رسائل إلى كائنات المستقبل
هل يجوز لنا منذ الآن أن نطرح السؤال عن الما بعد.. ما بعد كورونا، بينما نحن في قلب الجائحة الكبرى التي عصفت بكوكبنا؟
هل نحن في قلب عملية تغيير قسرية كبرى فرضتها وتفرضها علينا الجائحة؟ تغيير في علاقتنا بأنفسنا؟ تغيير في علاقتنا بالآخر.. الآخر قريباً وبعيداً؟
ماذا بعد أن يقال لنا، مبكراً أو متأخراً، يمكنكم الآن أن تخرجوا من عزلاتكم في البيوت هل سنكون نحن أنفسنا التي عرفناها قبل أن نلوذ بالبيوت؟ هل سيكون الشارع نفسه، والمقهى نفسه، والمطعم ومحطة الباص والقطار والسوق؟ كيف ستكون علاقتنا بالآخرين الذين ابتعدنا عنهم وابتعدوا عنا متوجّسين واحدنا من آخره؟
كيف ستكون علاقتنا بأجسادنا، وبجسد الآخر، وما مصير ذلك الهارموني التلقائي الذي يجمع هذه الأجساد في مهب الحضور الإنساني في الجوار، وتحت الأبصار؟
كيف سيكون شكل الحب؟ ما الذي سيبقى من فكرة الحب بينما الحذر ربقة تقود الكائن بعيدا عن عفويته وأريحيته الطبيعية بإزاء الآخر؟
ما الذي سيبقى منا، من طرائقنا التي اعتدنا عليها؟ من عاداتنا؟ من تلقائيتنا في التفاعل مع الآخر؟
كيف سيكون شكل عالمنا، في المستقبل؟ ما هي تصوّراتنا عن فكرة العمل في صيغها وتجلياتها الجديدة، بينما العمل مرتبط بالآخرين؟
كيف سيكون شكل التواصل والتفاعل المجتمعي في ظل علاقات القوة والضعف والخلل في المعايير؟ كيف سنعبّر عن أنفسنا كأفراد ومجاميع وقد سلبت منا فرص التجمع لأجل الاعتراض على السياسات الظالمة؟ ما هي الحقوق التي ستبقى للأفراد في المنظومة الاجتماعية، وقد غابت إمكانات تجميع الأفراد في آصرة جماعية للاعتراض؟
هل يعقل أن تتحول الجائحة إلى لحظة تساوي بين الضحية والجلاد في مجتمعات غابت عنها العدالة وسلبت فيها الحريات، وبات الخلل معها لصالح المحتل والدكتاتور والفاسد؟
ما سلف كان قطرات في محيط من الأسئلة التي أخذت تطرق أذهاننا ومخيلاتنا، بينما نحن في مواجهة تسونامي الوباء، وقد تحول إلى طوفان حمل كل كائن إلى كهف، ولا يبدو أن في العالم من الكهوف ما يكفي الجميع للنجاة من الغرق.
وفي هذا العدد من الجديد استجابات لهذه الأسئلة، بعضها أخذ شكل المقالة، وبعضها شكل الخاطرة الأدبية أو القصيدة الشعرية، وأحيانا شكل اليوميات، وغيرها كلها يمّم جهة التأملات الفلسفية.
***
وإذ تقدم “الجديد” للمعتصمين في البيوت هذه الوجبة من ثمرات العقول والأرواح، إنما تتوجه في الوقت نفسه بالتحية إلى كل من آزرها بمواصلة الكتابة، ومواصلة المغامرة الفكرية والجمالية التي بدأناها معا قبل خمس سنوات ونيف، متطوّعين لحمل شعلة الكتابة الجديدة والمبتكرة والفكر النقدي الجريء، آخذين على أنفسنا الوعد في أن نشكل معاً المنبر الأدبي والفكري العربي الجامع، وقد أقام جسراً بين المشرق والمغرب، وبين المهاجر والمنافي ومن تبقّى في الأوطان من حملة الأقلام العرب دعاة الاستنارة والحداثة والتغيير الاجتماعي.
***
بمَ نصف هذه اللحظة الكونية التي يعيشها البشر ساكنة الكوكب، ولم يسبق لأيّ منا أن اختبر بنفسه ما هو أكثر شؤماً مما نحن فيه، مما نشترك فيه. إنها لحظة قيامية، لحظة كونية تنتمي إلى دنيا الأساطير والميثولوجيات أكثر مما تنتمي إلى دنيا الحقائق المنظورة، حيث العماء يغمر الأرض، والسراب يكذّب الأمل، وحيث كرونوس يبتلع أبناءه، وأورفيوس لا يتلفت إلا ليفقد حبيبته في غموض العالم السفلي، وإيكاروس يهوي من أعالي السماء وقد تفرط جناحاه، والنسور تنهش كبد بروميثيوس سارق النار من الآلهة.
لن يفوز جلجامش بعشبة الخلود، ولن ينقذ نوح البشر جميعاً، فثمة أرواح سيأخذها الطوفان، وأقدار ستكتب في ألواح البشر الهالكين عند الأبواب، وتحت أسوار المدن الناجية، ولكن متى يظهر الطائر فوق السفين، وتنحسر أمواج الوباء، وتظهر يابسة ما بعد الطوفان؟
هذا السؤال أبسط من أن يكون سؤال المفكر، فالمفكر لا يتأمل في المصائر والمصارع بوصفها حكايات أليمة وإنما يتأمل في رمزيات الفاجعة، وفي عزمه استخراج الدلالة الحية من الجسد التالف، والفكرة المبتكرة من تلك التي تهرّأتْ. فالمفكر نذر نفسه ليكون رجل الحوار بين الأفكار، وخطابه شرفة النظر جهة المستقبل. لذلك لا يضير المفكر أن يتجرع كأس السمّ، ما دام يرى في نسيج فكره ذلك الخيط الذهبي للسؤال وهو يطرق الأبواب بحثاً عن الحقيقة.
ولكن ماذا عن سؤال الفن والفنان؟ وفي خطوطه وألوانه، تخفق قلوب، وتنبض حيوات، وتتشكل رؤى، وتتلامح تصورات؟ ظاهرة لا مثيل لروعتها تلك الجداريات المنتشرة في شوارع العالم. مرة واحدة اتّحدت جدران العالم وأجمعت على الموضوع نفسه، فما إن توارى البشر في البيوت، ولم يعودوا يظهرون حتى في الشرفات، حتى امتلأت شوارع العالم بالجداريات، وقد صحبتها الصور، صور البشر في ما يعمر نفوسهم بالأمل، ويغمر أرواحهم بالأمل، ويطفح من التفاتاتهم بالحب. زحف الغرافيتي من هوامش الحياة في المدن إلى قلب المشهد، كاسراً فراغ الشوارع برسائل البشر للبشر، ومحتلا بالأمل مدن العالم.
لكن ماذا لو كانت هذه الجداريات هي آخر ما سيتركه البشر من دليل على أن بشراً كانوا هنا، يوما، في هذه المدن الخالية من كل حياة، وقد ظهرت بعد عقود وربما قرون، كائنات أخرى قد تكون مختلفة تماما عنا، أو هي من ضلع أفراد نجوا من نسلنا البشري، وهاهم يقفون في ذلك المستقبل البعيد على بقايا تلك الرسائل والرموز، محاولين فك شيفرة النداءات التي تركها وراءهم سكان سبق أن عاشوا على سطح هذا الكوكب!
أفكار وتخيلات وهواجس كئيبة.. نعم، لكنها ليست بعيدة كل البعد عن صيرورة كارثية للمسار البشري قد تنزلق بساكنة الأرض إلى عماء تلك النهايات.
لندن في 1 حزيران/ يونيو 2020