خارج الكلام وخارج الصمت
“وتلزم أنت الصمت، فكثيراً ما يؤدي الكلام إلى سوء التفاهم”. هذا ما يقوله الثعلب للأمير في رواية الأمير الصغير لأنطوان دو سان أكزوبيري. لن نحتاج للكثير من إعمال الفكر لنجد أن التلازم بين الكلام وسوء الفهم دقيق إلى درجة أن الصمت يصبح الحل الأوحد في الكثير من الأحيان.
في المواقف المماثلة حيث تتطلّب الإيضاحات صياغات تعبيرية خاصة قد يجد أيّ منّا نفسه أمام أزمة غموض، إذ يصبح المرء عاجزاً مكبّل اليدين أمام ضيق ثوب اللغة على جسد الفكرة أو الإحساس المراد وصفه. فيتراوح العجز بين الشعور بأننا أسأنا التعبير وبين اعتقادنا أن اللغة لا تسعفنا إما لأنها قاصرة أو مغلقة أو أن التعبيرات التي نودّها لا تمرّ بمضائق اللغة التي نعرفها. وكحال مريضٍ لا يعرف ما الذي يؤلمه بالضبط، نترك غالباً شعور العجز أمام اللغة بعد عراكٍ قصير أو طويل، محيلين عجزنا لقصورٍ فينا أو لعدم رؤيتنا للفسحة اللامرئية للاحتمالات التي من الممكن أن تتضمنها اللغة، أو قد نشعر أننا لم نصل بعد لمرحلة تجاوز أزمة التعبير لأننا لم نعرف لها بعد من اسم أو مسبّب.
تصف هيرتا مولر الروائية الألمانية الحاصلة على النوبل عام 2009 هذه الحالة بدقة في واحدة من أعمالها الفريدة فتقول “كان يجب عليّ عدم إظهار هذا الضياع في الذهن. وعلاوة على كل هذا لم يكن في اللهجة المحلية كلمات تستوعب تلك الحالة ماعدا الصفتين ‘كسول’ لتوصيف الجزء الجسدي من الحالة و’مكتئب’ للجزء النفسي منها. وأنا لم أملك لنفسي الكلمات المناسبة، وحتى الآن لا أملك منها شيئاً. ليس صحيحاً أن اللغة تملك لكل حالة ما يصفها من كلمات. ومن غير الصحيح أيضاً أن المرء يفكر مستخدماً الكلمات. حتى هذه الأيام أفكر بأشياء كثيرة من دون كلمات، لأني لا أجد أيّ كلمة تفي بالغرض الذي أفكر به.. لا في اللغة الرومانية، لا في اللغة الألمانية الشرقية ولا الغربية، ولا في أيّ كتاب أيضاً.”
أذكر أنّي مررت في العديد من المواقف بهذا الضيق أمام اللغة، وقرأت أو سمعت نساءً غيري أحسسن بقلة الحيلة ذاتها أمام عروض اللغة الفقيرة. لما قلت نساء؟ وهل يتعلق الأمر بالنساء وحدهن؟ بالتأكيد لا، هذا العجز اللغوي قد يعاني منه أيّ منّا، ذلك أن اللغة منشئة ومتغيرة ومتوافقة مع الحد المطلوب من حاجتنا، وتأتي في خطوة لاحقة لما نفكِّر به ونعتقده. إضافة إلى أنها تُخزّن في تشكيلها مجموع الأيديولوجيات والمفاهيم والثقافة والأفكار التي شكّلتنا، وهذا بحد ذاته يُعتبر إغناءً وإفقاراً لقوانا التعبيرية على حد سواء: فنحن من نضع اللغة قيد الوجود باستعمالها وهي مَن تحدّنا وتقيّدنا من جهة ثانية بقيودها التي حُدِّدت سلفاً بمجموع أفكارنا وثقافاتنا وحاجاتنا العامة. غير أن ما أود ذكره هنا لا يتعلق بهذا العجز العام بل بنوع من النقص التعبيري فيما يخص جوانب محددة من العواطف والأحاسيس الإنسانية، إذ أجد أن ثمة حدّا من هذا العجز أمام اللغة تجسّده النساء بصفة خاصة دون أن يعرفن ما مصدر هذا اللاتطابق بين ما يودّن قوله وبين ما تعرضه اللغة من إمكانياتها عليهن. تستوقفني هذه الجزئية المتعلقة بالاستخدام الجندري للغة لأني أرى أن هناك نقصا في مخزون تعابيرنا الخاصة بالجوانب العاطفية والإنسانية والشعورية وحتى الخيالية.
اعتقد الناس لوقت طويل أن اللغة هي مجرّد ناقل ووسيلة للتعبير وأنها هنا لحاجتنا واستخداماتنا ولذا فهي حيادية، سلبية، لا تتفاعل مع أيّ من المعطيات النفسية أو الاجتماعية أو التاريخية للناطق بها. من هذا المنطلق قد يعتقد أيّ منا أن اللغة هي واحدة، لا تُغيِّر صبغتها سواء استخدمها ذكر أو أنثى، طفلٌ أو بالغ لكونها أداة للاستعمال لا أكثر ولا أقل. لكن الاتجاهات الفكرية التي تناولت اللغة بدءا من سوسير ومروراً بالبنيوية والتفكيكية أظهرت لنا أن اللغة هي الحامل الأعظم لثقافتنا وتاريخنا، ولذا فهي ليست ولن تكون حيادية بل هي مشارِكة ومؤسِّسة لحد بعيد لأفكارنا وتوجهاتنا وثقافتنا، فاللغة هي “نحن”، كما أننا “هي”.
فيما يخص العجز أمام اللغة يمكننا أن نرى أن تطوّر اللغة لعب دوراً كبيراً في تضييقها، وتوزَّعَ هذا التحديد على مراحل تاريخية طويلة تتعلق ليس فقط باللغة كأداة بل بطرق إخضاعها لتكون معبّرة عن فئة دون أخرى وفي هذا الصدد فالفئة المقصودة هي فئة الذكور ذلك أنهم وعلى مدى عقود طويلة كانوا هم أكثر من يستخدم اللغة (اللغة المكتوبة) ويحرِّكها ويسبِكها، من رجال الدين إلى الفلاسفة فالحكماء فالكتاب فالشعراء فكتبة القانون فالساسة وغيرهم. وهذا يعني من ضمن أشياء كثيرة أن اللغة أخذت الكثير من تكوينها من طرف واحد على حساب الآخر، أي أن لحم اللغة صار إلى حدٍ ما لحماً ذكرياً، وهذا يترتب عليه أن بعض أوجه التعبير الخاصة بغير الذكر فُقدت أو لم يكن لها أساساً مكاناً في اللغة المُعتَمدة وخاصة المكتوبة منها. في قلب هذه الأكثرية الذكورية للغة تبدو اللمسة النسائية ضعيفة وأقلية. وإن قلت لمسة فلا أقصد بذلك لمسة تحسين أو تجميل، بل لمسة مشاركة.
تخيل أنك في مملكة كل الكتابات فيها هي من صياغة الأطفال ومن الكلمات الخاصّة بعالمهم وتفكيرهم وخيالهم، هل يمكنك تخيل اللغة التي ستصعد خلال سنوات قليلة إلى قمة الهرم بينما تندثر كلمات أخرى هي بالضبط تلك التي لا تنتمي لعالم الطفل؟ قد يبدو المثال فانتازياً لحد كبير لكنه ليس بعيداً عن الحقيقة.
إن العالم المكتوب الذي كان حكراً على الرجل لعب دوراً في انخفاض قيمة أو أهلية أو على الأقل حضور اللغة الأنثوية. وخلق ربما هذا التراجع في اللغة الأنثوية تراجعاً حقيقياً في بعض الجوانب التعبيرية التي ربما كنا سنتلافاها لو أن الصبغة الأنثوية كانت مشارِكة جنباً إلى جنب مع الكتابة الذكرية. يُضاف إلى هذا الاستخدام الذكري المستدام للغة تمرير الثقافة الذكورية الكاملة عبرها، بوعي أو بغير وعي، مما جعل اللغة مشدودة لأوتار تقيّدها من كل الجهات.
يشير الناقد عبدالله الغذامي مستنداً إلى مفاهيم النقد الثقافي إلى أننا بحاجة لنظرة أخرى لتاريخ اللغة العربية وكتابتها الإبداعية إذ أنها تبطن عكس ما تُظهر، وما تبطنه ليست قيم الحب والتسامح والانفتاح نحو الآخر بل قيم رجعية استبدادية تحتاج منا لتفحّص وتدقيق وتصحيح، وفي إيراده لأمثلة من كبار المبدعين العرب كالمتنبي وأبي التمام وأدونيس وقباني يقول “نكتشف ما تنطوي عليه نصوصهم من أنساق مضمرة تنبئ عن منظومة طبقية/فحولية/رجعية/استبدادية، وكلها أنساق مضمرة لم تكُ في وعي أيٍّ منهم، ولا في وعي أيّ منا، ونحن وهم ضحايا ونتائج لهذه الأنساق. وظلت هذه الأنساق اللاإنسانية واللاحضارية تتسرب في ضميرنا الثقافي، دون كشف أو ملاحظة، حتى لنجد تماثلا مخيفاً بين الفحل الشعري والطاغية السياسي والاجتماعي، مما هو لبّ النسق وبؤرته غير الملحوظة. ولقد آن الأوان لممارستنا النقدية بأن تتحرك باتجاه نقد الخطاب الإبداعي، من بوابة النقد الثقافي لتكشف ما يحمله الإبداع، لا من جماليات نسلّم بها، ولكن من قبحيات نسقية لم نكن ننتبه لها.”
يضاف إلى ما سبق من أثر سبب آخر لتراجع اللغة بشقها الأنثوي ويتلخص بعدم أخذ الكتابة النسائية على محمل الجد والتي قد تكون أيضاً إحدى مفرزات “العقلنة” التي أصابت العقل الغربي لتسير باتجاه رفض كل ما ينتمي للطبيعة وللعاطفة والغريزة واعتبارها معايير سلبية، غامضة، هشة، مراوغة لا تنتج إلا الضرر والضعف. والتي كانت نتاج عمل فلسفات وأفكار رسخت لعقود طويلة منذ ديكارت على وجه أكمل أولوية العقل والعقلانية وجعلها المعيار الوحيد للحكم، فأصبح الحضور الإنساني مختَزلاً بمعرفته والمعرفة مقيدة بالفكر فقط “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. هذا التكريس للعقل لم يلقي بظلاله على المرأة فقط، بل على الطبيعة أيضاً إذ يرى العديد من المفكرين أنها بررت استخدام الطبيعة بكائناتها الحية كأشياء للاستخدام فقط وبررت العنصريات بكل أنواعها (فمبدأ كل من يمارس العنصرية هو أن الذي أدنى منه هو أدنى عقلياً وغير صالح للسيادة سواءً أكان أسوداً أو امرأة أو عبداً).
ومن نتائج هذه الأفكار التي آمنت بالعقل والعقلانية هو أنها جعلت اللغة ذاتها عقلانية أي جعلتها جافة، أحادية النظر، مجردّة وتعبر بشكل مباشر دون النظر لثقل كل أشكال التواصل التي تترافق مع اللغة فيما لو سُمح لها أن تعبر عن الجانبين الأنثوي والذكري فيها. عقلنة اللغة ربما تكون السبب في عجزنا عن التعامل مع الجوانب الداخلية فينا ذكوراً وإناثاً. وقد يجد أيّ منّا نفسه في هذا التعبير الدقيق لهيرتا مولر حين تقول “لا تتطابق المجالات الداخلية للتفكير في آلية فعلها مع اللغة، إنها تجرّك لأمكنة لا تستطيع اللغة تغطيتها. وغالباً ما يأتي الحسم حين يقف الكلام، ومع ذلك يستمر النبض المولّد لهاجس التكلم في الفعل، حينئذ يتجاوز هو الحالة دون أن ينطقها.”
لكن هل تبقى اللغة عالقة في قصورها فيما يخص الكتابة النسائية؟
بالتأكيد لا، فرغم هذا التضييق على اللغة إلا أن هناك نوعاً من الكتابة النسائية التي استطاعت، بقصد أو بعفوية، تجاوز عائق ثوابت اللغة لتعطي بالمحصلة لغة بحلة جديدة. فكلما قرأت كتابة نسائية مميزة وجادة أرى بوضوح أن العجز اللغوي يتخلخل ويتراجع أمام قوّتها، وأن ضيقها يغدو مسألة نسبية.
ما يجعل الأمر يبدو كأنه صراع داخل اللغة هو أننا نجد في كتابات هاته النسوة طريقة خاصة في التعامل مع اللغة وصياغات فريدة تثير حساسية ونشوة أمام المكتوب، فاللغة في كتاباتهن تتفجر كينابيع وتغدو كأنها أفلتت للتوّ من قيود غير مرئية. هؤلاء الكاتبات يتمكّن من جرّ اللغة لطريقٍ غير معهود، طريق أكثر من لغوي، حيث الأدوات المستخدمة فيه وإن بدت حروفاً وكلمات هي أوسع من الصيغ المُتّفق عليها في استخدام اللغة. ويستطيع القارئ من خلال حسه وتذوّقه للمادة الأدبية أن يدرك أن انبثاق المعاني والرؤى الجديدة متعلقة بحضور مميز واستثنائي للغة بحد ذاتها. من بينهن أذكر توني موريسون، دوريس ليسينغ، هيرتا مولر، إريكا يونغ، مارغريت دوراس، جورج إليوت، أليس مونرو، كارسن ماكالرز وعربياً إيمان مرسال وغيرهن ممن كتبن بحرية حقيقية في التعامل مع اللغة.
لا يعني كلامي هذا أن اللغة النسائية هي لغة جميلة، فلا علاقة لحرية تناول اللغة بجمالها، فالجمال قد يكون في كثيرٍ من الأحيان مصطنعاً، متحايلاً، مخادعاً أو ببساطة تطويعاً للغة بالإكراه لمآرب شكلية، وعلى العكس ما أستشفّه من بعض الكتابات الأنثوية هو عفوية صارخة تجعل الفاصل بين الكتابة وبين الإحساس الكامن خلفها شفافاً وواهياً. كأنهن يلملمن طرفي “الكلام” و”سوء الفهم” الذي تحدث عنه ثعلب أكزوبيري لا ليحلن عوضاً عنه الصمت بل ليقدِّمن إبداعاً هو خارج الكلام وخارج الصمت.