مآل سحري
يمكن اعتبار خضوع العالم للتقييد القسري لحرية الأفراد في التنقل والعمل والنشاط الاجتماعي، سياقا مناقضا لاشتراطات الفن المعاصر المسرف في إعلان التحرر من كل الاحترازات الفنية والعقائدية والأخلاقية والمالية، بحيث يمكن أن تبرز تعبيراته بما هي استرسال في النبرة الهجائية لعالم موبوء منذ عقود، ومأخوذ إلى النهايات، بنزعته الاستهلاكية، وتلويثه للبيئة، وتغييره لأحوال المناخ، وتحكم قيم السوق في مجتمعاته، واستعباد قدراته الخلاقة من قبل الذكاء الاصطناعي. لقد شكلت هذه الموضوعات في تجارب فنية معاصرة مختلفة منذ “فيتو كونسي” إلى “كريسيان بولتانسكي” الحقل المثالي لتمثيلات الفن المعاصر لعالم “ما بعد الحداثة” و”ما بعد القومية” و”ما بعد الحدود”، حيث شكل الانتماء إلى قاعدة المواطنة العالمية ذريعة للدفاع عن قيم موحدة تختصر أساسا في مناهضة عالم اليوم.
من هنا يتجلى وضع الأزمة الحالي، تشخيصا واقعيا لتنبؤات مجازية ورمزية للفن المعاصر، بالقدر ذاته الذي يمثل سياقا مثاليا لإعادة التفكير في القادم؛ منحوتات لوجوه تنبهق من الفراغ دون ملامح، فيديوهات لخلايا فيروسية تمشي كالكائنات الحية، لوحات مشكلة من شظايا لقى دون هوية، كائنات على هيئة رقائق حواسيب، وحواسيب بكنه جسدي، رؤوس محدبة ومربعة ومثلثة، فانتازمات لا متناهية لوضع جهنمي متفاقم، يحاكي لحظة الارتهان الحالي للبيت والتقنية ووسائط التواصل، والخوف من الموت المتدفق في الحنايا، أعمال صاعقة وحريفة وكابوسية احتضنتها أشهر عروض الفن المعاصر في السنوات الماضية، وكأنما في رؤيا نبوئية لما يحدث “هنا” و”الآن”.
وقبل سنوات عديدة أيضا كان وصف “أزمة” يكاد يختصر المجال التداولي لأعمال واقتراحات الفن المعاصر، “أزمة أداة” و”أزمة موضوع” و”أزمة معنى” و”أزمة تلقّ” و”أزمة سوق” و”أزمة قواعد”…، وكان في تمثل عدد كبير من الفنانين المعاصرين من أوروبا والولايات المتحدة إلى بلدان الجنوب الأفريقية والآسيوية، تكييف لدلالات الأزمة مع رغائب “الخروج” والتمرد، بما هو تجاوز للظلال الفكرية والأيديولوجية للمفهوم المنحاز لمعنى التوقف والارتكاس وفقدان الأفق. لذلك بدت محاولات الفنانين المعاصرين بمثابة تواتر لسلسلة من أفعال الخروج، من الجميل المتصل بالتحفة، ومن القواعد المتصلة بالفن الأكاديمي، ومن المتحف المتصل بالعرض الثابت، ومن الرواق المرتبط برهانات البيع، وفي النهاية، من الحدود التمثيلية للتشكيلي، إلى المدى المفتوح للبصري (الحسي والواقعي). وبناء على كل هذه الافتراضات يكون الحال الراهن تشخيصا بليغا وصادما للسياقات المناقضة لأحوال الفن المعاصر في عقيدته الفنية (القيد والإقامة في مقابل الحرية والخروج)، في الآن ذاته الذي تشكل فيه حصيلة الوباء الكارثية ما استشرفته رؤى الفنانين المعاصرين بخصوص مآلات العالم.
انطلاقا من هذا المعنى لا يمكن أن نرى في اللحظة الراهنة إلا ترسيخا لظلال “الأزمة” المؤبّدة للفن المعاصر، والتي باتت تمثل جزءا من هويته، حيث صار التوقف عن الوجود بين الناس والكف عن ملامسة الخارج وتصويره والارتباط به جوهر الأزمة الجديدة، وما تولّد عنها من أزمات تهدد وجوده في العمق. والشيء الأكيد أنه لا يمكن التوقف عند مقولة “تخطي التحفة المرتبطة بالبيع إلى العرض المؤقت” للوصول إلى أن الوضع الحالي لا يؤثر في تداول منتجات الفن المعاصر، خصوصا أعمال “التجهيز” و”شرائط فيديو” و”فنون الأداء” و”الصور الفوتوغرافية”..، ذلك أن الإنتاج الفني ارتبط منذ عقود في مجتمعات اقتصاد السوق بسلسلة من المانحين والداعمين من بنوك ومجموعات مالية ومقاولات، احتضنت الإقامات الفنية المنحازة لأساليب الفن المعاصر، ودعمت الأروقة المختصة في منتجاته وأسمائه، وموّلت العروض المؤقتة لأعماله، وهي المقاولات نفسها التي تجد نفسها اليوم على مشارف الكارثة.
بتعبير أوضح، وأكثر دقة، يمكن اعتبار أزمة الإنتاج الفني الراهنة جزءا من أزمة النموذج الاقتصادي للنيوليبرالية الذي أصابه الحجر الصحي في مقتل، أو كما جاء في تعليق لجوليان ستالبراس ضمن كتابه “الفن المعاصر” أن “اقتصاد الفن يعكس عن كثب اقتصاد التمويل الرأسمالي”، (ص 13) هذا الأخير الذي ينهض على قاعدة مركزية مفادها مناهضة مفهوم السلعة الخالدة والانتصار للمؤقت والمستهلك في نطاق زمن محدود. وهل عروض الفن المعاصر في أغلبها إلا انتصار لمعنى المؤقت والعرضي ومناهضة تأبيد التحفة؟
لكن هل فعلا الصورة قاتمة كما قد يلوح لأول وهلة؟ بعض المؤشرات تفيد النقيض من ذلك، ففي التاسع والعشرين من مارس الماضي، وفي ذروة انشغال العالم بأخبار استشراء الوباء ومقاومته، سُرقت لوحة لفان غوخ رسمها سنة 1884، بعنوان “حديقة دير نونن في الربيع”، كانت ضمن معروضات متحف “سانجر لارين” بهولاندا، وهي من علامات فن التحفة المقيم، المناقض لمفهوم الفن المعاصر، عن العرض العابر، المتناغم مع الأزمة الراهنة. سرقت اللوحة في ظل الإجراءات الاحترازية لمقاومة كورونا، التي اقتضت إغلاق المتحف، في غمار خطاب قيامي مستشر، ينذر بالنهايات: نهاية العولمة ونهاية الرأسمالية ونهاية الفردانية ونهاية العالم الحر. أخذت اللوحة من الملكية العمومية إلى نطاق الثروة الفردية السوداء، في الآن نفسه الذي بدأت فيه مراجعة قيم التملك الفردي لحساب تملك الدولة، يشير الحدث إلى أنه حتى في أقسى الظروف الاستثنائية لا يفقد الفن إغراءه وقيمته التداولية في السوق، ويؤكد مرة أخرى أن عقيدة الحياة المقترنة بالفن مقيمة دوما، وأن الحروب والجيح عابرة. كما يعيد البرهنة على أن القيمة الفنية لا تتغير بتغير السياقات، ما دام الفن تعبيرا قبل أن يكون رفاها أو ثروة.
فقبل أسابيع قليلة أيضا حقق مزاد “سوثبيز” بلندن المخصص للفن الحديث والمعاصر بأفريقيا والشرق أرقاما قياسية في بيع أعمال فنية من اختيارات أسلوبية متباينة، منها لوحات لكل من محمد المليحي ومحمود صبري وفريد بلكاهية بيعت بمئات آلاف الجنيهات في ذروة الأزمة المالية المقترنة باستشراء الوباء في بريطانيا. فلم يفترض المرض، يوما ما، التخلي عن العقيدة الثقافية، ولهذا حين أغلقت الأروقة والمعارض والمتاحف أبوابها، وأجلت برامج الإقامات الفنية، حافظت مواعيد فنية عديدة على برامجها ضمن الحيز الافتراضي على الشبكة، ولعل التئام معرض “آرت بازل” في موعده، وهو أحد أهم الملتقيات التجارية للفن المعاصر عبر العالم، منتقلا من “مركز هونغ كونغ للمؤتمرات” إلى الشبكة، مع ما واكبه من رواج في الزيارة والاقتناء، (حيث بيعت أعمال، لجورج بيلليتز، ولماري ويذرفور، قبل افتتاح العرض بشكل رسمي)، لأكبر دليل على أن السوق الفنية تتجاوز إرغامات الوباء.
بيد أن معنى “الأزمة” يتخطى هنا واقع ما يمكن وسمه بالمكابرة الفنية لعروض الفن المتوائم مع الثروة، إلى الخسارات المقوّضة للإطارات التي سعى الفن المعاصر إلى الخروج منها، حيث شرعت أروقة وإقامات ومجلات فنية وصالات بيع بالمزاد، في إعلان قرب إفلاسها، كما بدأت تطلب تدخل الدولة لدعم صناعتها، كشأن المؤسسات السياحية وشركات الطيران وغيرها من الصناعات والخدمات المتصلة بالثروة والرفاه، ففي النهاية تبقى “أعمال الفن المعاصر جزءا تكميليا للرأسمال الحر… وربما يبدو المكمل كشيء زائد غير ضروري، لكنه يلعب دورا في إتمامه ويتقاسم معه سماته الجوهرية” (جوليان ستالبراس، الفن المعاصر – ص 13).
في كتاب الفنانة والناقدة الفرنسية أود دو كيروس “مخاتلة الفن المعاصر” نستكشف ظاهرة قريبة مما يقع اليوم من مفارقة وجدلية خطاب الأزمة مع السوق، إثر الانهيار المالي لبنوك نيويورك سنة 2008، الذي لم يستتبعه انهيار في سوق الفن، والفن المعاصر تحديدا، تقول “ومع ذلك، نجا منتج مالي فاخر من الغرق هو: الفن المعاصر، من المسلم به أن مبيعات كريستي وكوثيبي لخريف 2008 في نيويورك كانت كارثية، ولكن الغريب أنها ارتفعت حتى مارس 2009 مرة أخرى. منذ ذلك الحين، لم يتوقفوا عن كسر الأرقام القياسية” (ص 12).
إنه مآل سحري ومفارق وغير قابل للتفسير، بيد أنه يمنح الأمل في استمرار الفن المعاصر في الوجود بما هو “فن عابر” ذو قيمة تداول مغرية ومسترسلة في الوجود.