه، حيث نتمكن في سياق ذلك من اكتشاف ما أسس لـ(الوحش الإنسان) الجديد في عصرنا، وأنا ربما أنجز عملاً من موقع هذه الإشكالية القديمة الجديدة وقد يأخذ صيغة بحث مطوّل عبر اكتشاف الأسئلة الكبرى التي ينتجها ويحرض على طرحها على مرجعيات البحث العلمي التاريخي.
ما يأتي غدا
هل يمكن القول إن هناك ثقافة جديدة في طور الولادة اليوم في ما يشبه خروج الفراشة من الشرنقة، أم أن الانتفاضات العربية ما هي إلا تمزقات لا واعية في جسد الشرنقة الاجتماعية التاريخية ما يزال الفكر لم يضئ عليها لكونه لم ينخرط فيها؟ بالتالي هل الغربة بينه وبين الثورات هي غربة مستحقة؟ وهل النتائج هنا وهناك ستكون وخيمة؟
نعم إنه كذلك، خصوصاً من جانبين اثنين، الأول الممتد من بدايات التاريخ الغربي الحديث من طرف، والثاني الممتد من نهايات التاريخ المشرقي المعيش (خصوصاً في بعده الإسلامي الشرقي العربي)، بيد أن ما أراه بادئ ذي بدء يقوم على ذلك مشروطاً بتحول عميق في الشق الثاني أي العربي الإسلامي، إذ في هذه الحال، يمكن إنجاز الأمر في سياق ثورة تجتاح العالم المذكور بصيغة إسقاط العوائق والكوابح من حقلين اثنين، واحد تاريخي يتصدى للإبيستمولوجيا التاريخيّة، وآخر يضع يده على ما قد يتبلور ويبرز من أسئلة يطرحها الواقع العربي والعالمي الراهن، وهنا تنتهي المسألة كما تنتهي.
سؤال شخصي نوعا ما، لوحظ في الفترة السابقة غيابك عن التواجد على المنابر المختلفة (سواء على أرض الواقع أو المنابر الإعلاميّة)، هل بالإمكان أن يعزى ذلك إلى تواجدك داخل سوريا، أو أن هناك نوعا من التشاؤم الذي أصبت به نتيجة التغيرات التي شهدها الحراك الثوري؟
إن غيابي الراهن الملاحظ على مسرح الأحداث المباشرة في الإعلام الداخلي المباشر يحل محلّه فعل أحلته إلى أصابعي وقلمي، فأنا منهمك بنشاط كتابي واسع وبنشاط على بعض صفحات الإعلام الخارجي خصوصاً، لم أقع في تشاؤم، ولن أصل إلى هذا الموقع، وأنا الآن، أعدّ لإنجاز مجموعة من الكتب الأبحاث ما يغطّي كتاباتي وآمالي.
أجري الحوار في بيروت